تجربة ذاتية مع حواديت مصرية أخْفَتها "سندريلا"

خَفَتَ حضور الحواديت الشعبية في الصعيد ومصر عموماً مع صعود التلفزيون والهواتف الذكية.

Share
تجربة ذاتية مع حواديت مصرية أخْفَتها "سندريلا"
أمنا الغولة وتوأم الصعيد من بين أشهر الحكايات الشعبية المصرية | تصميم خاص للفِراتْس

كنتُ في الثانية عشرة عندما وَلدَتْ أمّي شقيقَيّ التوأم حسن وحسين سنة 1991. وقتها انتظرت وإخوتي دخول الليل تحت البَطانيات توقاً لتقصّ علينا جدّتي حليمة "حِجِّيوة"، أي "حَدّوتَة" أو قصة شعبية، عن تحوّل توائم الصعيد إلى قططٍ في الليل. صدّقنا أنّ التوأم الرضيعين سينسلخان عن جسديهما في الليل ويتمثلان في هيئة قطَّيْن أسودَيْن بعيونٍ حمراء، وسيمشيان في شوارع القرى وحول جسور النيل. صدّقنا أنهما سيطيران بعدها في الجو هاربَيْن من أمّي في منتصف الليل. وهكذا سيموتان في أيّ لحظةٍ إن ضربَتْهما امرأةٌ صعيديةٌ غاضبةٌ، لو أَلْفَتْهما يشربان من لبنها أو يأكلان سمكها أو لحمها.

يموت التوأم ويختفي القطّان الأسوَدان الخياليان بعدما نالا ضربةً مميتة في صحن بيتٍ ما. وما بمقدور أيّ توأمٍ تفادي الضرب لعجزهما عن العودة سريعاً إلى جسديهما. ولا نعرف بعد موت كلّ توأمٍ كيف هَرَبَتْ روحاهما في الليل، مع أنّ جسديهما لم يغادرا الفِراش الذي نحرسه نحن أفراد العائلة حتّى مطلع كلّ فجر.

هذه القصة وكثيرٌ غيرها كانت جوهر طفولتنا، لكن إيماننا بها قد تلاشى مع مرور سنين العمر. فقد زرت الأقصرَ والصعيد وتبيّن لي أنّ حضور الحكايات الشعبية التي كانت ترويها الجَدّات لنا في الليل خَفَتَ حتّى كاد أن يصبح تراثاً مفقوداً. وعرفت عن قربٍ قِلّةَ معرفةِ كثيرٍ من الأمهات الشابات بهذه الحكايات، فلا يحكينها لأطفالهن. ومنهن كثيراتٌ يكتفين بالسماح لعيالهن بأن يتفرّجوا على ما تعرضه الهواتف من ألعاب أو قصص شعبية عالمية بعضها غربية.

لم يكن التغيير واختفاء قصص طفولتنا مفاجئاً. فقد علمت باختلاف قصص الصعيد عن القصص المنتشرة في القاهرة، حتى وإن كان موضوع القصّة واحداً، مثل قصّة "أمّنا الغولة". ثمّ أنني عايشت في طفولتي تحوّلاتٍ اجتماعيةً في قريتي عندما وصلت خدمات الكهرباء والتلفزيون. فتَرَكَت جدّتي حليمة وأمّي حكيَ قصص العفاريت، وبدأتا تحكيان لنا قصصاً أخرى أكثر واقعية. بل قَلّ سردهما عندما أصبحتا تشاهدان مسلسلات التلفزيون وبرامجه. وصرنا نحن الأطفال نشاهد برامج مثلَ "أبلة فضيلة"، ونستعيض بها عن قصصنا الشعبية. وهكذا كان تغيّر الزمن ووقع التقنية الحديثة ثقيلاً على قصصٍ شعبية شكّلت طفولتنا، فتلاشى كثيرٌ مما كان وبعض ما نحت منظورنا عن أنفسنا والعالم.


كانت ولادة التوأم حسن وحسين في بيتنا براحاً جميلاً لنا، نحن أطفال العائلة، لتلقّي قصصٍ شعبية جديدة وقديمة، أبطالها غالباً من التوائم الذين يتجسّدون قططاً ويَسْرَحون في الليل يفتّشون عن الطعام. وقد يصاحب هؤلاء التوائم قططاً أخرى بينما يجولون في طرقاتٍ عابرةٍ أو داخل صحون البيوت.

أخبرتنا جدّتي حليمة على هامش حديثٍ عائليٍّ قبيل وفاتها سنة 2010 بأن الأمهات في الصعيد وَرِثْن قصصاً عن التوائم وغير التوائم، وكنّ يلتزمن أداءها حذوَ أداء أمّهاتهن والراويات السابقات. وكذا رَوَت لنا، قبل ميلاد أخوَيَّ حسن وحسين بسنتين تقريباً، عجائب وخرافات لازمت توأمين رضيعَيْن اسمهما كمال وكامل. خرج الطفلان قطَّيْن في منتصف الليل، وماتا في عمر سبعة أيامٍ أثناء هروبهما من قبضة امرأةٍ دافعت بِعَصاً غليظةٍ عن أواني تخزين اللبن والسمن البلدي في صحن بيتها الطينيّ. لم ينجُ التوأم في القصة خلال كلّ مرّات تكرارها، مع أننا اقترحنا على جدّتي بحماسٍ طفوليٍّ أن تغيّر العصا الغليظة في القصة إلى أخرى رفيعةٍ تجرح ولا تقتل حتى تنقذ التوأمَيْن. لكنها كانت تأبى في كلّ مرّة.

جاء ليل أوّل يومٍ في حياة شقيقَيّ التوأم ونحن نترقّب القصة الجديدة التي ستقصّها جدّتي حليمة علينا. تركنا الأغطية وبدأت جدّتي في تحضيرنا للحظة الأداء. صمتتْ كعادتها في البدء ثم افتتحت القصة بعبارتها المتكررة المتوارثة: "حجّاكم [حَكى لكم] الله، خير إن شاء الله، كان فيه زمان يا عيال". فتقول إن الطفلين كمال وكامل وُلدا منذ سنواتٍ عديدةٍ في أرضٍ بعيدةٍ، بنصف روح إنسان ونصف روح قطّ. وماتا قبل الفجر عندما أيقظتهُما أمّهما فجأةً بالليل، وكان عليها أن لا تفعل لأنّ روحيهما كانتا تسرحان في السماء أو صحون البيوت بحثاً عن سمكٍ أو لحمٍ أو جبن.

لفتَت انتباهي في اليوم السابع على ولادة حسن وحسين التعهدات الصارمة التي أعلنَتْها كلّ امرأةٍ زارت أمّي، لتهنئتها بالمولودَيْن. وعدنها ألا يمنعنَ طعامَهنّ عن شقيقَيّ التوأم، وأن لا يضربن أيَّ قططٍ تسرح بين صحون البيت، وأن يتحلَّيْن بالصبر، حتى تصلَ أمّي إلى حلٍّ لهذه الورطة العائلية، حسب تعبيرها. توزّعَتْ علينا في اليوم التالي المسؤوليات لإنقاذهما من الموت. كنتُ جاهزاً لحراستهما في الليل مقابل أن يتركني والداي أستذكر دروسي في النهار بعيداً عن صراخ الطفلَيْن. وعلمت من أخي شعبان وقتَها أن كلّ نساء قريتنا أخذن احتياطاتهنّ، ونقلن الجبن واللبن إلى أماكن مخفيّة.

حَكَتْ جدّتي أنّ علامةً تظهر فوق جسد كلّ توأمٍ سَرَحَ في الليل ونال ضربةً على ظهره أو ذراعيه. تعرّض كامل وكمال في اليوم الثالث من ميلادهما إلى ضربتيْن خفيفتيْن على ظهريهما وماتا في اليوم السابع. وهكذا لا يحتاج اكتشاف مكان الضربة أكثر من أن تفتّش أمّي في جسديّ حسن وحسين.

تتفق قصصٌ شعبية كثيرة في الصعيد على أن التوائم يَسرَحون قططاً في الليل حتّى سنّ البلوغ. سمعنا قصة الصبيّة التي كانت تَسرَح في الليل مع توأمها الذكر. فتحكي الصبيّة في النهار كلّ ما جرى معهما في الليل، ويخجل التوأم الشقيق من الحديث عن خروجه قطّاً. لكنه لا ينكر في القصة أنه لم يَسرَحْ مع شقيقته الصبيّة، أو "القطّة" في معتقدنا نحن جمهور الأطفال آنذاك.


كان الخطر المحدق بالتوأم يمتدّ تأثيره إلى كلّ العائلة لا الأطفال فقط. فقد أوعز أبي إلى أخي الأكبر رمضان بإحضار لبن ناقةٍ من قريةٍ جبليةٍ اسمها المِيّات، يمنع شربه تحوّلَ شقيقَيّ إلى قطَّيْن في الليل. وظللت أنا أحرس أسوار البيت في الليل، قريباً من أمّي أسمع منها بين حينٍ وآخَر عجائبَ جديدةً عن التوأم. عرفت منها أنّ هناك علامةً ثانيةً قد تظهر على جسدَي أيِّ توأمٍ في صباح أيّ يوم. وفهمت أن التوأم الذي يَسْرح في الليل يقوم من نومهِ شبعاناً بسبب أكله طعاماً كثيراً في أحدِ البيوت مع قططٍ أخرى. قالت أمّي إنّ التوائم يتذكرون كلّ شيءٍ عندما يستيقظون. وربما يحكون لمن حولهم إذا كانوا كباراً عن موقفٍ طريفٍ أو أذيّةٍ جاءتهم من امرأةٍ أو رجلٍ حاولا ضربَه. وقد قامت فعلاً مشادّةٌ بين أمّي وجارةٍ لنا بعد أن استيقظ أخي حسين ذات صباحٍ بخطٍّ أزرق غامقٍ فوق كوع يده اليمنى.

كانت أمّي غاضبةً لأن لبن الناقة قد يتأخر من قرية المِيّات. انتاب العائلة قلقٌ بالغٌ على التوأم بعدما كاد أخي رمضان يموت من مخلبِ ذئبٍ شاردٍ باغَتَه، بعيدَ خروجه من بوّابة القرية. وَقَعَ إناء اللبن من يد رمضان، فاندلقَ بعضه وبقيَ بعضه، وهَرَبَ الذئب سريعاً بعد أن أطلق أخي رصاصةً صوبَه.

وبسبب ما حدث، وما لمعتقدات التشاؤم من حيوانٍ أو يومٍ أو موقفٍ ما من تأثيرٍ في التراث الشعبي المصري، لم تقتنع أمّي بأنّ لبن الناقة الذي أحضره أخي سيمنع سَرَحَان حسن وحسين. اتّهَمَت اللبن بأنّه مَنْحوسٌ وكادَ ينفطر قلبها على ابنها الأكبر. لذا تعاوَنَت بسرعةٍ مع جدّتي حليمة، فتوصّلتا إلى حلٍّ شعبيٍّ موروثٍ آخَر. شاهدتُ أمي وجدّتي تضعان حِجابَيْن قماشيَّيْن وتطوِّقان بهما رقبتَي التوأم بعد أن وضعَتْ أمي داخل كلّ حجابٍ قطعاً من الملح الصخري الغليظ وبقايا من خبزٍ شمسيٍّ وقرنفل، أملاً بأن يحميَ الحجابان ولدَيْها. وحاكت عمّتي نفيسة عقدَيْن من عملاتٍ معدنيةٍ مخرومةٍ، كي نَنْتَبه جميعاً حال قرّرَ حسن وحسين الهَرَب قططاً في الليل. فللمعدن صوتٌ ينبّه السامعين.


لم يكن همّ الأسرة وقلقها على التوأم محضَ إيمانٍ طفوليٍّ. فقد كان تعبيراً عن معتقداتٍ موغلةٍ في تراث أهل الصعيد حدّدت تصوّراتِهم ومنظورَهم للعالم، ونظمت علاقةَ بعضهم ببعض. وهي المعتقدات التي لفتت انتباه باحثين وشحذت فضول علماء اجتماعٍ وإناسة.

من عالمة الإناسة هؤلاء الإنجليزية وينيفرِد بلاكمان، التي استكشفت في العشرينيات عادات الناس في مصر ومعتقداتهم وحكاياتهم وخرافاتهم، ودوّنتها في كتابها "الناس في صعيد مصر" المترجم للعربية سنة 1995. تقول بلاكمان في الكتاب "هناك اعتقادٌ شائعٌ في مصر، كما في غيرها من البلاد، وهو أنّ الروحَ تغادر الجسد أثناء النوم. لذلك يُعتقد أنه من الخطر إيقاظ إنسانٍ ما بطريقةٍ مباغتةٍ، خوفاً من أن لا يكون لدى الروح الوقت الكافي لعودتها إلى جسم النائم. ويجب أن يتمّ الإيقاظ ببطءٍ شديدٍ كي يتوفّر للروح الوقت اللازم لعودتها. ولا أدري بالضبط ما الذي يمكن أن يحدث إذا لم تعد الروح في موعدها. ربما تتبدّل شخصية النائم أو يُصاب بالخَبَل".

مرّت مئة عامٍ تقريباً على ما وثّقَته بلاكمان، ولايزال معتقَد انسلاخ الروح عن البدن أثناء النوم منتشراً في مناطق متفرّقة في صعيد مصر، وخصوصاً في محافظات قنا والأقصر وأسوان في أقاصي جنوب مصر. ولايزال إخوتي وأبناء عمومتي ورجالٌ ونسوةٌ من العائلة، وأقارب عايشوا هذه الآونة، يؤمنون بخروج أرواح التوائم قططاً في الليل. ويدافعون عن لبن الناقة بوصفه من الحلول المتوارثة المفيدة في الحفاظ على حياة التوائم أو التقليل من مرّات السَرَحان في الليل.

لم يكذّب أبي وقتها ما قالته جدّتي حليمة عن التوأم كامل وكمال، أو المخاطر المحدقة بحسن وحسين. ولم يجِبْ عن أسئلتنا ومخاوفنا من أن يسلك شقيقاي مصيرَ كامل وكمال. لكنه كان يهدّئ روعَنا بشأن احتمالية موت شقيقَيّ في يومهما السابع. لم تنَمْ أمّي إلّا لِماماً في الأشهر الأولى من ولادة التوأم. فقد كانت قلقةً من إمكانية حدوث مكروهٍ لابنَيْها في أي لحظةٍ في الليل. وكنّا لا نقترب أبداً من مكان نوم أمّي وشقيقيّ خوفاً من أن تكون روح أحدهما سارحةً في بيتٍ مجاورٍ تفتّش عن طعام.

أما أنا فتُيّمت بالثقافة والحكايات الشعبية في الصعيد، وصرت على نهجِ بلاكمان سنة 2017 دارساً شبه متخصّصٍ في الأدب الشعبيّ. لم أدرك في البداية أنّ القصص الشعبي الشفاهي عن التوائم سيكون من شواغلي البحثيّة ومن أولويات زملائي، دارسي علم المعتقدات والمعارف الشعبية في أكاديمية الفنون المصرّية. صارت تجربتي الذاتية مع توأم العائلة وردود الفعل الفكاهية حول الصعوبات التي عاناها أخي الأكبر رمضان لإحضار لبن الناقة مَثارَ دردشاتٍ علميةٍ مستمرةٍ إزاء منشأ هذه الحكايات الشعبية، وما قد تحمله من بقايا معتقداتٍ قديمة.

عرفت مثلاً أنّ القصص الشعبي الذي كنّا نحكيه له وظائف أخرى أكثر من مجرد التسلية. وهذا ما يعزّزه عالم الإناسة الأمريكيّ وليام باسكوم في دراسته "الأشكال الفولكلورية: الحكايات النثرية" المنشورة ترجمتها في مجلة الفنون الشعبية سنة 2002. يقول إنّ مصطلح "حدّوتة" عُرِفَ بمعناه ودلالاته الحالية في نهايات القرن الثامن عشر فقط. ويضيف أنّ الحكايات الشعبية "حكاياتٌ نثريةٌ مختلفةٌ، ولا يمكن اعتبارها عقيدةً جامدةً أو تاريخاً ولا أن نأخذها على محمل الجدّ. وهذه الحكايات قد تكون حدثت أو لم تحدث". ويعتقد باسكوم أن للقصص الشعبية وظائف أخرى، رغم أنها تُحكى للتسلية، "كما توحي لنا فئة الحواديت الشعبية ذات المغزى الأخلاقي".

يرجّح مدرّس الأدب الشعبي أحمد مرسي أنّ الحكاية الشعبية، وما تفرّع عنها من قصصٍ وألغازٍ ومثلٍ، نشأَتْ قبل اختراع الكتابة بزمنٍ بعيد. نشأت هذه الحكايات وسط بيئةٍ متقدّمةٍ من المرحلة الأسطورية الموغلة في القِدَم، التي تنتمي إلى البدايات الأولى للفكر الإنساني. وقد ربط مرسي في كتابه "الأدب الشعبي وفنونه" المنشور سنة 2025 بين هذه النشأة وتحيّز الدارسين الأوروبيين إلى تفوّق مجتمعاتهم على مجتمعاتٍ أخرى. قلّل هؤلاء من قيمة أدب هذه المجتمعات الشفاهي واعتبروه "أدبَ شعوبٍ منحطّة". ويرى مرسي أنّ بعض علماء الإناسة "قسّموا شعوب العالم بناءً على ملمحٍ ثقافيٍ واحدٍ هو معرفة الكتابة، ومن ثمّ أطلقوا على الشعوب التي ليس لديها تراثٌ مدوّنٌ مصطلح الشعوب البدائية أو غير المتعلمة". ويذهب إلى أنّ الحكايات الشعبية قد تكون بقايا متوارثة تمثّل بعضَ أشكال المعتقدات الأولى التي نشأت قبل تكوين الحكاية بمدّةٍ طويلةٍ أو من تأثير الأوهام والأحلام. وهي عبارةٌ عن موروثاتٍ تحمل معتقداتٍ حقيقية.


في قلب هذه الموروثات القصصية الشعبية، جذبتني وشغلتني بالذات شخوص العفاريت. كانت قاسماً مشتركاً في أغلب القصص الشعبي، حتّى في قصصٍ تتعلّق بمصائر التوائم. ظهر عِفْريتٌ مثلاً في قصّةِ التوأم كامل وكمال على هيئة قطٍّ يسخر من التوأم القطّيْن وهما يُضرَبان ضرباً مميتاً.

وبسبب شيوع شخوص العفاريت في الحكايات الشعبي، فقد خصّصَتْ بلاكمان في كتابها فصلاً كاملاً عنهم، ووثّقتْ فيه قصصاً عايشَتها بنفسها. تقول إن "العفاريت من بين الكائنات الخرافية التي تحتلّ مكانةً واضحةً في حياة الفلاحين المصريين. وهناك فرقٌ بين العفاريت والجنّ، الذي يعدّ أرواحاً طيّبةً، إلّا أنني وجدت أن الفلاحين يستعلمون كلمة جنّ وعفاريت على أنهما شيءٌ واحدٌ. وإن كانت كلمة عفاريت هي الأكثر شيوعاً". تسرد بلاكمان أنّها في إحدى الليالي بينما كان حارسها يغطّ في النوم، استيقظ فجأةً "وهو في حالةٍ من الرعب ورأى فوقه شبحاً ضخماً على هيئة رجلٍ، حيث ظلّ واقفاً هكذا لمدّة دقيقةٍ أو دقيقتين ثمّ اختفى". ثم تضيف أنّه بعد حوالى أسبوعٍ كان خادمها يعبر الحديقة في طريقه إلى المطبخ وكان يحمل مصباحاً. فانطفأ الضوء فجأةً، "وفي الحال رأى خيالاً يجري في نفس الاتجاه الذي جرى فيه الكلب. وقد قال لي وهو يروي هذه المغامرة إن ذلك كان عفريتاً".

لم نعرف عندما كنا أطفالاً في الصعيد ما إذا كانت أشكال شخوص الحكايات الشعبية وأدوارها متشابهةً مع تلك التي كانت تُروَى ليلاً على مسامع أطفال محافظاتٍ مصريةٍ بعيدةٍ عن الصعيد. وكيف لنا مثلاً أن نعرف إن كانت القصص التي رَوَتْها جدّاتٌ قاهرياتٌ تضمّنت سيرة العفاريت والجانّ أم لا. سألت أصدقاء قاهريين عن ماهيّة القَصَص الذي كان يسمعونه من أمهاتهم وجدّاتهم ليلاً، وفهمت أنّه لم يكن يتضمن أبداً سيرة عفاريت أو جانٍّ. وإن اشترك جمهور أطفال الصعيد والقاهرة في تلقّي قصّة "أمنا الغولة" بين أشهر الحكايات الشعبية المصرية.

تختلف أيضاً تسميات قصصَ الجدّات الليليّ الشَفَاهيّ داخل مصر. يَعرِف الأطفال في القاهرة والإسكندرية وأجزاء واسعة من محافظات الدلتا قصصَ الجدّات باسم "حدّوتة"، أما في صعيد مصر فهناك أكثر من تسمية. نسمّيها في محافظة قَنا، مسقط رأسي، حِجِّيْوَة، مقابل "حِكِّيْوَة" في محافظتَي سوهاج وأسيوط المجاورتين لقنا.

وعلى اختلاف التسميات، فهناك ما يقرّب خصائص الحكايات الشعبية المصرية من بعضها بعضاً. إذْ أنّ نهايات روايات الجدّات تلتزم غالباً بختامٍ شَفَاهيٍّ شعبيٍّ موروثٍ مَنطوقه "توتة توتة، فِرْغِتْ [أو خِلْصِتْ] الحِجّيْوَة [أو الحدّوتة]". وتتفق الحكايات داخل مصر في تكرار سؤال الراوية لجمهور الأطفال عن رأيهم في النصّ بالقولِ: "حِلْوة ولّا ملتوتة [ضعيفة]؟". ويفتح هذا السؤال الختامي جدالاً بين الأطفال المتلقّين والراوية ينتهي غالباً بتسيّد وجهة نظر الراوية، لأنها تحكي من عند الله. فهي تبدأ سرد قصتها قائلة "حجّاكم [حَكى لكم] الله، خير إن شاء الله، كان فيه زمان يا عيال". وهذه اللازمة في بداية القصة والأخرى في نهايتها لهما رديفاتهما في بلدانٍ عربيةٍ أخرى، وإن اختلف اللفظ وشيءٌ من التفاصيل أحياناً.

ويبدو أن الجوّ العام للقصة الشعبية في كلّ مصر يشترك بمعظمه بكون الراوية امرأةً والجمهور هو الأطفال. وهذا كما يرى خالد أبو الليل، مدرّس الأدب الشعبي في جامعة القاهرة، في كتابه "المرأة والحدّوتة" المنشور سنة 2008. من جهتي، لَم أشهد أبي يحكي لنا حكايةً شعبيّةً، وكأنّها فنٌّ شعبيٌّ نسائيٌّ خاص. ولم يُبدِ رجال عائلتنا أيَّ اهتمامٍ بأسئلة الأبناء للجدّة الرواية. وأذكر أنّ أبي لم يكن يجاوبنا لو سألناه عن شخوص العفاريت في القصص. فقد كان ينظر إلينا نظرة استخفاف.

يعتقد خالد أبو الليل أن "الحدّوتة" بالعادة نوعٌ أدبيٌّ شعبيٌّ نسائيٌّ يتفرّع من مصطلحٍ عام هو الحكاية الشعبيّة. ويقول إن القصة الشعبية نصٌّ سرديٌّ قصيرٌ تتناقله الجماعة الشعبية. له بنيةٌ شكليةٌ محدّدة ويكون معظم رواته من النساء، ومعظم جمهوره من الأطفال. ويضيف: "[. . .] للخوارق فيها الدور الأكبر، فموضوعه عبارةٌ عن بقايا دياناتٍ وأساطير قديمةٍ، ويرتبط بأداء وظائف أساسيةٍ كالتعليم والمحاكاة والتسلية [. . .]. مع التنبيه على أنّ للحواديت أنواعها الفرعية التي تعتمد على الشخصيات الرئيسة، مثل الحواديت الإنسانية، وحواديت الحيوان، وحواديت الجانّ".

أذكر من قصص العفاريت والجانّ تلك قصّةَ "أمنا الغولة" التي رَوَتْها أمّي. تقول الحكاية إنّ فلّاحاً أنجبَ سبعَ بناتٍ ماتت أمّهنّ، فتزوّج على الفور من امرأةٍ تَكره بناتِه بشدّة. حَكَمَتْ عليه أن يتركَ بناتِه لمصيرهنّ في جبال الصعيد حيث تعيش "أمنا الغولة" ويعيش عفريتٌ طويلٌ اسمه "عامود العِشاء". هَرّبَ الأب الخائن بناتِه فوق ظهر حماره، فاستفردَت الغولة بالبنات وأكلت ستّاً منهنّ. وهَرَبت الفتاة الأخيرة إلى حيث يعيش أبوها وزوجته، لكنها وجدت أمنا الغولة قد أكلتهما ثم بدأت تطاردها من جديد.

ركضتْ أمنا الغولة وراء الفتاة، لكنها هَرَبَتْ من جديدٍ إلى بيت نجّارٍ يصنع المراكب النيليّة ويبيعها للصيّادين. أحبّت البنت صيّاداً شابّاً اسمه "الشاطر حسن" وتزوجته ثم غيّرت اسمَها إلى ستّ الحُسن، وعاشا في سعادةٍ ورَغد. وجد الشاطر حسن وستّ الحسن في اليوم السابع من الزواج كنزاً من الذهب، وأنجبا سبعة أولادٍ وسبع بنات.

اختفتْ أمنا الغولة في سابع أرضٍ بعدما عَلِمَت أنّ الشاطر حسن يمسك في يده سيفاً أطولَ من النخلة، ويريد أن يثأر به لزوجته ستّ الحسن من الغولة التي أكلت أباها وشقيقاتها الستّ. تنتهي القصّة بهروب الغولة واختفائها إلى الأبد في مكانٍ مجهول.

سمحتْ أمّي لنا بعد انتهاء روايتِها أنْ نسألها عن إحجامِ الشاطر حسن عن مطاردة الغولة وراء جبال الصعيد البعيدة المجهولة. فقالت إنه كان منشغلاً ساعتها بصيد تمساحٍ كبيرٍ حاولَ إيذاء ستّ الحسن وهي تتنزّه بمركبِها في النيل. ثمّ تدخلت جدّتي في الجِدال وحذّرتْنا من عدم النوم المبكّر زاعمةً أنّ أمنا الغولة تَسرَح في الظلام، وتتنّصَت على الأطفال الذين يخالفون أوامر كبار السنّ، وقد تختطفهم إلى أماكن مخيفةٍ بعيدة.


تتغيّر أدوار الشخوص في الحكايات الشعبية وطريقة روايتها باختلاف مكان روايتها. تظهر أمنا الغولة في قصص أطفال القاهرة في دورٍ أقلّ خياليّةً وتخويفاً من دورها في قصص أطفال الصعيد. وذلك وفقاً لما حَكاه لي شريف البراموني، الصحفي المصري المولود في حيّ السيدة زينب في القاهرة. تظهر الغولة في قصة القاهرة امرأةً طبيعيةً، لكن قبيحة المنظر والملبس. وتعيش في بيتٍ منعزلٍ داخل مدينةٍ ما، وتخفي في بيتها هذا بئراً لعقاب أيّ طفلٍ مشاكس.

تدور القصة في نسخة القاهرة حول طفلةٍ اسمها "ستّ الحسن والجمال"، تظلمها امرأة أبيها وابنتها الأقلّ جمالاً منها، ممّا يجعلها تشبه قصّة "سندريلا". قرّرت امرأة الأب أن ترسل ست الحسن إلى بيت أمنا الغولة لإحضار غربالٍ دقيقٍ حتى تأكلها الغولة ويخلو الجوّ لابنتها الأقل جمالاً. نادتْ ستّ الحسن على أمنا الغولة تطلب منها الغربال، ففتَحَت لها الباب وطلبت منها أن تمشّط لها شعرها أولاً. ولمّا استحسنت الغولة ما فعلته ستّ الحسن، أنزلتها بئرَها الخفيَّ فخرجَتْ منه الطفلة بذهبٍ وحرير.

تستكمل القصة بأنْ عَلِمَت زوجة الأب بما حصل بين الغولة وستّ الحسن. فأرسلت ابنتها إلى أمنا الغولة تعيد إليها الغربال، لعلّها تعود من بئرها بذهبٍ وحرير. طلبت الغولة من الفتاة أن تمشّط لها شعرها قبل أن تأخذ الغربال منها. تأفَفَت الطفلة من شعر الغولة، فكان جزاؤها النزول في بئرٍ كلّه فئرانٌ وصراصير. وعادت إلى أمّها تبكي بعد سنواتٍ طويلةٍ، فإذا بها تجد أمّها تبكي هي الأخرى لأن ستّ الحسن والجمال تزوجتْ من الشاطر حسن ابن السلطان.

تتفق القصّتان، الصعيدية والقاهرية، في أهميّة إخفاء مكان الحكاية وزمانها. فالمكان قد يكون مجهولاً ومعزولاً في مدينةٍ أو كهف جبلٍ ما. وينبّه الباحث في الأدب العربي الحديث أحمد زياد محَبِّك، في كتابه "دراسة تحليلية للحكاية الشعبيّة" المنشور سنة 2005، إلى جاذبية المكان المجهول في السرد القصصي للطفل السامع. يذكر محبِّك أنّ "المكان في العمل السردي ليس مطابقاً للمكان في الواقع وإن كان مستوحىً منه. فالمكان في العمل السردي يعتمد على التخييل اللغوي، والغاية منه بناء العمل السردي وخدمته بما يناسب الشخصيات والحوادث. ولذلك غالباً ما تأتي التسمية عامةً غريبةً لا تُحيل إلا على مكانٍ مجهول".

ويضيف أنّ الغاية من تسمية مكانٍ ما هي إثارة الخيال أكثر مما هي تحديده جغرافياً وتحقيق المعرفة به. ويضرب مثلاً بلاد السند وبلاد الهند وجزر الواق واق وبلاد العجم. يقول محَبِّك مشيراً لهذه البلدان: "[. . .] محض تسمياتٍ مبهمة. وفي بعض الحالات تسمّى بعض البلاد مثل اليمن والحبشة ومصر وبغداد، وتظلّ على الرغم من ذلك محض تسمياتٍ تشير إلى مكانٍ مبهمٍ يثير من الخيال أكثر مما يعطي من المعرفة المحدَّدَة [. . .]. ولاتزال قصص الأطفال تعتمد على التسمية المبهمة العامة لإثارة خيال الطفل".

وجدتُ أنّ قصة أمنا الغولة تختلف في أكثر من ملمحٍ عندما تُروَى في مكانين، مثل القاهرة من جهةٍ، ومحافظة قنا مثلاً في صعيد مصر. ولاحظت أنّ مصير زوجة الأب يختلف في الروايتَيْن. تؤكل زوجة الأب في النسخة الصعيدية مع زوجها الخائن التارك بناته لأجل امرأةٍ جافّة المشاعر. ويخيب أمل زوجة الأب في نسخة القاهرة بعد أن ضاعت فرصة ابنتها الأقلّ جمالاً من الزواج بابن الباشا. ولا تواجه ستّ الحسن والجمال في نسخة القاهرة خطر الموت في بطن أمّنا الغولة، بل إنها تعيش حياةً مستقرةً بشكلٍ ما، لكن تواجه منغصات زوجة الأب. ولا يظهر أبو ستّ الحسن في نسخة القاهرة، كأنّ الراوية أرادت محاكمته بإخفائه وحرمانه من أي دور في القصة. وتتفق هنا نسخة الصعيد مع القاهرة في توجيه التوبيخ الشعبيّ أو الجزاء الأخلاقي على الأب غير المسؤول عن شؤون أسرته وأحوال بناتِه. وهنّ سبعٌ في قصة الصعيد مقابل طفلةٍ وحيدةٍ في قصة القاهرة.

اختلاف مهنة الشاطر حسن في القصّتَيْن يدلّ على أنّ "الحدّوتة" نصٌّ سرديٌّ تمثيليٌّ يختار من بيئته العناصر الشعبية القريبة من ذهن جمهور الأطفال المتلقّين وبصرهم. وتركّب عليها شخصيةٌ تتدخل في لحظةٍ ما من القصة لإنقاذ ستّ الحسن من مصيرٍ صعبٍ في الحياة.

رأينا صغاراً أفراحَ صيادين في قرىً صعيديةٍ مجاورة. لذا صدّقنا أنّ ستّ الحسن يمكن أن تعيش في رغدٍ وسعادةٍ، خصوصاً وأن الشاطر حسن الصيّاد وجد كنزاً بالصدفة بعد الزواج. في المقابل، لا يعرف الطفل في القاهرة الصيادين كما نعرفهم نحن ونعيش حولهم. لذا اختارت الرواية القاهريّة أن يكون الشاطر حسن ابن باشا أو ابن سلطان، وهما تسميتان قريبتان على مسامع الطفل القاهري أكثر من الطفل الصعيدي.


ربما لا يمكن النظر إلى موقف فئاتٍ في المجتمع المصري من القصة الشعبية بدون النظر إلى نتائج دراساتٍ علميّةٍ شعبيّةٍ سابقةٍ تعاملَتْ مع هذه الفئات الاجتماعية باعتبارها ابناً وشريكاً في عادات الحياة الشعبية ومعتقداتها وممارساتها.

شارك ستّة باحثين وباحثات مصريين في كتاب "مقدّمة في دراسة التراث الشعبي المصري"، نُشر سنة 2006 وحرّرَه عالم المعتقدات الشعبية محمد الجوهري. يجادل الجوهري في دراسةٍ متضمَّنةٍ داخل الكتاب عن مسألة إعادة إنتاج التراث الشعبي أنّ "الشباب هم دائماً أوّل من يتخلّى عن الزيّ الشعبيّ التقليدي. والتراث الأدبي للشباب مختلفٌ بعض الشيء عن تراث الكبار. فعلى حين تحتلّ الأشياء الخارقة مكانةً أثيرةً في نفوس الكبار، نجد الشباب تستهويهم الأمور المتعلقة بالحبّ والجنس. وذلك سواءً في القصص أو الأغاني".

يرى الجوهري أنّ الداعين إلى فكرٍ أو موقفٍ فكري أو اجتماعي جديد، أو تعديل حركة مجتمعٍ، يُعَدّون من أميَل الفئات إلى التخلّي عن التراث الشعبي. ويوضّح أن المثال القريب هو الجماعات والفئات والتنظيمات الدينية التي خلقت حركة مدٍّ إسلاميٍّ قويٍّ خلال العقود الثلاثة الماضية، "تماسّت توجهاتهم وتعاليمهم ونصائحهم [. . .] مع الكثير من المعتقدات والرؤى الشعبية". السبب برأيه أن "الدعوة الدينية بطبيعتها تبشّر بحياةٍ كاملةٍ، وترسم خطوطها بكلّ التفاصيل. ومن ثمّ لا بدّ أن يقع هذا التماس مع خطة التراث الشعبي لتنظيم وإدارة تفاصيل الحياة اليومية".

أذكر جيداً وجهَ الشيخ أبو السعود، إمام مسجد القرية، عندما سألناه أنا وأشقائي عن حلٍّ لمحنة شقيقَيّ التوأم حسن وحسين. ردّ الشيخ علينا مستغفراً الله: "غوروا من هِنا يا مْهَبّلِين [حَمْقى]، ده كفر. ربنا هينْفخْكمْ [يُهلِككم]". عدنا لأمّي بخيبة أملٍ وقلقٍ جديدٍ من تهديد الشيخ لنا: "ربنا ينفخْنا؟ ليه يا مولانا؟ إحنا عملنا إيه؟ هو إحنا إللي بنطلع بِسَسْ [قِطط]؟". عَلِقَ في ذهني أنّ الشيخ كان متجهماً يريد جزرنا، إلّا أنني تنبّهت بعد مراجعة إخوتي في صعيد مصر أنّ وجه الشيخ أبو السعود لم يكن متجهماً، بل كان ضاحكاً وأنّنا جميعاً ضَحِكْنا.

مع ذلك، يتشابه موقف شيخ قريتي مع موقفٍ راهنٍ مرنٍ يتبناه رجال دينٍ وأناسٌ متدينونٌ يقلّلون غالباً من معتقداتٍ تتضمّنها أحياناً قصص الجدّات للأطفال، لكنهم لا يحرّمون صراحةً رواية الحكايات الشعبية أو الاعتقاد في خرافاتها. يكتفون باتهام شخوص الحكايات بأنها خرافيةٌ تخالف العقل والدين، ترويها نسوةٌ متفرّغاتٌ لجمهورٍ عريضٍ من أطفالٍ سذّجٍ يؤمنون بوجود أساطير ومعجزاتٍ في هذا العالم.

عند أهل الصعيد، لم تكن الحكايات الشعبية وغرابتها تخالف ما تعلّموه من دينهم. وهو ما يذهب إليه عبد الجبّار الرفاعي، الباحث العراقي في الفلسفة وعلوم الدين، في كتابه "الدين والكرامة الإنسانيّة" المنشور سنة 2024. يقول الرفاعي إنّ "التديّن الشعبي تديّنٌ بريء. تديّنٌ يظهر فيه شيءٌ من روح التديّن الرحماني. تديّنٌ معروفٌ في حياة الأفراد والمجتمعات، يتوارثه الناس جيلاً بعد جيلٍ منذ عصر الرسالة".

ولذلك ينوّه الرفاعي إلى أن التديّن الشعبي عَفْويٌّ غير متضاربٍ مع المؤسّسات الدينية التقليدية، وهو "متصالحٌ وطرائقَ عيشِ المسلمين وطبيعةَ حياتِهم، لا يجدون فيه تناشزاً مع فنونهم الشعبية وفلكلورهم [تراثهم]". وهو بهذا "لا يشكِّل عبئاً على علاقاتهم بمحيطهم، ولا يفرض عليهم سلوكاً متشدِّداً في علاقاتهم الاجتماعية بالمختلِف في الدين أو المذهب أو الهويّة أو الثقافة".

ويضيف أنّه "لعلّ أوضحَ وأوجزَ مَن وَصَفَ هذا التديّنَ المتكلِّم الشهير الفخر الرازيّ [فخر الدين محمد بن عمر الرازي] بقوله: 'من التزم دينَ العجائز فهو الفائز'".

لم تعبأ جدّتي حليمة وغيرها من الراويات بموقف المجتمع من القصّ الشعبي الشفاهيّ الليليّ، ولم تكن تفرض علينا معتقداً معيناً. كانت تستعين بالله وهي تستهلّ قصةً جديدةً بـصيغة افتتاحٍ معتادةٍ لجمهور الأطفال: "حجّاكم الله، هداكم الله يا عيال ويا بنات". كنّا نحترم قصصها ونعدِّل من هيئتنا وننتبه إلى كلامها، الذي اعتقدنا آنذاك أنه من عند الله وتحفظه هي عن أمّهاتٍ أخرياتٍ مارسن وظائفهنّ التربوية الأمومية.

ولصبغ القصص بطابع الصلاح الديني، بغضّ النظر عمّا فيها من أَسْطَرةٍ، تتقدّم الوظائف التحذيرية الأخلاقية في قصص جدّتي وأمّي كلّ الوظائف بجعل الشخصية المخطئة في بناء القصة عِبرة. لذا لم يكن غريباً أننا فرِحْنا عندما أكلت أمنا الغولة الأبَ وزوجةَ الأب في القصة الصعيدية. فهمنا ولو بشكلٍ غير مباشرٍ أنّ كلّ أبٍ يجب أن يكون رحيماً عطوفاً ومسؤولاً عن رعاية أبنائه وبناتِه، وإلّا تعرّض للجزاء الأخلاقي سواءً في نهاية القصة أو في الواقع.

كانت جدّتي حليمة عقب انتهاء قصّةٍ ما تراقب استجابةَ كلٍّ منّا للقصة. وكانت تقيس بنظراتها ردّة فعلنا على مشاهد مخيفةٍ في بنائها، مثل أكل الغولة الأبَ وزوجتَه جافّةَ المشاعر، أو طريقتها في أكل شقيقات ستّ الحُسن داخل كهفها المجهول. قوّمت الراويات من لم ينتقد منّا نحن الأطفال ما فعله الأب أو زوجته بحقّ البنات السبع. بهذا كانت القصة الشعبية وسيلةً تمثيليةً لتعريف الأطفال بقيم المجتمع، مع احتفاظها بطابع التسلية والترويح عن النفس.


لم تقاوم جدّتي حليمة في آخِر سنوات عمرها سنّةَ التطوّر التي أزاحت بدورها راويةً ليليّةً لجمهور الأحفاد لصالح سيادة برامج ومسلسلات التلفزيون المصري. فقد انصرَفَت جدّتي وأمّي، عقب دخول الكهرباء قُرانا في الصعيد سنة 1984 إلى التقليل من إدخال شخوص العفاريت داخل القصص. كنّا نرفض ذكر سيرتها بعد أن صدّقْنا وقتها أن العفاريت لن تستطيع العيشَ فوق الجسور أو الحقول وداخل الشوارع بسبب انتشار أعمدة الإنارة الليلية في كلّ مكان.

دَخَلَ جهاز التلفاز غالبيةَ بيوت صعيد مصر متأخرةً عن نظيرتها في القاهرة، ودخل بيتَنا في نهاية الثمانينيات. وعلى الأثر، انصرفت جدّتي وأمي رويداً رويداً عن رواية الحكايات الشعبية لتتفرّجا على مسلسلاتٍ تُعرَض في الظهيرة والمساء. انشغلنا نحن الأطفال بسماع برنامج الأطفال "غنوة وحدّوتة" على إذاعة البرنامج العام. وقد تعرّفنا من خلاله على قصص "أَبلَة فضيلة"، الإذاعية المصريّة فضيلة توفيق عبد العزيز. ودارت بعض هذه الحكايات حول ثعلبٍ مكّارٍ وطفلٍ كسولٍ وبومةٍ وعصفورة.

تراجعَتْ أمي وجدّتي عن رواية القصص لنا في الليل. وإن حَكَتا، تغَيِّران شخوصَ العفاريت بشخصياتٍ واقعيةٍ تستعمل عقلَها وتستطيع أحياناً هزيمة العفاريت نفسها. لم يعد الهدف من القصص بعد انتشار الكهرباء وأجهزة التلفزيون إجبارنا على النوم مبكراً. فقد بدأنا نكبر في العمر، ونغادر رويداً رويداً مقاعد الأطفال المتلقّين الذين سرعان ما يصدّقون قصص العفاريت.

حَكَتْ لنا أمي ضمن سلسلة قصصها الجديدة قصة الصيّاد والعفريت. وقالت إن صياداً يملك مركباً صغيراً يعاني من النحس لأنه لم يصطد سمكةً واحدةً منذ ثلاثمئة سنةٍ تقريباً. لكنّه رَمَى شِباكَه ذات ليلةٍ، فاصطاد إبريقاً من الذهب الخالص. وما إن فتحه الصيّاد حتّى خرج منه دخانٌ كثيفٌ ثمّ ظهر عفريتٌ عملاقٌ هدّدَ الرجلَ الفقير بالقتل، وأمْهَلَه خمسَ دقائق حتّى يلتقط أنفاسَه ويشرب قليلاً من الماء. لكن وقبل انتهاء المهلة القصيرة، اهتدى الرجل إلى حيلةٍ عجيبة. وافق أن يقتله العفريت بشرط أن يبرهن له أولاً، أنّه حقاً عفريتٌ عملاقٌ كان يعيش داخل إبريقٍ ذهبي صغير. وما إن دخلَ العفريت الإبريقَ، أغلقَ الرجل عليه جيداً ثم رماه في النيل.

هكذا بدأتْ الحكايات الشعبية تأخذ مكانةً أقلّ تأثيراً في حياتنا. وأصبحتْ "مجرّد قصصٍ" بعد أن كانت جزءاً من منظومةٍ ثقافيةٍ شعبيةٍ نؤمن بها، كما كنّا نؤمن بقصص التوائم القطط. ويعزو محمد الجوهري انقراض موادّ شعبيةٍ شفاهيةٍ ما إلى تأثير وسائل الاتصال الجماهيري الحديثة كالتلفزيون على سلوك الناس، وأثرها المتزايد في تبني أساليب الحياة الحديثة. ويضيف عليها عوامل المخالطة البشرية الناتجة من الهجرة والاستيطان والسياحة.

يرى الجوهري في كتابه كذلك أنّ التراث يقاوم خطر الحَداثة التقنية، لكنّ مقاومته هذه يحكمها قانونا الاستمرار ونشوء البدائل. ويعني قانون الاستمرار، من وجهة نظر الباحث المصري، أنّ الإبداع الشعبي يظلّ يودع مأثورَه، ويتناقله من بيئةٍ إلى بيئةٍ ومن جيلٍ إلى جيل. أما قانون نشوء البدائل، فيعني أنّ استمرارية الإبداع الشعبي مرتبطةٌ باستمرارية الحياة. "ففيها جزئياتٌ تموت، وجزئياتٌ تُولَد، وفيها نماذج تفقد وظائفها ودلالتها وتختفي، ونماذج أخرى تكتسب وظائف جديدة [. . .]. وفيها مأثورات ينكمش مدارها، ومأثوراتٌ تقيم وتحلّ محلّ مأثوراتٍ أخرى، وفيها مأثوراتٌ تهاجر وتستقر في مواطن استعمالٍ جديدةٍ".

لهذا يقترح الجوهري للدارسين الشعبيين أن لا ينظروا إلى التراث باعتباره كياناً جامداً. "[. . .] فالتراث كيانٌ متغيّرٌ [. . .] وله طابع إعادة الإنتاج، وإعادة التوظيف".


استحضرتُ خلال زيارتي الميدانيّة العائلية طوال شهر فبراير 2025 قصة شقيقيّ حسن وحسين، في حضورهما وحضور باقي إخوتي. كَبر التوأم ولايزالان حتى اليوم يؤمنان بطلوع أرواح التوائم قططاً في سَوادِ الليل. تفاجأت بهما يفتتحان معاً، عفويّاً وفكاهيّاً، حكايةَ حاسّة شمّهما روائحَ السمك والبصل المقلي من مسافاتٍ بعيدةٍ مثل القطط.

لم يشارك أبناء إخوتي الأطفال في سماع قصص طفولتنا. كانوا يمسكون هواتفهم الذكيّة كلّ الوقت ويفتحون وحدهم منصة يوتيوب. فيتفرّجون على قصص "سندريلا" و"سنو وايت والأقزام السبعة" و"أليس في بلاد العجائب"، الحكايات الشعبية الغربيّة البعيدة واقعاً متخيّلاً ومكاناً متخيّلاً ولغةً وشخوصاً ووظائفاً عن صورة الواقع الذي يعيشونه كلّ يوم.

حَكى أخي رجب أنّه كان مكلّفاً بالمرور كلّ يوم خميس وسبت من كلّ أسبوعٍ إلى بيوت الخالات والعمّات لتنبيههنّ أن لا يطبخنَ السمك لأن القطط تحبّ رائحة السمك. ثم تحدث عن دوره في اصطياد وتحنيط تمساحٍ صغيرٍ أعلى مَدْخَل بيتنا لمنع خروج حسن وحسين من باب البيت. يقول أخي إن "الموبايل هو السبب في اختفاء الحواديت الشعبيّة. العيّل معاه موبايل في وادٍ، وأمّه معاها موبايل في وادٍ تاني خالص. أمهات اليومين دول لو سمعوا حواديت أجنبيّة بالإنجليزي أو حتّى حواديت مدبلجة للعربي الفصيح مش هيفهموا ولا كلمة بسبب حاجز اللهجة. الموبايل كَمَان عَمَل عزلة نفسية بين الطفل وأمّه وبين كل أفراد الأسرة وبعضهم البعض. بعد ده كله نسأل نَفْسِنا: راحت فين الحواديت؟ السؤال الحقيقي: راح فين وَنَس العيلة؟ اختفى مع الحواديت".

تدخلتْ في الحديث ليلى، وهي أمٌّ شابةٌ من بنات العائلة، لتنبّه إلى أنّ غالبية الأمهات الشابات لا يقلقن من تأثير القصص الغربية على الأطفال. قالت: "أنا مثلا مشْ بخاف من إن الحواديت الأجنبية تعمل حاجة في عقل العيّل أو سلوكه، لأنّ العيال مش بيفهموا كل الحدّوتة علشان بتتقال بالإنجليزي أو العربي وهمّ لسّه ما بيعرفوش يقروا أو يكتبوا كويّس. يعني الأطفال ممكن يتفرّجوا على حدّوتة متصوّرَة بشكل مبهر، لكن بينسوها تاني يوم الصبح. والدليل إنهم ولا مرّة سألوني عن حاجة أو موقف في حدّوتة أجنبية، وكَمَان همّ مشْ بيطلبوا مني أساساً أحكي لهم حواديت. وأنا بصراحة مضغوطة طوال اليوم في الشغل والبيت".


نجحتُ في ختام الزيارة في جمع قصة الفلاح الحائر، التي كانت ترويها جدّتي حليمة أو أمي. وتقول القصة إنّ فلّاحاً كان يزرع أرضَه التي تجاور جبّانة الموتى (أي المقبرة) سمِعَ صوتاً من السماء يقول إن فلاناً وفلانة سوف يموتان غداً. فانزعجَ الفلاح لأنّ فلانة هي زوجته التي يحبّها، مستغرِباً موتها اليوم التالي مع أنها تنعم بصحّةٍ جيدة. فلما كان الصباح التالي مات فلانٌ، فتأكد الفلاح أن زوجته سوف تموت في أيّ ساعةٍ خلال اليوم، لذا ودّعها وذهب إلى الحقل حزيناً. ولمّا عاد في المساء، متوقعاً سماع صراخ النسوة على زوجته، وجدها تستقبله وهي في أتمّ صحّةٍ وعافية.

عاد الزوج في اليوم التالي إلى الجبّانة، واستفسر من الصوت الغريب عن سبب بقاء زوجته على قيد الحياة. فردّ عليه الصوت وطلبَ منه أن ينظر إلى السماء كي يعرف السبب. ولمّا نظر الفلّاح الحائر إلى السماء، وجد طبقاً كبيراً من الفخّار يقف حاجزاً بين نزول حجرٍ كبيرٍ مدبّبٍ من السماء على رأس أيّ بشر. عاد الفلّاح إلى البيت وسأل زوجته عمّا فعلتْ بالأمس، فإذا بها تخبره أنّها أعدّت لنفسها طبقاً من البيض المقليّ اللذيذ، لكن أحد الشحّاذين الجائعين طرق باب البيت قبل أن تأكل لقْمةً من البيض. فآثرَت الشحّاذَ على نفسِها وأكل وشبِعَ ودعا لها بطول العمر. تأكدَ الفلاح عندئذ أن طبقَ الكَرَم منعَ حجر النِقَم.

أنهيت قصة الفلاح الحائر جمعاً وتوثيقاً، لكنها اختفَتْ من صدور النسوة الراويات الشابات. ومع ذلك تبقى الحكايات الشعبية التي خَفَتَ حضورها وحضور وظائفها وراوياتها ذاكرةً شعبيّة تسجّل وتحفظ ملامحَ أولَّ نشاطٍ روحيٍّ شعبيٍّ شكّلَ من خلاله أطفال مصر موقفَهم المعتقديّ العاطفيّ الخرافيّ الأول من العالم.

اشترك في نشرتنا البريدية