يبدو الطلب عادياً. فقد وجِّه لشخصٍ يعمل في فضاء الشأن العام والصحافة منذ سنواتٍ طويلة. لكنها كانت لحظة هامة في تاريخي الذاتي، وربما في تاريخ التجربة السجنية السورية. فمع أول عبارةٍ نطقتها مرسلاً السلام والتحية والمعايدة، بُثّت يوم السبت الأول من رمضان بعد انتهاء حكم الأسد، شعرت أن موقعي في تجربة السجن قد تغيّر وأن عليَّ إعادة تعريف مكاني.
حَمَلَ برنامج "أبناؤنا في العالم" في طيّاته آلاف القصص والحكايات عن السجناء وذويهم، وخاصةً في سجن صيدنايا العسكري. ومَثَّلَ جسراً صوتياً وصل بين عالمَين منقطعَين. عالم الأبناء الذين دفنهم الأسد في سجونه، وعالم أهلهم المدفونين تحت الخوف والحزن والفقدان الغامض. لذلك لم يكن "أبناؤنا في العالم" مجرد برنامجٍ إذاعي للمغتربين. هو جزءٌ من التاريخ الشفوي للنضال والحنين والسجن السوري، وتاريخ بطولات أمهات المعتقلين بشجاعتهنّ وجرأتهنّ في مواجهة مملكة الصمت الأسدية.
خلال عملي على كتابي عن تاريخ سجون الأسد، التقيت عشراتِ المعتقلين السابقين الذين لهم علاقة وطيدة مع برنامج "أبناؤنا في العالم". إما تلقوا اتصالات ذويهم عبره أو عرفوا أنه بريد السبت لرفاقهم، فبات بريدهم هم أيضاً. وكانت هذه حالتي. فأنا لم تردني أي اتصالات عبر البرنامج، ولكنه بات جزءاً من ذاكرتي وهويتي وعلاقتي مع الحياة، لا مع السجن فقط.
اليوم بتّ ضيفاً ومتحدثاً في البرنامج الذي لم يغب عن ذهني لحظةً واحدة في عشرين عاماً، منذ خروجي من السجن العسكري الأول، سجن صيدنايا. تذكرت، مع أولى كلماتي في اللقاء، تلك الأغنية الافتتاحية للبرنامج بصوت نجاة الصغيرة وهي تردد: "حبايبنا عاملين إيه في الغربة وأخباركم إيه". ومعها تذكرت وجه أبو العلا العراقي الذي كان يختبئ خلف ستائره، حاجباً فراشه عن عيوننا في غرفتنا رقم ستة في الجناح باء، يمين الطابق الثاني. وكان ينام في جوار باب الغرفة المعدني العملاق، ربما ليقصر المسافة بين الحرية وسنوات سجنه التي كانت قد جاوزت خمس عشرة سنة في 2003.
كثيراً ما استرقت السمع إلى أنين أبو العلا مع الرسائل التي تحمل بعض الكلمات الطيبة لرفاق سجنه من أمهاتهم وذويهم، وبالذات رسائل أم عمران مستت. مات عمران تحت التعذيب، ولم تعلم أمه التي لم تملّ من الاتصال إلى برنامج "أبناؤنا في العالم" كل سبت لتردد: "مرحبا يا ابني يا عمران، كيفك؟ كيف صحتك؟ كيف رفقاتك؟". عند كلمات أم عمران المتلهّفة والحنونة، كانت تختنق الكلمات في أفواهنا جميعاً. ثم نبكي مع قولها: "الله يحن عليك يا ابني، بعتت لك شال وكنزة صوف، أنا ساويتهم. عم يقولوا الدنيا عندك برد، تغطى منيح يا أمي". ونصمت خشيةَ أن تشي بالسرّ الرهيب في اختتام رسالتها: "الله يفرج عنك وعن رفقاتك يا ابني".
حين ينقطع الاتصال يتنهّد السجن مهمهماً بدموع رجالٍ اشتاقوا أمهاتهم، رجال لم يمكنهم البوح بغير الدموع. ومعها تختنق الحكايات المعلقة في فضاءات المهاجع المرتبة في سلاسل الأجنحة الكثيرة، وتغصّ خيالات الأسرى خلف الأسوار بكثافة العجز أمام الصوت العابر. لماذا علقتْ برأسي ورؤوس الكثيرين كلمات أم عمران مستت وصوتها العتيق دون سواها؟ أيملك السجناء لاوعياً مشتركاً؟
عقب سنواتٍ طويلةٍ تَلَتْ خروجي من السجن، بقي في رأسي ندرة من تلك القصص الكثيرة التي بثها برنامج "أبناؤنا في العالم". ولذلك كنت أسعى للوصول إلى أرشيفه أثناء بحثي للعمل على كتابي "الغولاك السوري" المنشور سنة 2023. كان منها حكاية المعتقل السابق محمد من مدينة حلب. اعتُقل محمد بعمر ست عشرة سنة في سجن تدمر، ثم نُقل بعد ثماني سنوات إلى سجن صيدنايا. وهناك سجّلت له إحدى قريباته عبر البرنامج رسالةً صوتيةً تخبره فيها بوفاة والدته وزواج إحدى شقيقاته. وكذلك دياب من مدينة حمص، الذي اعتُقل بعمر سبع عشرة سنة في سجن تدمر، وبعد سنوات نُقل إلى صيدنايا. وهناك تلقى رسائل كثيرة من أهله عرفَ فيها أخبارهم، ولكنهم لم يعرفوا شيئاً عنه.
صار البرنامج حماماً زاجلاً ينقل الرسائل باتجاهٍ واحد. ينقل أخبار الأهل لأبنائهم، ولكن نادراً ما نقل الأبناء أخبارهم لذويهم في الخارج. كانوا يكتبونها بخطٍ صغير، ويدفنون الورقة الملفوفة وسط طبقاتٍ من الأخشاب، أو في حباتِ الحلويات التي يرسلونها عبر رفاق سجنهم المفرَج عنهم أو من يحصلون على زيارات.
لم تبدأ حكاية "أبناؤنا في العالم" في فترة سجني بين مارس 2002 وأبريل 2004. ففي مقاله المنشور في مايو 2015 بموقع "كلنا سوريون"، يعتقد المعتقل السابق مالك داغستاني أن البداية كانت مع الأخوين حسن وحسين. شابّان من مدينة حمص اعتُقلا يافعين وقضيا الجزء الأكبر من سنوات اعتقالهما في سجن تدمر، مثل كثير من المعتقلين منذ بداية الثمانينيات. وعندما انتقلا إلى سجن صيدنايا في نهاية الثمانينيات، هرّب بعض السجناء –الذين حظوا بزيارات– أجهزة مذياع، وهرّب الأخوان رسالةً بواسطة هؤلاء السجناء لِطمأنة عائلتهما أنّهما ما زالا حيَّين في سجن صيدنايا. وفي الرسالة، طلبا من أمّهما الاتصال ببرنامج "أبناؤنا في العالم" لسماع صوتها وأخبار العائلة. اتصل الأهل، وكانت لحظة تاريخية في حياة السجن، بكى فيها الأخوان وأبكيا جميع السجناء.
استمرت القصة حتى حدث العصيان الذي استمرّ عدة أسابيع في سجن صيدنايا سنة 2008، والمعروف بين السوريين باسم "استعصاء سجن صيدنايا". وقتئذٍ انقطعت الرسائل نتيجة فراغ السجن. فقد نقلت السلطات جميعَ السجناء مع نهاية عام الاستعصاء إلى فروعٍ أمنية أو سجونٍ مدنية على امتداد الأرض السورية.
سأعيد صياغة كلمات عالم اللسانيات الشهير رومان ياكوبسون في كتابه "ست محاضرات في الصوت والمعنى" المنشور سنة 1976، الذي ناقش فيه قصيدة الغراب لإدغار ألن بو. قال رومان إن البشرية تعرف أن الكلمة وحدةٌ مكوّنة من عنصرَين. الصوت وهو الجانب المادي، والمعنى وهو الجانب المفاهيمي، أي ببساطة الدال والمدلول. إذن، هل يحمل صرير فتح الأبواب ما تحمِله الكلمات من صوت ومعنى؟ وهل لصوت رمي عمودٍ معدني مصمت في ساحة التعذيب، وسط أجنحة سجن صيدنايا، دلالة مغايرة عن معناها المعتاد؟
لكلماتِ الأمهات الآتية إلى السجن من أثير إذاعة دمشق أثرٌ يتجاوز تواصل أي أمٍّ مع بنيها. كان صوت الأم يصل إلينا عبر منصة النظام الذي يسجننا ويحرمنا من الأم نفسها. كنا نرى الإذاعة صوت القهر والسجن، وصوت أحبابنا في الآن نفسه. كيف يمكننا ترقب الإذاعة ولعنها معاً؟
كانت الأصوات الإذاعية رفيقة الجلسات السجنية. صباحاً إذاعة "مونت كارلو"، وفي الظهر نسمع أخبار إذاعة "بي بي سي"، ومساءً يتهادى صوت أم كلثوم من إذاعة الكويت. وكنا نشتري أجهزة المذياع التي تعمل على البطاريات سراً، مستفيدين من فساد بعض السجّانين. ثم يأتي خبير البث، وهو سجين يملك بعض الأسلاك النحاسية، يمددها مخفية داخل المهجع لتصل النافذة المقابلة في جدار الجناح، فيعطي الراديو فرصةَ التقاط المحطات.
لم يرد أحد سماع إذاعة دمشق باستثناء برنامج "أبناؤنا في صيدنايا" كما بتنا نسمّيه بدلاً من "أبناؤنا في العالم". لا أحد يريد سماع أخبار الرئيس الذي يستقبل ويودّع طيلة حكمه. فمن يريد سماع صوت جلّاده؟
والمفارقة أن إذاعة دمشق لا تحتاج أسلاكاً وتمديدات، فقد كانت تبث عبر الموجة الطويلة. ولذا فهي تَصِلكَ حيث أنت مثل يد الجلاد الطويلة والقاسية، تلك اليد التي تتنبأ بمكان سقوطها على جسدك. فأنت معمى العيون "مطمش"، لذا تتقن مع الوقت تحليل اهتزازات الهواء وربطها مع صوت الجلاد واتجاهه. تراها بأذنيك وتدرك أنها تصفعك على خدّك الأيمن، فلا تعطي لها خدّك الأيسر.
في روايته "العمى" المنشورة سنة 1995، يدفع الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو بأحد أبطاله للصراخ أنه فقد بصره. ولكن السجناء في سوريا لم ينالوا فرصة الصراخ والإعلان أنهم قد فقدوا بصرهم، كما فعل السائق في رواية ساراماغو الذي صرخ عالياً في سيارته: "أنا أعمى"، وبعدها أصبح العالم بجميع تفاصيله أبيض.
الاعتياد مرضٌ يصيب جميع الحواس، لا النظر فقط. في السجن تعتاد اللون الرمادي للأبواب المعدنية العملاقة، وتعتاد مشاهد النوافذ المشنوقة في جدران الجناح العالية. تعتاد أيضاً وجوه رفاقك المبيضة الشفافة من قلّة الشمس، ولون البطانيات العسكرية البنّي القاتم. تعتاد جميع الصور المكررة، إلا أن سَمَعَك يبقى حياً متضخماً، متمسكاً برغبة الفحص المستمرة لجميع الهمسات البشرية وصفير الرياح وفتح الأبواب كل صباح.
حتى الأصوات المتكررة المتشابهة حَمَلَتْ لنا دلالات مختلفة. فالتكرار أدخلها حيّز التحليل لفهم الدلالة الكامنة وراء تغيّراتها الطفيفة. مثل لحن كلام السجان هذا اليوم، ولحن فتح باب الجناح هذا الصباح.
أخبرت المستمعين عن "الاستحباس"، أي الاستسلام للسجن والتكيّف معه، وكيف ينجّينا الاستسلام اللاواعي للقدر من الموت كمداً وحسرة. هناك في السجن تقاوم بعضاً من وقت، ثم تصير والداً حنوناً يسلّي وقته بخلق حياةٍ جديدةٍ تغرقها بالتفاصيل الكثيرة. تحدّيات سجنية وصراعات سجنية وإنجازات سجنية وأحلام سجنية يستحيل معها السجن عالمك الخاص. فتصير أنت سيّد نفسك، وبك دون سواك يعرف الجلّاد نفسه.
