الحج في عيون امرأتين فرّقهما قرنٌ من الزمان

نظرةٌ شخصية مقارنة بين حال النساء في الحج اليوم وما كانت عليه في ثلاثينيات القرن الماضي.

Share
الحج في عيون امرأتين فرّقهما قرنٌ من الزمان
تغيّرت ظروف الحج ومظاهره بين الأمس واليوم | خدمة غيتي للصور

قبل أن تخطو قدمي على عتبة الأربعين، وجدتُ نفسي في رحاب مكة سنة 2024. لم يدُر بخلدي يوماً أنني سأعيش تجربة الحج التي يعيشها ملايين المسلمين الزائرين البيتَ الحرام. ولفتاةٍ فقدت أباها في الطفولة ولم تتزوج، ولم تسعفها الظروف ليرافقها أخوها في رحلةٍ مماثلة، فإنَّ فرضَ وجود محرمٍ لأيّ امرأةٍ ترغب في أداء مناسك الحج والعمرة منذ سنواتٍ عديدةٍ قد حال بيني وبين هذا الحلم. تعلّمت مبكراً أن أستغنيَ عمّا لا أملك أسباب تحقيقه. ولكن جاءت الانفراجة في تغيّر سياسة الحكومة السعودية بالسماح للنساء بالحج بلا محرم. وهو ما مهّد لي الطريقَ لأداء العمرة أوّل مرّةٍ، واقتناص فرصةٍ لأداء الحج بعدها بشهورٍ قلائل.

وجدتني بحاجةٍ إلى كثيرٍ من المعرفة لأتهيّأ سريعاً لتأدية هذا المنسك العظيم. فطفقت أقرأ عن كيفية أداء هذا الفرض حتى ضِقت بالتفاصيل. فأردت أن أهرب إلى رحابة الحكمة الكامنة وراء هذا كلّه بعيداً عن إنشائيات الطقوس ومنها إلى روحانية المسعى. حاولت الارتواء بتجربة من مرّوا قبلي بهذا الدرب. فصادفتُ كتاب "رحلة الحج إلى مكة" الذي خطّته قبل أكثر من تسعين عاماً الليدي إيفيلين زينب كوبولد، وهو الترجمة العربية لكتابها "بيلغريميج تو مكة" الصادر سنة 1934.

وُلدت زينب، وهو الاسم الذي باتت تُعرف به، في اسكتلندا بداية العقد السادس من القرن التاسع عشر في كنف أسرةٍ ثريّة. وكانت أوّلَ امرأةٍ بريطانيةٍ خاضت رحلة الحج سنة 1933. بدأتُ قراءةَ الكتاب على التوازي مع مراجعة مناسك الحج، فضلاً عن الاستعداد وحزم الحقائب للرحلة المقدسة. صاحبني الكتاب في رحلتي بالحج، فكان سبباً للتأمّل والمقارنة بين الحج الذي خضته والحج الذي أتمّته الليدي كوبولد قبل قرنٍ تقريباً. وفي القلب من هذه المقاربة توجّهت بنظري إلى أحوال النساء في الحج بين الأمس واليوم، وللمساحات المتاحة لهنّ، وكيف أُديرت ضيقاً أو اتساعاً منذ ذلك الحين.


قضت زينب كوبولد سنوات طفولتها الأولى في التلال الخضراء على أطراف العاصمة الجزائرية، حيث اعتادت عائلتها حطَّ الرِحال كلَّ عامٍ، هروباً من برد أسكتلندا القارس. وفي دفء شمس الجزائر تعلّمَت اللغة العربية، ومنها بدأَت رحلتها بالتعرّف على الإسلام. تقول زينب في مذكراتها: "هناك تعلّمتُ العربية. كان الهروب من مربّيتي وزيارة المساجد مع أصدقائي الجزائريين مصدرَ سعادتي. أصبحت لا شعورياً مسلمةً بقلبي". وتضيف في موضعٍ آخَر: "غالباً ما يسألني الناس متى أصبحت مسلمةً ولماذا. لا أملك إجابةً واضحةً لأني لا أعرف اللحظة الدقيقة التي أشرق فيها إسلامي. يبدو أنني كنت مسلمةً على الدوام".

لا معلومات مؤكّدةً متى اعتنقَت كوبولد الإسلام فعلياً، لكنّها تشير في الكتاب ذاته إلى أنّها زارت روما في إحدى عطلاتها حيث التقت بابا الفاتيكان الذي سألها إن كانت كاثوليكيةً. فردّت بالقول: "أنا مسلمة".

في رحلتها إلى الديار المقدَّسة سنة 1933، حين بَلَغَت منتصفَ عقدها السادس، حطّت زينب كوبولد الرحالَ بدايةً مستقلّةً قطاراً مزدحماً من القاهرة إلى بورسعيد. ثم من بورسعيد إلى السويس، ومن ثمّ إلى باخرةٍ لتقلّها إلى ميناء جدّة الذي وصلته بعد رحلةٍ استمرّت أربعة أيام.

لم تقتصر صعوبة سفرها على الارتحال برّاً وبحراً، ولكن أيضاً بصدور التصريح لها بزيارة مكة من الملك عبد العزيز آل سعود بنفسه. الرجل الذي تصفه بالملك الجديد والقويّ الذي استطاع أن يؤمِّنَ طريقَ الحج ويوفِّرَ سبلَ الراحة للحجّاج ويوحّد الجزيرة في مملكته الوليدة. حتى وصولها جدّةَ لم تكن زينب متأكدةً من صدور هذا التصريح، لأن عدداً من الرحّالة الغربيين دخلوا سابقاً إلى مكة بدعوى أنهم أسلموا ثم عادوا وكتبوا عن رحلتهم، إمّا بنَفَسٍ استشراقيٍّ وإمّا بديباجةٍ على غرار أدب الرحلات. ولذا كان التصريح أمراً ضرورياً في بواكير نشأة المملكة، لاسيما للأجانب القادمين من دولٍ غربية. أمّا الدول الإسلامية والعربية، فلم يكن التصريح المسبق ضرورياً. بل إن ترتيبات الزيارة والإقامة تحدّدت عند الوصول مع ما يسمى "المُطَوِّف"، وهو الشخص الذي يستضيف الحجاجَ وييسّر لهم سبلَ إقامة المناسك ويقدّم خدمات المبيت والغذاء والانتقال بين مشاعر الحج.

أما إذن الحج اليوم، فقد تحوّل من معناه الرمزيّ بتلبية دعوة النبيّ إبراهيم ومن إعداد العدّة بالقدرة المالية والصحّية لأداء المناسك إلى تصريحٍ قانونيٍّ مرهونٍ بالامتثال لشروطٍ تفرضها سلطات البلد المضيف للحجّ وسلطات البلد الذي يأتي منه الحجاج.

تخضع شروط الحج وفق التعريف القانوني للتصريح، في مصر مثلاً، إلى مجموعةٍ من الشركات أو الجمعيات أو النقابات التي تيسّر الحصولَ على التصريح بالحج. وتتعلق الشروط بالكفاية المالية التي تتخطّى بأضعافٍ التكلفةَ الأساسية للسفر والمبيت والانتقال. وهنا لا بدّ للحاجّ أو الحاجّة أن يملك كفايةً ماليةً ضخمةً، عادةً لا تكون في متناول من هم في مقتبل العمر. فيصبح الحج وكأنه مقتصرٌ على كبار السنّ الذين استطاعوا ادّخار هذا المبلغ.

لذا رفض آلافٌ في موسم حج يونيو 2024 منطقَ القدرة المالية، وقرّروا الحج من غير خضوعٍ لهذه الشروط المركّبة، وسافروا في رحلةٍ أقلّ تكلفةً ليلبّوا نداء الحج بلا توفّرٍ لشروط التصريح بمعناه القانوني الذي فرضته الدول الحديثة على المسلمين.

كان من حسن حظّي أن سنحتْ لي الفرصة بتخطّي إجراءات الحج الحكومية المعقدة والطويلة في بلدي مصر. فقد حظيت باتصالٍ مباشرٍ بشركةٍ سعوديةٍ لتيسير الحج. فدفعت بمساعدتهم التكلفةَ الضروريةَ فقط، وحصلت على التصريح القانوني دون تحمّل التكاليف الإضافية التي يفرضها الوسطاء وتثقل كاهل من عزم على أداء الفريضة.

خلافاً لزينب كوبولد، اختفت في زمني كثيرٌ من مشاقّ السفر الذي كان يستغرق شهوراً في الصحراء أو بالبواخر. وبَقِيَ من المشقّة الزحام وفوضى التنظيم ومحدودية الخدمات المتاحة للعدد الكبير القادم إلى الحج. وهذا على الأقلّ ما خَبِرْتُه. ناهيك عن حرارة الطقس.


لست من المولَعين بالعبادات الجماعية، فأنا أفقد التركيز في الأماكن المزدحمة. ولذا فمشقّتي الشخصية في الحج كانت بالوجود زماناً ومكاناً مع حوالَي مليونَيْ إنسان. وإذا كانت حيلتي دوماً أن أهرب من الزحام والفوضى والأصوات المرتفعة إلى الهدوء والسكينة، فإن هذا يستحيل في أثناء الحج. كلّ الأماكن مزدحمةٌ والجميع حاضرون يؤدّون مناسكهم وينغمسون في شؤونهم، كلٌّ وفق تقاليد بلده وثقافته. كانت مشاعري بين الحجيج متضاربةً. إذ كان الحج فرصةً نادرةً لأقابل شعوباً متعدّدةً جاءت من بلادٍ ما عرفتُها سوى في نشرات الأخبار أو كتب الجغرافيا والتاريخ. وفي هذا، كما خَبِرَت الليدي زينب كوبولد، مساحةٌ يقترب فيها الحاجّ من عادات شعوبٍ أخرى يجمعه فيها أساساً راية التوحيد والشهادة. ومن هذا مدخلٌ للاطّلاع على أحوال بلادهم.

وبرزت فجوة الأخلاق والقيم والسلوكيات العامّة "بيننا وبينهم". كنت أدخل مكان الصلاة في محلّ الإقامة وأقرأ خارطة جنسيات الحاضرين للصلاة من شكل الفوضى التي تعمّ مكان الأحذية ووضعها. فإذا كانت الأحذية مرتّبةً بعيداً عن مدخل المصلّى، فكنت أعلم أن الحاضرين من ماليزيا أو إندونيسيا. وإذا كانت مكدّسةً عشوائياً وفوقها الأصوات العالية وهمهمات الحديث، أدرك أن قوماً من بني لغتي قد جاؤوا في زوبعةٍ من الفوضى للصلاة.

سؤال الفجوات الأخلاقية هذا لم يكن حاضراً في نصّ زينب كوبولد. فهي من جذورٍ غربيةٍ، عاشت سنواتٍ عديدةً في بلدانٍ عربيةٍ، لاسيما في شمال إفريقيا. لكنّها لم تشغل نفسها كثيراً بسؤال نهضة المسلمين، بل كان منظورها استشراقياً، أقرب إلى التعرّف على عادات الشرق في التنظيم الجماعي للحياة وعن مساحة النساء وعن تفاصيل حياتهنّ بين الفضائين الخاص والعام. ومن هذا المنطلق، استطاعت زينب الوصول إلى المجتمعات النسوية في المنطقة العربية. وكتبت عمّا سمّته النفوذ المهيمن للمرأة في الثقافة الإسلامية. كان شطرٌ من حواراتها مع النساء اللواتي قابَلَتْهنّ أو استضفنها أثناء رحلة الحج مرتكزاً على حقوق النساء في الغرب، وإلى أين وصلن في المجال العام من تعليمٍ وعملٍ وحقوقٍ سياسيةٍ ومدنية. ولعلّ السؤال الذي كانت تواجهه باستمرارٍ هو قيامها بهذه الرحلة بلا محرمٍ من العائلة، بل بالاستناد على صِلات المعرفة بعددٍ من الدبلوماسيين والتجار بين تركيا ومصر والمغرب وصولاً إلى جدّة.


منذ لحظة اختيار الملابس التي سأرتديها بدأت أسأل نفسي عن مساحة النساء في الحج. فالأصل في الحج هو اللون الأبيض، وهو المحبّب إليّ لما يعكسه من تجرّدٍ وبساطة. ولكن الأصل في عادات أهل مكة منذ عشرات السنوات اللون الأسود في ملابس النساء. تلك الحيرة بين الألوان حكمتها اعتبارات. منها ما أفضّله لنفسي من ألوانٍ وما تفرضه حرارة الطقس وضرورة تفادي اللون الأسود، وبين ما كان يفرضه العرف في مكة من تغطية النساء بأكثر لونٍ لا يشفّ وهو الأسود. عبّرت زينب كوبولد كثيراً عن ضيقها من اللون الأسود، وكيف كانت لا تمتثل له من حينٍ لآخَر قبل أن يذكّرها أحد رفقاء رحلتها بضرورة الامتثال لعرف البلاد التي تزورها. من حسن حظّي أنّ فرض اللون الأسود على ملابس النساء في المملكة لم يعد قائماً اليومَ مثلما كان قبل عقود. فلَم أكن لأمتثلَ لهذا الأمر. أوّلاً نبذاً لقتامة اللون ولتأثيره الحراريّ، وثانياً لتضييق حرية الاختيار بغير عذرٍ قاهر.

لا إجبار اليوم على الالتزام بلونٍ معيّنٍ لملابس النساء، ولا سؤال متواصل عن وجود المحرم، ولا تعنيف ولا حضّ مستمراً على تغطية الوجه أو ضبط الحجاب بشكلٍ محدّد. فيا عجباً كيف كان العكس هو السائد قبل أقلّ من عقدين، كما قال من أعرفهم ممّن شدّوا الرحال إلى مكة آنذاك. التنظيم الجيّد والمنضبط في مختلف فقرات الحج كان مرتبطاً جوهرياً بوجود موظفاتٍ في تسيير هذه الفقرة وإدارتها.

فكّرت وأنا أقرأ نصّ كوبولد بأنّ النساء اللواتي قابلتهنّ زينب كنّ يَقمْن على خدمة الحجيج في المجال الخاصّ فقط، أي في نزل الاستضافة حيث توجد نساء. بينما من قابلتُهنّ كنّ في كلّ المواقع. بدايةً من استقبال الحجيج في المطار ثمّ الإسكان بالفنادق والمعسكرات وصولاً إلى تنظيم الدخول إلى المسجد النبويّ والخروج منه. فئةٌ أخرى عاينتُها كنّ نساءً قائماتٍ على سقاية الحجيج (الصبّابات)، وأخريات يوزّعن القهوة العربية نفّاذة الرائحة أو رشفاتٍ من ماء زمزم. وقع في خاطري أنّ النساء اللواتي التقَت بهنّ زينب قبل نحو قرنٍ لم يكنّ يتصوَّرن أنّ حفيداتهنّ سيَقمْن فيما بعد على تيسير رحلة الحجيج ويصبحن فاعلاتٍ أكثر في مجتمعهنّ على نحوٍ أضاف كثيراً إلى حقوقهنّ ومساحتهنّ في المجال العام. 

سؤال المساحة يمتدّ أيضاً لإدارة صحن الكعبة نفسه. ربما وحده الطواف يسمح بالمساواة الكاملة في المساحات، إذ يُعتمَد في تحديد المساحة على العدد الحاضر كي يملأها. ولكن في المقابل، تجد من يطوف في جماعاتٍ ودوائر يجعل الرجالَ على أطراف الدائرة والنساءَ في منتصفها حمايةً لهنّ من تدافع مجموع الطائفين. تبدو الفكرة محمودةً نظرياً لمن هم في قلب الدائرة. ولكن لمن هم خارجها، فإن هذه الدوائر كفيلةٌ بإحداث تدافعٍ وإرباكٍ في حركة الطواف. لاسيما إذا انتهى طواف الدائرة وقرّروا الخروج فجأةً من المسار.

وفي الطواف أيضاً وجدت نفسي واقعةً في دائرة الانجذاب التام. لا أَبرح أدنو من الكعبة كلّما سمحت المساحة وحركة الحجيج، فلا يشغلني الزحام أو رهبة التدافع. وكأنّها طاقةٌ علويةٌ تجذب الحاجّ فتحجبه عمّا يلاقيه من مشقّةٍ في حركة الطواف. وهنا تَستحضر زينب كوبولد البعدَ الروحانيَّ للطواف. فتقول إنّه "رمزٌ للحبيب الذي يدور حول بيت حبيبه مسلماً نفسَه وكلَّ ما يبتغيه في سبيل من يحبّ". وتردف أنّ "من يطوف يكون في حالة وَجْدٍ ينادي ويدعو الله"، مع إسلامِ النفس إلى المحبوب.

أمّا في السعي بين الصفا والمروة، فكلٌّ يسعى في المساحة نفسها بلا فصلٍ بين المسارات. غير أنّ الرجال مأمورون بالإسراع في المشي أو الهرولة. وذلك في استعادةٍ لهرولة السيدة هاجر، اقتفاءً لأثر أمٍّ تبحث لرضيعها عن الماء. وكلّ هذه المساحة كانت لها وحدها ذات يومٍ قبل أن تهفو القلوب لهذه البقعة ويعَمِّر الحجيج هذا المكان.

سؤال ضبطِ المساحات بين الجنسَيْن في الحج بدا جليّاً أيضاً في المرافق الحيوية. وُضِعَت لوحاتٌ كبيرةٌ تشير لتخصيص نصف دورات المياه للنساء عند كلِّ مدخل. ولكن اجتاح بعض الرجال مساحةَ النساء مراراً. وعندما كنت وغيري نحاول تنبيهَهم أنّ المساحة مخصّصةٌ للنساء، كان يأتينا الردّ أحياناً بأن "لا جدال في الحج" أو "لا يجوز لامرأةٍ أن ترفع صوتها على رجل". تساءلت، وهل يجوز لرجلٍ أن ينتهك حرمة المساحة المخصصة للنساء؟ لم تخض زينب كوبولد مثل هذه المعركة في رحلتها، فنظرتها الاستشراقية كانت تنحصر في أن الإسلام كرّم المرأة. وعليه شَغَلَها ردّ الاعتبار للنساء الشرقيات اللاتي صوّرَتهنّ السرديات الغربية مسجوناتٍ في نطاق "الحريم". شرحت زينب رؤيتها لمفهوم "الحريم" على أنه أقرب للصومعة لا السجن، وفي هذا إيحاءٌ بالحماية. وتوسّعَت في شرح حقوق النساء التي كانت مهضومةً ثمّ ردّها الإسلام إليهن. ومن ذلك حقوق الميراث والملكية الخاصة والذمّة المالية المنفصلة.

ترى زينب أنّ احترام النساء في عهد النبيّ وفي القرن الذي تلاه جعل لهنّ شأناً كبيراً. فدَرَسن الفقه والشريعة وأسَّسن مدارسَ ومنتدياتٍ ثقافيةً وكَتَبن الشعر. وكان لهنّ وضعٌ مجتمعيٌّ رفع من قَدرهنّ. عابت زينب على بعض المعاصرين في عهدها منعَ النساء من حقوقهنّ الأساسية. ونَقِمَت بأنّ "عدم تعليم غالبية النساء ليخالف أمر النبيّ محمد مخالفةً صريحة". ثمّ أردفَت في موضعٍ آخَر في مذكّراتها بأنّ "الإسلام أوّل من حرّر النساء من قيدهنَ الذي لَبِثْن فيه منذ فجر التاريخ، وغيَّر وضعَهنّ الاجتماعي، وأعطاهن حقوقاً قانونيةً لم تُمنح في إنجلترا إلّا بعد قرونٍ عديدة".

المساحات الخاصّة بالنساء بدت من الداخل رحبةً أكثر، لا مادّياً، بل لاتّساع مساحة التبادل الاجتماعي فيها. إذ تتسامر الحاجّات فيما بينهنّ فيها ويتبادلن التعارف. بينما تمرّر أخرياتٌ مخبوزاتٍ رأيت منها فطائر الزعتر والعجوة، وأحياناً حبّاتٍ من التمر والتين المجفّف أو حفنةً من المكسرات أو كسراتٍ من الخبز. وفي المصلَّيات النسائية في المسجد الحرام أو الخيام في مِنَى يدور الحديث بين النساء عن بلوغ الحج بعد مشاقّ جمّة. أخبَرْنَني عن مناسباتٍ سابقةٍ حاوَلْن فيها الالتحاق بالحج وفشلن لضعف الحال أو الصحّة، أو لغياب محرمٍ من الذكور. من أتممن الحج قبلاً تحدّثن عن شوقٍ أتى بهنّ من جديدٍ إلى رحاب الديار المقدسة. أخرياتٌ شاركن شعورهنّ بالدهشة من تحقّق حلمٍ بدا بعيد المنال. إمّا لصدقةٍ أعادها الله عليهنّ ثواباً بالحج، كما يَقلْن، وإمّا بسبب مساعدة قريبٍ أو غريبٍ لهنّ مادّياً لبلوغ مكة.

وفي موقعٍ مشابهٍ لموقعي هذا قبل أكثر من تسعة عقودٍ، حكت زينب كوبولد عن مشاهد مشابهة. أغلب الحديث الذي تسنَّى لها تبادله مع النساء من أهل البلاد كان أيضاً في أثناء ضيافتهنّ لها بأطعمة الشرق. وكانت مناسَبةً لها كي تتعرف على عاداتهنّ في تنظيم شؤون أسرهنّ، بينما كنّ يسألنها عن مسيرتها التي أتت بها من بلاد الغرب مسلمةً حاجّةً إلى رحاب مكة والمدينة. تقول في مذكراتها: "بعد أن عرَّف كلٌّ نفسَه، أخذنا نتجاذب أطراف الحديث. أخبرْتُهم عن حياة بريطانيا ونشاطاتها [. . .] وقبل الظهر بقليلٍ جلسنا نأكل. أوتيت أنا غدائي الخاصّ. بينما جلسوا كلّهم حول طبقٍ كبيرٍ. لا شوكة ولا سكّين. يغسل كلٌّ منا يديه بماءٍ يصَبّ عليها من إبريقٍ، وينزل في حوضٍ له غطاء مثَقَّبٌ، ثمّ نعطَى مناشف نجفّف بها أيدينا".

وفي سؤال المساحات كذلك أماكن المبيت والانتقال، كلٌّ بتوقيته وغاياته. وكأنّها دعوةٌ مستمرةٌ للتغلّب على النزعة الإنسانية للبقاء في دائرة الراحة والبحث المستمر عن السؤال التالي الذي يجب أن يتفكر فيه المرء والمهمة التي يجب أن يؤدّيها. فمن الإقامة المريحة في فنادق مكة وسط تطوّرٍ عمرانيٍّ تحيط به أهمّ العلامات التجارية العالمية، التي قد تفقِدك وهلة الشعور بأصالة المكان وغاية الاتصال به، ينتقل الحاجّ إلى صحراء مِنَى حيث السكن في خيامٍ والمبيت أرضاً.

في مِنَى لا أثر للعمران ولا العلامات التجارية ولا مجال لشراء أيّ شيء. وبهذا يصبح المال بلا قيمةٍ والمادّة بلا معنىً. مكانٌ للتجرّد والتفكّر وإعداد الخواطر والدعوات التي ستصاحبك في هذا اليوم المشهود. في يوم عرفة يصطفّ الجميع في صعيدٍ واحدٍ يسألون الله حاجاتِهم. وفي الانتقال المستمر وتبدّل الأحوال وتغيّر أماكن المبيت تتحقق المساواة بين الجميع، لاسيما نساءً ورجالاً. كلٌّ سواءٌ في المشقّة.

التفتت زينب كوبولد للتغيرات المتعاقبة في ظروف المبيت التي تختلف عمّا تعوّدَت عليه في وطنها. ولكنها تختلف أيضاً في الحج بين ليلةٍ وضحاها. فليالي مِنَى قَضَتْها فوق سطح مَسكن. وليلة المزدلفة مَكَثَت فيها في العراء رفقةَ عائلاتٍ عربيةٍ تحت سماء صحراء الجزيرة العربية المتلئلئة نجومها حيث لا أضواء صناعيةً آنذاك تحجبها أو تضعِف وميضَها. تقول واصفةً مبيتَها: "انشرح صدري لمأوايَ بالسطح ذي النسيم العليل، والجوّ الجميل. وكلّ ما يحدث بالأسفل واضحٌ لي. منظر جماعات الإبل المتّجهة شرقاً منظرٌ مدهش". لَم تتذمّر زينب من اختلاف أحوال المبيت بقدر ما كانت تصف تفاصيل عادات الشرق وأهل هذه البلاد. ووَصَفَت مشهد وقوف الجميع، أيْ نحو مئة ألفٍ من الحجيج في زمانها، على صعيدٍ واحدٍ يسألون الله موقِنين بأنّ كلّاً منهم سينال سؤْلَه. وكانوا في ذلك سواسيةً على اختلاف مشاربهم وأعراقهم والبقاع التي أتوا منها.


مع العودة للوطن، أدركتُ أن الحج لم يكن رحلةً تنقضي بأداء الفريضة. هو حالة مستمرة، ديدنها روحية السفر إلى الله في غير أيامٍ وفي أماكن ومواقيت أخرى. أمّا زينب فعادت لوطنها ولبيتها ولحياتها كي تتأمل أيام الحج وكأنها مشاهد من حلمٍ بعيدٍ لا تصدّق أنها خاضته إلّا عندما تعيد قراءة ما دوّنَته من مذكّراتٍ عنه. تقول واصفةً هذه المشاعر: "لا يستطيع الوقت أن يسرق منّي ذكرياتي التي أعتزّ بها وأبقيها في قلبي. حدائق المدينة والسكينة في مساجدها. الأعداد التي لا تُحصَى من الحجاج المارّين أمامي وفي عيونهم يسطع الإيمان. جمال الحرم المكّي وهَيبته. الحج الأكبر عبر الصحراء وجبل عرفات. وفوق كلّ ذلك الفرح والشعور بالاكتمال الذي يسيطر على الروح".

أكثر من تسعة عقودٍ فصلتْ رحلتي عن رحلة إيفيلين زينب كوبولد. امرأتان من جذورٍ مختلفةٍ وظروفٍ متباينةٍ بين زمنَيْن، قليلٌ المشترَك بينهما. لكن جمعَتْهما الرغبة، وقَرّبت بينهما الوجهة ذاتها. وعلى الخطى نفسها سارَتا وغمرَتْهما في كلِّ محطّةٍ من الرحلة للديار المقدسة مشاعر تكاد تكون هي نفسها. وكأن التاريخ يعود نسخاً مكرّرةً وتجارب تعاد بين أناسٍ بينهم من عقود الزمان كثير.

اشترك في نشرتنا البريدية