من الساحل إلى السويداء.. لماذا يستمر العنف في سوريا

لم تنجح الحكومة الانتقالية في سوريا في بناء مشروع وطني جامع ما وضع البلاد في دوامات مستمرة من العنف الطائفي والعرقي والمناطقي.

Share
من الساحل إلى السويداء.. لماذا يستمر العنف في سوريا
الحرب الأهلية لم تفتّت الخرائط فحسب، لقد فتّتت القلوب | تصميم خاص بالفراتس

"من الفرح إلى الجزع"، يختصر الموظف المتقاعد من ريف دمشق أبو سامر بهذه الكلمات شعور السوريين بعد مرور تسعة أشهر على سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر 2024. قالها وهو يحدّق في الطريق المؤدِّي إلى العاصمة دمشق، التي تحوّلت ثكنةً معزولةً، تحيط بها مناطقٌ تغلي بالاحتقان ويقول: "ظننّا أن الجدار انهار، لكننا اكتشفنا أننا في متاهةٍ بلا أبواب".
بعد أشهرٍ قليلةٍ من سقوط الأسد، خَفَت بريقُ التفاؤل تحت ثقل الدم والاحتقان. فمنذ مارس الماضي، تصاعدت موجات العنف من جديد: مجزرةٌ داميةٌ ارتكبتها قوات الحكومة الانتقالية ومسلحون مؤيدون لها في الساحل في مارس وأودت بحياة أكثر من ألفٍ وأربعمئة شخصٍ غالبيتهم من العلويين، واشتباكاتٌ مسلّحةٌ في ضواحي جرمانا وصحنايا دمشق التي يسكنها عدد كبير من الدروز، و صِدامٌ مسلح في السويداء تحوّل من نزاعٍ محلّيٍ إلى مواجهةٍ مفتوحةٍ، أعقبها انسحاب قوات الحكومة المؤقتة على عجل تحت وطأة قصفٍ إسرائيليٍ دمّر مبنى قيادة أركان الجيش السوري في ساحة الأمويين بدمشق واستهدف أطراف القصر الجمهوري حيث يقيم الرئيس أحمد الشرع. وفي شمال شرقي البلاد، يظلّ التوتر بين الحكومة الانتقالية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي يقودها الأكراد وسط ارتباكٍ دوليٍ.
لم تكن هذه المواجهات أحداثاً عابرة، بل كانت إشاراتٍ إلى أن سوريا ما بعد الأسد لم تدخل بعد في سلامٍ حقيقي. إذ لم يؤدِّ سقوط النظام إلى بناء دولةٍ جديدةٍ بعد، إنما أعاد إنتاج منظومة العنف والولاءات التي حكمت سوريا عقوداً، فباتت السلطة الانتقالية محصورةً في العاصمة فيما تحكم باقي مناطق البلاد شبكاتٌ محلّيةٌ مسلّحةٌ ذات هويّاتٍ طائفيةٍ ومناطقيةٍ وعشائريةٍ منغلقةٍ تغذّيها مظلوميات مرحلة الأسد وفوضى السلاح والتنظيمات المسلحة. وإلى جانب هذا الخلل البنيوي الداخلي، تكبّل التدخلات الإقليمية والدولية القرارَ الوطني وتسمح بإدارة الملفات السورية من خارج الحدود. وبذلك، تصبح الحكومة الانتقالية عاجزةً عن تفكيك جذور النزاع، ما يترك البلاد عالقةً بين ضعف الحكومة في الداخل وارتهان قرارها لقوى خارجية، وهو ما يبقي شبح الحرب الأهلية يطوف فوق السوريين .


بدت سوريا وكأنها عبرت أخطر منعطفٍ في تاريخها الحديث حين سقط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر 2024، بعد نصف قرنٍ من الحكم الأمني. وعمّت لحظةٌ نادرةٌ من التفاؤل حينها واحتفل الناس في الشوارع وكأنهم قد طووا صفحة الماضي. وانطلقت رهاناتٌ على ميلاد سوريا جديدة في العواصم الإقليمية والدولية .
لكن الواقع بدّد ذلك الإحساس سريعاً. الدولة التي ورثتها الحكومة الانتقالية لم تكن مجرد نظامٍ بلا رأسٍ، بل كياناً شبه منهار: مؤسساتٌ متصدعةٌ واقتصادٌ مدمَّرٌ ومجتمعٌ منقسمٌ يتقاذفه الخوف وانعدام الثقة وبلدٌ مثقلٌ بتركةِ أربعة عشر عاماً من النزاع المسلح ونصف قرنٍ من الاستبداد.
ليست هذه مجرد عناوين إخباريةٍ، بل هي صورة بلدٍ يقف على حافة الهاوية. وجدت هذه الصورة الميدانية صداها في الأوساط الدولية. فبحسب "مؤشر الدول الهشّة" (الذي يصدر عن صندوق السلام ومجلة فورين بوليسي الأمريكية ويقيّم الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجه 178 دولة حول العالم) احتلت سوريا المرتبة الرابعة عالمياً في ترتيب الدول الأكثر هشاشة سنة 2024، في انعكاسٍ مباشرٍ لضعف الدولة وإرث نظامٍ، جعل من تصحير السياسة وتفكيك المجتمع إستراتيجيةَ حكم.
الخوف من عدم نجاح المرحلة الانتقالية في سوريا لم يعُد هاجساً للنقاد والباحثين فحسب، بل أصبح حاضراً في خطاب الفاعلين الدوليين. إذ عبّر عنه مبعوث الأمم المتحدة الخاصّ غير بيدرسِن عقب هجوم قوات الحكومة الانتقالية وقوات العشائر على السويداء في يوليو 2025، حين حذّر من أن الثقة في الأمن الدائم "تعتمد قبل كلّ شيءٍ على مصداقية الانتقال السياسي"، مؤكداً أن الولاء للدولة لا يفرض بالقوة، بل يُكتسب عبر عمليةٍ تمثيليةٍ تحمي الحقوق وتضمّ الجميع على قدم المساواة.
تصف الأدبيات المتخصصة المراحلَ الانتقاليةَ في الدول الخارجة من صراعاتٍ طويلةٍ بأنها "اللحظة الأخطر" في مسار بناء الدولة. بحسب دراسات الخبير البريطاني بول كوليير وزملائه، مثل دراسة "بريكنغ ذا كونفلكت تراب" (الخروج من فخّ الصراع) الصادرة سنة 2003، ودراسة "بوست كونفلكت رِسكس" (مخاطر ما بعد الصراع) الصادرة سنة 2006، فإنَّ نحو نصف الحروب الأهلية المعاصرة هي تجددٌ لنزاعاتٍ سابقة. وغالباً ما يحدث الانتكاس خلال السنوات الخمس إلى العشر الأولى التالية لتوقيع اتفاقيات السلام.
تظهر التجارب المقارنة أن إسقاط النظام القديم لا يكفي لإنجاح الانتقال السياسي. مثلاً، تشير ليسا غروس في كتابها "بيس بيلدنغ آند بوست وور ترانزيشنز" (بناء السلام وتحولات ما بعد الحرب) الصادر سنة 2017، لاعتماد نجاح المرحلة الانتقالية على قدرة النخب الجديدة على بناء مشروع وطني جامع يعالج جذور الحرب بدل تدويرها.
في سوريا، التحديات أوضح من أن تُخفى. فقد ورثت الحكومة الانتقالية خزاناً اجتماعياً محمّلاً بالمظالم العميقة، جعلت إعادة الثقة بين مكونات المجتمع السوري مهمَّة شاقة تتجاوز قدرة أي سلطة ناشئة.
وبدلاً من استثمار لحظة الإجماع الداخلي والدعم الخارجي لصياغة خارطة طريق انتقالية شاملة، اختارت السلطة مساراً أقرب إلى "حكم الضرورة" من وجهة نظرها. في يناير 2025، عقدت السلطة ما أسمته "مؤتمر النصر" بمشاركة الفصائل العسكرية المنتصرة فقط، وعلّقت العمل بالدستور وحلَّت البرلمان والجيش والأحزاب، وأعادت بناء الجيش والأجهزة الأمنية في غياب أي مؤتمر وطني عام. ثمَّ أصدرت السلطة إعلاناً دستورياً صِيغ في دوائر ضيقة، وشكلت حكومةَ سيطر عليها اتباعها والمقربون منها، في خطوة فسّرها كثيرون على أنها تقاسم للغنيمة بين المنتصرين لا مشروعاً لإعادة بناء الدولة.
تُحذّر دراسة "العدالة الانتقالية والهوية في المجتمعات المنقسمة" الصادرة عن المركز الدولي للعدالة الانتقالية سنة 2009، من هذا المسلك. فعندما يُختزل الانتقال بقرارات سلطوية، وتغلق ساحات السياسة، تتحول الهوية إلى خندق، ويُترك السلاح بلا مسار نزع جاد، وتتراجع الثقة بين المكونات لصالح مشاعر الخوف والمظلوميات، كما حدث في العراق وبلاد البلقانا.
هذا ما انعكس في سلسلة الأزمات التي عصفت بسوريا بعد أشهر قليلة من سقوط الأسد، ابتداء بمجازر راح ضحيتها مئات العلويين في الساحل، ومن ثم مواجهات مسلحة دامية بين قوات الحكومة وقوات درزية في ريف دمشق وبعدها هجوم قوات الحكومة والعشائر على السويداء، ثم التوتر المتجدد في الشمال الشرقي بين قوات الحكومة وقوات سوريا الديمقراطية بقيادة الأكراد، فضلاً عن حوادث العنف وعمليات الانتقام والتصفيات العشوائية التي تحصل يومياً في المدن والأرياف السورية في ظل غياب مسار واضح للعدالة الانتقالية.
هذه الوقائع تجاوزت بالفعل عتبة الحرب الأهلية، التي يعرّفها برنامج أوبسالا لبيانات النزاعات الحرب الأهلية، بأنها نزاع مسلّح يسقط فيه أكثر من ألف قتيل سنوياً. لم يعد العنف في سوريا مجرد أحداث أمنية متفرقة، بل صارت الوقائع المتلاحقة علاماتٍ واضحة على عودة النزاع المسلَّح، حيث تنكسر أوهام التعافي سريعاً، وتعود المجتمعات الخارجة من الحرب إلى لغة السلاح بدل السياسة.
إن الفشل هنا لا يمكن اختزاله في سوء النية، بل هو نتاج تعقيدات اللحظة، والثقل الهائل الذي أورثه النظام السابق، وضعف كفاءة أدوات السلطة الانتقالية، والبيئة الهشَّة التي تعمل بها. مع ذلك، فإن الأخطاء السياسية التي ارتكبتها السلطة الانتقالية في دمشق – من إدارة أحادية للمسار الانتقالي، إلى غياب مشروعٍ وطنيٍ شاملٍ يفتح المجال للعدالة الانتقالية والمصالحة الحقيقية – جعلت آثار إرث نظام الأسد الثقيل أكثر فتكاً.


بعد سقوط النظام، لم تكن تركة الأسد مجرد مؤسسات مدمَّرة أو خزينة خاوية، بل منظومة عنف متجذِّرة تربط السلطة بالمجتمع عبر شبكات ولاء وخوف ومصلحة. على الأرض، كان الوجهاء المحليون والوسطاء العشائريون وفلول الأجهزة البعثيَّة وتجَّار الحرب الأهلية مستمرين في مواقعهم، يملأون الفراغ الذي تركه رأس النظام.
وكما يوضح الباحث في دراسات العنف، علي الجاسم، في مقاله "وسطاء العنف.. دولة التشبيح الأسدية" في مجلة الفراتس فإن حكم الأسد لم يستند إلى الجيش والأجهزة الأمنية وحدها، بل استند إلى شبكة لامركزية من الفاعلين المحليين، تتكيَّف مع التحولات وتحافظ على نفوذها عبر تبادل الولاءات والمصالح. هذه البنية تشبه "الجذمور"، وفقاً لتعبير الفيلسوفَيْن الفرنسيَيْن جيل دولوز وفليكس غاتاري في كتابهما "أ ثاوساند بلاتوز: كابيتاليزم آند سكيزوفرينيا" (ألف هضبة: الرأسمالية وانفصام الشخصية) الصادر سنة 1980. وهو كيان لا يُقتلع من الجذور، بل يتشعَّب ويتجدد لملء الفراغ.
سقوط النظام لم ينهِ هذه الشبكات، بل أعطاها فرصةً لإعادة التموضع داخل ترتيبات الحكم الانتقالي. اندمج وسطاء العنف السابقون وفصائل معارضة سابقة في مؤسسات الحكم الجديدة تحت شعارات "التسويات" أو "الحفاظ على الاستقرار"، أو ضمن الأجهزة الأمنية المستحدثة. ولا تزال مجموعات مسلَّحة تعمل خارج نطاق الدولة على امتداد الجغرافيا السورية، بما في ذلك قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها أكراد في شمال شرقي سوريا، والفصائل المسلحة الدرزية في السويداء. وهكذا، تطورت ظاهرة مشابهة لتلك التي يرصدها عالم القانون والسياسة الألماني إرنست فرانكل في كتابه "ذا دوال ستيت" (الدولة المزدوجة) الصادر سنة 1941: دولة رسمية محصورة في العاصمة، وأخرى غير رسمية تتحكَّم بالواقع عبر الشبكات المحلية.
هذا الوضع ترك الحكومة الانتقالية في معضلة، فهي تتحدث لغة الدولة، لكنها تتحرك على أرض تحكمها قوانين الولاءات والهويات الطائفية والعرقية والمناطقية. تحاول بسط نفوذها على مناطق البلاد، لكن هذه المناطق باتت أشبه بجزر معزولة، لكلٍّ منها حساباته وفواعله المحليين، وإن أبدى بعضهم خضوعاً شكلياً للسلطة المركزية. من دمشق، حيث تُعقد المؤتمرات عن "العهد الجديد" والاستقرار والاستثمار، يبدو المشهد وكأنه بداية إعادة بناء الدولة. لكن كلما ابتعدنا عن أسوار العاصمة، اتَّضح أن الصورة أكثر تعقيداً: سلطة مركزية تحاول التشبث بالزمام في رقعة صغيرة، مقابل فراغ سياسي وإداري وأمني يبتلع مناطق البلاد خارج العاصمة.
يعكس هذا التكوين ما يمكن تسميته "نموذج العاصمة"، أي تمركز مؤسسات الدولة في بضعة كيلومترات مربعة، وغياب سلطة الحكومة والخدمات عن باقي مناطق البلاد. تناولت الباحثتان ألينا روشا مينوكال وفيرا فريتز هذا النمط في ورقة بحثية لمعهد التنمية الخارجية، نشرت سنة 2007، وخلصتا إلى أن الدول الهشة تميل إلى ترك مناطق الأطراف لمصيرها، ما يضعف الرابط الوطني ويغذي الأزمات.
الحالة السورية اليوم تقدم شواهد واضحة على هذا المسلك. أرسلت شخصيات محلية من دير الزور بياناً مطَّولاً إلى رئيس الجمهورية أحمد الشرع تشتكي فيه الإهمال وسوء الإدارة وغياب الخدمات الأساسية. وتعيش الرقة والحسكة خارج الإطار الوطني كلياً تحت حكم أمني صارم من قوات سوريا الديمقراطية، ويعتمد الناس في حلب على المبادرات الأهلية لتعويض غياب خدمات الدولة. تشترك حمص وحماة والساحل في الشعور بالتهميش، فيما يستمر العنف الانتقامي وحوادث القتل خارج القانون. هذه المناطق جميعها تعيش مزيجاً من الفقر والإهمال وتآكل الثقة في الدولة، ما يغذي مشاعر الغبن والرغبة في الانتقام ويجعل أي مشروع وطني للتعافي مجرد شعارات بلا أثر على الأرض.
في المقابل، تتحول العاصمة تدريجياً "قلعة حصينة" تنشغل فيها السلطة بحماية نفسها أكثر من حكم البلاد. تترك السلطة الحكم في باقي مناطق البلاد لمجموعات مسلحة طائفية أو عشائرية أو عرقية أو مناطقية وتغيب العدالة وتستبدل بالقوة وحكم الأمر الواقع وخطاب كراهية يقوّض الروابط المجتمعية.
هذه الهشاشة البنيوية في سوريا لا تخلق فقط أرضاً خصبة للعنف الداخلي، بل تجعل البلاد عرضة للتدخل الخارجي، إذ تتحول كل فجوة في الأطراف إلى ساحة مفتوحة أمام لاعبين إقليميين ودوليين يسعون لترسيخ نفوذهم.
ما يجري اليوم يقترب مما تسميه عالمة السياسة الأميركية باربرا والتر "السلام الهش"، في كتابها "هاو سيفيل وورز ستارت آند هاو تو ستوب ذيم" (كيف تبدأ الحروب الأهلية وكيف نوقفها) المنشور سنة 2022. وهي فترة تتعايش فيها المؤسسات الرسمية مع البذور النشطة لعودة النزاع. من دمشق المحصنة إلى مناطق البلاد المهمشة، تتشكل خريطة جديدة للعنف قد تجعل من شبح الحرب الأهلية واقعاً إذا لم يُكسر نموذج العاصمة ويعاد تعريف الدولة من جذورها.


صبيحة الحادي عشر من يوليو 2025، بدت السويداء وكأنها تكتب فصلاً جديداً في المأساة السورية. أشعل خطف سائق شاحنة على الطريق بين السويداء ودمشق غضباً مكبوتاً، سرعان ما تحول إلى اشتباكات مفتوحة بين مجموعات مسلحة محلية تدين بالولاء للرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز حكمت الهجري ومجموعات مسلحة بدوية في محيط مدينة السويداء وبعض القرى المختلطة.
ما بدأ خلافاً محدوداً على خلفية حادثة معينة تحوّل صراعاً دموياً حين فشلت قوات الحكومة في ضبط النزاع، قبل أن يتطور الأمر إلى مواجهات مباشرة بين القوات الحكومية والفصائل المحلية الدرزية، ترافقها انتهاكات واسعة بحق المدنيين من كل الأطراف.
في ذروة المعارك، جاء القصف الإسرائيلي على مقر قيادة الأركان في دمشق رسالةً حاسمةً من إسرائيل وقف الحكومة السورية عمليتها العسكرية ضد قوات الهجري وسحب قواتها فوراً من السويداء. استجابت الحكومة الانتقالية، لكن الانسحاب لم يوقف النزيف، بل كشف عمق الفجوة بين المجتمع المحلي والدولة.
انتشرت على الانترنت مقاطع مصوّرة تُظهر قيام قوات الحكومة وفصائل مسلحة عشائرية بعمليات تصفية ميدانية وقتل على الهوية لرجال دروز وانتهاكات منها حرق البيوت ونهب المحال التجارية وإهانة رجال دينٍ مسنين بقص شواربهم، وولّد ذلك شعوراً متزايداً بأن النظام الجديد في دمشق ليس حامياً للسويداء بل تهديد لها. انهارت ثقة الناس بحكومة دمشق بالكامل خلال أيام، ولم تعد السويداء ترى الحكومة وسيطاً محايداً أو ضامناً للأمن، بل خصماً.
هذا التحول انعكس في مواقف القادة الروحيين الثلاثة للطائفة الدرزية وهم حكمت الهجري وحمود الحناوي ويوسف الجربوع. اتَّخذ الهجري من البداية موقفاً صدامياً واضحاً مع الحكومة الانتقالية، فيما حافظ الحناوي والجربوع على نبرة إيجابية نسبياً، ساهمت في احتواء التوتر وتيسير التواصل مع السلطات في دمشق. لكن أحداث الأسابيع اللاحقة قلبت المعادلة، فأصدر الحناوي والجربوع بيانات مصورة في العاشر من أغسطس تدين الحكومة وتحمَّلها المسؤولية المباشرة عن الانفجار الأمني والمذابح. النتيجة: تحول القضية في محافظة السويداء من مطالب سياسية وخدمية قابلة للتفاوض، إلى رفضٍ مطلقٍ لوجود أي من مؤسسات الدولة في المحافظة.
أعاد استنفار قوات العشائر التي وتوجهها لمحاربة القوات الدرزية في السويداء خطوط التماس بين الموحدين الدروز ومحيطهم العشائري العربي، وأعادت فزعتها العشائرية إنتاج منطق الثأر والهويات المتقابلة.
تسرَّبت في هذه الأجواء إشارات دعم خارجي للفصائل الدرزية في السويداء بعد رسائل موفق طريف شيخ الطائفة الدرزية في إسرائيل والتي تبعها طلب علني من الشيخ حكمت الهجري بالتدخل الإسرائيلي، وتبع ذلك تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بإلتزام إسرائيل حماية الدروز في سوريا. أضفى ذلك على القضية بعداً إقليمياً معقداً وزاد تنامي الحراك الشعبي في السويداء المطالب بالحماية الدولية المشهد إرباكاً. ويرى المطالبون هذه الحماية الضامن الأخير لأمن المحافظة في ظل انهيار الثقة بالدولة.
المفارقة أن الفزعة العشائرية في السويداء لم تكن مجرد رد فعل محلي، بل تحولت في نظر كثيرين إلى أداة سياسية بيد السلطة نفسها. فبدل تدخل منضبط لقوات نظامية، استدعيت مجموعات رديفة وغير نظامية لحسم المواجهات، كما حدث في الساحل والسويداء، مع تلقي هذه المجموعات عبارات شكر علنية من الرئيس أحمد الشرع.
هذه السياسة عمّقت خطاب الكراهية والتحريض، وشرعنت العنف الطائفي غير المنضبط، وكرست صورة الدولة كياناً عاجزاً عن ضمان وحدته الوطنية. والأخطر، أنها قوّت القوى غير النظامية في الأطراف على حساب المركز.
اليوم، لم تعد السويداء "مشكلة أمنية" يمكن حلها بانتشار قوة عسكرية أو جلسة مصالحة. أصبحت عقدة سياسية اجتماعية تعيد تعريف علاقة الدولة بأحد مكوناتها الأساسية، وتثير سؤالاً جوهرياً: كيف يمكن إعادة بناء جسور الثقة مع مكوّن بات يرى في الدولة سلطة غريبة تستدعي الفزعات بدل أن تقدِّم حلولاً عادلة ومنضبطة؟


في السادس من مارس 2025، شنت مجموعات من المسلحين العلويين من بقايا الجيش والأمن في نظام الأسد عُرفت بوصف "الفلول" سلسلة هجمات منسقة في منطقة الساحل السوري استهدفت مقرات الجيش وقوات الأمن العام والحواجز والدوريات، وقطعت طرقات رئيسية، وسيطرت كلياً أو جزئياً على مدن وبلدات وقرى عدة، فارضة حصاراً مُحكماً على المقرات الحكومية. قدرت اللجنة الحكومية التي شكلت لاحقاً للتحقيق في تلك المواجهات أن مئتين وثمانية وثلاثين من عناصر الجيش والأمن قتلوا في الأحداث.
لم يتأخر رد فعل الحكومة حينها. تحركت القوات الحكومية والفصائل العسكرية المتحالفة معها لمحاولة استعادة السيطرة، لكن المشهد انفلت مع اندفاع مجموعات "الفزعات الشعبية" العشائرية والمحلية السنية ومجموعات مسلحة أخرى تضم مقاتلين أجانب نحو مناطق الساحل في تحرك عشوائي غير منضبط. في مشهد غير مسبوق، ازدحم الطريق الدولي بآلاف المسلحين المتوجهين إلى مناطق الساحل السوري ، فيما بدا انتفاضة مسلحة مضادة تحمل في طياتها بذور الفوضى والعنف العشوائي والانتقام.
خلال أيام قليلة، انزلقت المنطقة إلى موجة عنف غير مسبوقة: عمليات انتقامية وإعدامات ميدانية وحرق للمنازل. بلغ عدد القتلى 1426 حسب تقرير لجنة التحقيق الحكومية ذاتها. لكن الأرقام لا تعكس حجم الكارثة. شعر أبناء الساحل من العلويين بأنهم تُركوا مكشوفين أمام عنف انتقامي طائفي، فيما عجزت الدولة عن حماية قراهم أو ضبط الفزعات التي اندفعت باسمها.
كسرت المواجهات في الساحل والمجازر التي تخللتها واحداً من الثوابت التي حكمت علاقة الساحل بالدولة عقوداً: معادلة الولاء مقابل الحماية. ومع انهيار مؤسسات نظام الأسد الأمنية والعسكرية التي كانت تُشغَّل من أبناء الساحل العلويين، وتسريح آلاف الموظفين من المؤسسات العامة، وجد المجتمع المحلي نفسه في مواجهة صدمة مركبة، اتخذت طابعاً أمنياً مع انكشاف المجتمع على موجة انتقام غير مسبوقة، واقتصادياً مع فقدان مصدر العيش الأساسي، وهوياتياً عبر شعور بالاستهداف الطائفي والتهديد الوجودي.
وفي ظل ضعف قدرة الحكومة الانتقالية، وغياب أي خطة لمعالجة آثار المجزرة أو إعادة إدماج الساحل في مشروع الدولة الجديدة، ومع استمرار حوادث العنف الفردية، ارتفعت نبرة خطاب الهوية والخوف. ظهرت عبارات مثل "استهداف جماعي" و"ثمن الولاء للنظام السابق" و"ضرورة حماية الذات".
هكذا، تحوّل الساحل إلى بؤرة استقطاب جديدة في خريطة العنف السوري، يتأرجح بين الانكشاف الأمني والانسحاب الصامت من مشروع الدولة، فيما يرسخ منطق الفزعات والانتقام مكان مؤسسات الدولة.


من بين كل خرائط العنف في سوريا ما بعد الأسد، يظل الشمال الشرقي الأكثر تعقيداً، ليس فقط لتداخل القوى العسكرية فيه، بل لأنه خزان قديم للمظالم المتراكمة. تمتد منطقة شمال شرق سوريا من الحسكة إلى دير الزور إلى بالرقة، حيث يتجاور الأكراد الذين عانوا تهميشاً ممنهجاً لعقود في ظل نظام البعث، مع العرب الذين تُركت مناطقهم غارقة في الفقر والإهمال بلا خطط للتنمية.
كانت انتفاضة القامشلي سنة 2004 – حين تحولت مشكلة بين جمهور فريقي كرة قدم إلى احتجاجاتٍ واسعةٍ للأكراد ضد التمييز والقمع – أول إنذارٍ صريحٍ لما سيأتي لاحقاً: نظامٌ سياسيٌ يتلاعب بالنسيج الوطني لتعميق الشروخ الاجتماعية بدل ترميمها إذ استخدم نظام الأسد حينها مجموعات مسلحة عشائرية من دير الزور ومناطق أخرى لقمع انتفاضة الأكراد في القامشلي.
مع اندلاع الثورة السورية سنة 2011، زادت هذه الشروخ عمقاً. إذ أبرم حزب الاتحاد الديمقراطي – وهو حزبٌ سياسيٌ كردي تأسس في شمال سوريا سنة 2003 – اتفاقاً مع نظام الأسد يمنحه إدارةً فعليةً للمنطقة مقابل بقاءٍ رمزيٍ لمؤسسات الدولة. ثم جاء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ليدخل المنطقة حرباً مفتوحة. لكن هزيمة داعش لم تضع حداً للصراع. إذ ارتكبت قوات سوريا الديمقراطية – التي تشكلت بقيادة القوات الكردية لمحاربة داعش – انتهاكاتٍ ممنهجةً بحق السكان العرب: تهجيرٌ قسريٌ وتجريف قرى وحكمٌ أمنيٌ مغلقٌ يهيمن على تفاصيل الحياة اليومية. غذت هذه الانتهاكات إضافةً إلى الحرمان الاقتصادي المزمن مشاعر الغبن لدى أبناء دير الزور والرقة والحسكة، الذين وجدوا أنفسهم مهمشين في مناطقهم، ويحكمهم مشروعٌ فوقيٌ لا يمثلهم.
بعد سقوط النظام في دمشق، تحرّر معظم محافظة دير الزور باستثناء الضفة الشرقية لنهر الفرات الذي بقي مع الرقة والحسكة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في مشهدٍ يعكس استمرار معادلة السلطة القديمة: قوّة أمرٍ واقعٍ على حساب المشاركة المجتمعية.
وفي الخلفية، ظلت خطوط النار مشتعلة. منذ سنة 2017 وإلى اليوم، تتكرر الاشتباكات بين قوات سوريا الديمقراطية وقوات فصائل ما يسمى الجيش الوطني المدعومة من تركيا شمال البلاد. وسقط آلاف القتلى، فيما تراكمت المظلوميات المتبادلة، مكرسةً هوياتٍ متقابلةً ومنغلقةً، في غياب أيّ ملامح لهويةٍ وطنيةٍ جامعة.
اليوم، يبدو الشمال الشرقي ساحةَ نزاعٍ مؤجلةَ الانفجار. الفقر والمظالم التاريخية والتوازنات الهشة تجعل أيّ انهيارٍ في مسار التفاوض شرارة كارثةٍ جديدة. هذا الخطر تجلّى في مؤتمر "كونفرانس وحدة الموقف" الذي عقد في أغسطس 2025، ولم يقتصر – كما أُعلن – على توحيد مكونات مناطق سيطرة قسد، بل أشرك أيضاً شخصياتٍ وكياناتٍ مناوئةً للحكومة الانتقالية، بينهم حكمت الهجري ورئيس المجلس العَلوي الأعلى غزال غزال.
عدّت الحكومة ذلك تصعيداً خطيراً وضربةً مباشرةً لمسار التفاوض مع قوات سوريا الديمقراطية. فعادت نبرة التلويح بخيار السلاح كبديل. وفي بيئةٍ مثقلةٍ بالمظالم وشديدة التنوع، فإنَّ هذا الخيار لا يعني إعادة رسم خرائط السيطرة فقط، بل إطلاق دوامةٍ انتقاميةٍ عابرةٍ للمناطق، تهدّد بجرّ البلاد إلى حلقةٍ جديدةٍ من الدم.
من السويداء إلى الساحل وصولاً إلى الشمال الشرقي، تتكشف أمامنا خريطةٌ واحدةٌ متعددة الوجوه: نزاعاتٌ محليةٌ تتغذى على غياب السلطة المركزية، وتستمد وقودها من إرث العنف الذي لم يُفكَّك، ومن شبكات ولاءٍ ومصلحةٍ تعيد التموضع كلما تبدلت موازين القوى. هنا، تتحول مناطق البلاد شظايا من المظالم والهويَّات المغلقة، ويتراجع مشروع الدولة أمام منطق الخنادق، وتبقى السياسة أسيرة البنادق والذاكرة المثقلة بالثأر. ويعيد الفقر والإهمال إنتاج ما تسميه الأدبيات "اقتصاديات الحرب" و"اقتصاديات العنف"، حيث تتحوَّل الموارد المحدودة وشبكات النفوذ المحلي أدواتٍ لتغذية مشاعر السخط الجماعي، فيما يمكن تسميته "اقتصاديات الغضب" التي تكرّس دوائر الانتقام وتعزّز شعور المكونات بالتهميش.
هذه ليست أحداثاً طارئةً يمكن احتواؤها بحملةٍ أمنيةٍ أو مبادرة مصالحةٍ شكليةٍ، بل هي أعراضٌ لمرضٍ أعمق: فشل الحكومة الانتقالية في تفكيك البنية التي أنتجت الحرب الأهلية، والاكتفاء بإدارة الأزمات بمنطق الإطفاء اللحظي. وفي هذا المناخ، يصبح كلّ ملفٍّ محلّيٍ – من المواجها المسلحة في السويداء إلى مجازر الساحل والتوتر شمال شرقي البلاد – فتيلاً محتملاً لتفجيرٍ أوسع، خصوصاً حين تتقاطع خطوط النار الداخلية مع مصالح القوى الخارجية وأجنداتها.
ومثلما أثبتت الوقائع، فإن هذه الخرائط لا تُرسم داخل الحدود السورية فقط، بل تمتد خطوطها إلى غرف القرار في تل أبيب وأنقرة وطهران وموسكو وواشنطن. هنا، يبدأ أثر إنعكاس التأثيرات الدولية، ليس لكونها عاملاً خارجياً منفصلاً، بل خيطاً متشابكاً مع النسيج الهشّ للنزاع السوري، يضاعف تعقيد المرحلة الانتقالية ويعيد تعريف حدودها ومعاركها.


منذ سقوط الأسد، لم تخرج سوريا من عين العاصفة، بل تبدّلت فقط ملامح اللاعبين على رقعتها. الجغرافيا التي قد تكون مصدر قوتها، تحوَّلت اليوم لعنةً إستراتيجيةً، تُغري القوى الإقليمية والدولية بالتدخل، وتفرض على السلطة الانتقالية إدارة الملفات الداخلية في قاعات المفاوضات الخارجية، قبل أن تناقشها في مؤسساتها الوطنية.
بالنسبة لتل أبيب، لم يكن سقوط النظام نهاية معركةٍ، بل بداية مرحلةٍ أكثر مرونةً في توظيف الفوضى. في الأسابيع الأولى، نفذت إسرائيل مئات الغارات الجوية طالت ما تبقّى من قوات الجيش السوري واستهدفت منظومات الدفاع الجوي في الضمير ومصياف، ومخازن الصواريخ في جبلة، وقواعد سلاح الجو في التيفور. وعلى الأرض، احتلت قوات إسرائيلية قمة جبل الشيخ الأعلى في سوريا والتي تطل على العاصمة، وتوغلت في مناطق بريف دمشق الغربي والقنيطرة ومناطق محدودة في ريف درعا، تحت ذريعة "إزالة تهديدات فورية". تواصل إسرائيل المباشر – ولو عبر وسطاء – مع فاعلين محليين في السويداء، ليس مجرّد ردودَ فعلٍ أمنيةً، بل رسائل سياسيةً تقول إن استقرار الجنوب السوري يُقرَّر في تل أبيب بقدر ما يُقرَّر في دمشق.
وفي السويداء، ارتبطت الضربات الإسرائيلية بإشارات دعمٍ علنيةٍ من شيخ طائفة الدروز في إسرائيل موفق طريف، إلى قياداتٍ محليةٍ في السويداء وصولاً إلى لحظة ذروةٍ في يوليو 2025 حين قصفت إسرائيل مقرَّ قيادة الأركان في دمشق بصواريخ دقيقة. انسحبت قوات حكومة دمشق خلال ثمانٍ وأربعين ساعةً من السويداء تاركةً فراغاً ملأته الفصائل المحلية، في انتصارٍ معنويٍ كبيرٍ للهجري وحلفائه، ورسالةٍ صادمةٍ لدمشق عن حدود قوّتها.
أنقرة، التي دخلت الصراع المباشر في سوريا منذ 2016 لمنع قيام كيانٍ كرديٍ على حدودها، لا تزال تربط أيّ استقرارٍ في الشمال الشرقي بضماناتٍ أمنيةٍ طويلة الأمد، وبشروطٍ اقتصاديةٍ تمنحها نفوذاً وموطئ قدمٍ في مشاريع الطاقة والنقل وإعادة الإعمار. حضورها العسكري المباشر، ودعمها المستمر للحكومة ولفصائل ما يعرف باسم الجيش الوطني، يمنحها قدرةً على التعطيل أو الدفع نحو تسوياتٍ، حسب اتجاه الرياح الإقليمية.
تدير واشنطن الشمال الشرقي بقبضةٍ مرنةٍ، بتحالفها مع قوات سوريا الديمقراطية، وسيطرتها الفعلية على الموارد النفطية والغازية هناك. لكنها لا تتحرك فقط على شكل قوة عسكرية، بل ضامناً سياسياً داعماً للحكومة الانتقالية كذلك، قادراً على تعطيل أيّ صفقةٍ كبرى لا تراعي مصالحها، ويحتفظ بحقّ النقض على مسار التسوية النهائية. بالنسبة لواشنطن، البقاء في سوريا ليس فقط لحماية الأكراد ومكافحة تنظيم داعش، بل لضبط إيقاع التوازنات الإقليمية كذلك، خصوصاً بين أنقرة وموسكو وطهران واسرائيل.
خروج طهران شبه الكامل من المشهد الميداني السوري، لا يعني أنها فقدت شهية العودة. شبكاتها المحلية في الشرق والساحل ما زالت موجودةً، وبعض مقاتلي الميليشيات الموالية لها اندمجوا في تشكيلاتٍ محلية. إيران اليوم تراقب من الهامش، تراهن على لحظة فوضى جديدةٍ تتيح لها إعادة التموضع، سواءً عبر حلفائها القدامى أو عبر قنوات نفوذٍ جديدة.
في موسكو، لم تغلق أبواب القصر أمام دمشق. زيارة وفدٍ حكوميٍ رفيعٍ بقيادة وزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس الاستخبارات السوريين في 31 يوليو 2025، واللقاء المباشر مع بوتين، أعادت فتح ملفات التعاون العسكري والاقتصادي، وأعطت انطباعاً بأن العلاقة التاريخية بين البلدين لم تُطوَ بعد. بالنسبة لدمشق، تحوّلت روسيا من خصمٍ واضحٍ إلى شريكٍ عسكريٍ وسياسيٍ، قد يفتح الباب لإعادة النظر في الاتفاقات العسكرية والاقتصادية، ويعطي دمشق فرصةً لاستخدام روسيا ورقةَ موازنةٍ في الجنوب مع إسرائيل، ورافعةً دبلوماسيةً لفتح قنواتٍ مع قوىً أخرى دون الارتهان الكامل لأيّ طرف.
ولم يكن الدعم الخارجي الذي حظيت به السلطة المؤقتة – من قوىً إقليميةٍ ودوليةٍ رأت فيها شريكاً وظيفياً في محاربة "داعش" واحتواء النفوذ الإيراني وتأمين حدود إسرائيل – بلا ثمن. فقد منحها هذا الدعم شعوراً بالحصانة، ما سمح لها بالمضيّ في خياراتٍ مصيريةٍ مثل التفاوض على اتفاقاتٍ أمنيةٍ طويلة الأمد، وشرعنة الوجود العسكري الأجنبي، وفتح قطاعاتٍ إستراتيجيةٍ أمام الاستثمارات الأجنبية، من دون نقاشٍ وطنيٍ عميقٍ أو تفويضٍ شعبيٍ حقيقي. لكن أحداث الأشهر الأخيرة، ولاسيما الصراع في السويداء، كشفت هشاشة هذا المسار. فالدعم الخارجي محدودٌ بشروط والغضب الداخلي ما زال موجوداً. لقد أثبتت المواجهات في الساحل والسويداء أن سياسة العنف والاستئثار لا تنتج استقراراً، بل تسرّع تفكّك الدولة وتعمّق خطوط الصدع بين مكوناتها.
بعض الملفات الداخلية باتت تدار خارج الحدود. مثل مفاوضات باكو في أذربيجان بين الحكومة الانتقالية وإسرائيل، التي طُرح فيها سيناريو دخول القوات الحكومية إلى السويداء، واجتماع مسؤولين سوريين وإسرائيليين في باريس. هذا النمط – إدارة الشأن المحلّي بصفقاتٍ دوليةٍ – قد يمنح السلطة الانتقالية أوراق ضغطٍ، لكنه يرسّخ في الوقت نفسه معادلة "الحوكمة المقيدة خارجياً"، حيث القرار الوطني يتحرك تحت سقف الإملاءات الدولية.
بهذا المعنى، تبدو سوريا اليوم ساحةً لتقاطع أربع مسارات: ردعٌ إسرائيليٌ واحتواءٌ تركيٌ وضبطٌ أمريكيٌ وتحوّطٌ روسيٌ، فيما تنتظر إيران عند حافة المشهد. وفي قلب هذه المعادلة تقف سلطةٌ انتقاليةٌ تحاول الرقص على لعبة التوازن المستحيلة بين حماية ما تبقّى من السيادة واستثمار التدخلات الخارجية لصالحها، بلا أن تتحول أداةً بيد أيّ طرف. لكن التاريخ السوري القريب يقول إنه حين تتحول الجغرافيا لعنةً، فإن الخطّ الفاصل بين المناورة والارتهان يصبح رفيعاً جداً. وبذلك، لم تكن هذه التدخلات مجرّد إدارةٍ للأزمة من الخارج، بل وقوداً إضافياً يُبقي فتيل العنف مشتعلاً تحت الرماد، جاهزاً للانفجار مع أول اختلالٍ في موازين القوى.


في كتابها "كيف تبدأ الحروب الأهلية: وكيف نوقفها"، تحذّر والتر من لحظةٍ دقيقةٍ في عمر المجتمعات: حين تجد المكونات التي كانت في موقع القوة نفسَها على منحدر فقدان النفوذ. يمكن أن تتعايش الشعوب مع الفقر والبنى التحتية المتهالكة، لكنها لا تتقبل بسهولةٍ خسارة المكانة والقدرة على التأثير في أرضٍ تراها ملكاً لها. هذه اللحظة، كما تسميها والتر، هي الشرارة التي تعيد إشعال النزاعات، حين يتحول القلق على المكانة إلى دافع للعودة إلى السلاح.
هذا التحذير يكتسب وزناً مضاعفاً إذا قرأناه عبر نظرية "مثلث العنف" التي طوّرها عالم الاجتماع النرويجي يوهان غالتونغ في كتابه "كَلتشرال فايلنس" (العنف الثقافي) الصادر سنة 1990. لا يقتصر العنف في سوريا اليوم على المجازر والاشتباكات المباشرة، بل يمتدّ إلى العنف البنيوي المتمثل في غياب العدالة وتكافؤ الفرص، والعنف الثقافي الذي يشرعن الإقصاء بخطابات الهوية والتحريض. هذه المستويات الثلاثة، حين تجتمع، تجعل الحرب حالةً مزمنةً، لأن غياب المعالجة البنيوية والثقافية يحول دون الوصول إلى "السلام الإيجابي" القائم على العدالة والتمثيل والكرامة.
في هذا الإطار، يبدو الساحل وكأنه يعيش إحساساً مضاعفاً بالخسارة: انكشافٌ أمنيٌ غير مسبوقٍ بعد انهيار مؤسسات الجيش والأمن واقتصادٌ متآكلٌ ومكانةٌ سياسيةٌ لم تعد مضمونة. في الشمال الشرقي، يتقاطع شعور العرب والأكراد بالتهميش المتبادل مع المظلوميات المستمرة، في حين يعيد الجنوب إنتاج أدوات العنف القديمة تحت شعار "الفزعات". مواجهات السويداء الأخيرة لم تكن مجرّد غضبٍ عابرٍ، بل فرصةً استثمرتها شبكات عنفٍ قديمةٍ – من أذرع النظام السابقة إلى ضباط متهمين بجرائم حرب – لإعادة التموضع في المشهد، متسلحةً بفراغ السلطة وانقسام القرار.
شاركت في "الفزعات" العشائرية ضد قوات الدروز في السويداء فصائل عشائريةٌ مثل "لواء الباقر"، وميليشيات "المرسومي" التي اشتهرت بعلاقاتها مع الفرقة الرابعة لجيش نظام الأسد والميليشيات الإيرانية، إلى جانب قوىً تتبع الشيخ إبراهيم الهفل، المتحفز لتقديم نفسه لاعباً في النظام الجديد. وبالمقابل، وجدت جهاتٌ أخرى – من فلول نظام الأسد وضبّاطه الفارّين – فرصةً نادرةً لإعادة إنتاج أنفسهم. فتسلّلوا إلى مشهد ما بعد الأسد تحت عناوين محليةٍ مثل "الدفاع عن المكوّن" أو "حماية الأرض".
المجلس العسكري في السويداء، على سبيل المثال، يضمّ في صفوفه ضباطاً بارزين من نظام الأسد، مثل العميد جهاد غوطاني من لواء المدفعية في الفرقة الرابعة والمسؤول عن قصف ريف إدلب، والعميد سامر الشعراني، المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دير الزور وريف دمشق. ومؤخراً عَيّنَت "اللجنة القانونية العليا" في السويداء التي شكلت في يوليو بغطاءٍ من الرئاسة الروحية للطائفة الدرزية العميدَ شكيب نصر قائداً لقوى الأمن الداخلي والعميدَ أنور رضوان معاوناً له، وكانا قد شغلا مناصب رفيعةً في نظام الأسد، وهما متهمان بجرائم حرب.
وهكذا، وجد هؤلاء وغيرهم في الأحداث الجارية فرصةً في إعادة إنتاج أدوارهم في ظلّ عجز السلطة الانتقالية عن تفكيك شبكات العنف القديمة أو إخضاعها للمحاسبة. وأصبحوا جزءاً من مشهدٍ جديدٍ يتداخل فيه الثأر والهويات مع إعادة توزيع القوة والنفوذ. وبدلاً من تفكيك شبكات العنف التي شكّلت "جذمور" السلطة الأسدية، وجدت هذه الشبكات في المرحلة الانتقالية فرصةً للعودة إلى المشهد، ليس بلباس فلولٍ من الماضي، بل فاعلين يعيدون رسم خريطة القوة في النظام الجديد، مستثمرين هشاشة المرحلة الانتقالية وفشل الحكومة في بناء أدواتٍ أمنيةٍ منضبطة.
يلتقي تحليل والتر وغالتونغ مع ما طرحه عالم السياسة الشهير ستاثيس كاليفاس في كتابه "ذا لوجيك أوف فايولنس إن سيفيل وور" (منطق العنف في الحروب الأهلية) الصادر سنة 2006. حيث يفرّق بين العنف الانتقائي الموجه لإعادة رسم حدود السيطرة والنفوذ، والعنف العشوائي المستخدم لترويع المجتمعات وكسر إرادتها. ما شهدناه في السويداء والساحل يميل إلى العنف الانتقائي، فيما تكشف المواجهات في جرمانا وأشرفية صحنايا وأرياف حمص وحماة وبقية المدن عن نمط العنف العشوائي، الذي يغذيه الانتقام أكثر مما يخدم مشروعاً سياسياً واضحاً. هذا التفريق ليس أكاديمياً فحسب، بل يكشف أن سوريا اليوم تعيش على وقع مزيجٍ قاتلٍ من عنفٍ منظمٍ وعنفٍ منفلتٍ، يُذكي بعضهما بعضاً.
أما ماري كالدو، الأستاذة في كلّية لندن للاقتصاد، فتضع هذا المشهد في خانة "الحروب الجديدة والقديمة" وهي أطروحةٌ ناقشَتْها في كتابٍ صدر سنة 1999، وتطوّر في طبعاتٍ لاحقةٍ، ويحمل العنوان ذاته. فتسمّي هذا النوعَ من النزاعات "الحروب الهجينة"، إذ ليست حروباً تقليديةً بين جيوشٍ، ولا حروباً أهليةً صرفةً، بل مزيجاً تغذِّيه اقتصاديات الحرب وشبكات التهريب والهويات المغلقة. في الشمال الشرقي، يتحول النفط والتجارة الحدودية إلى أدوات تحكّم. وفي الجنوب تتحول "الفزعات" إلى آليّةٍ لحشد المقاتلين وإعادة توزيع النفوذ. في حين تحافظ بقية المناطق على اقتصادياتٍ موازيةٍ تُبقي العنف مربحاً. ومن هنا، لم تعد الحرب مجرد نتيجةٍ لتعثّر المرحلة الانتقالية فقط، بل أصبحت صناعةً قائمةً بذاتها، تسعى لإدامة العنف وتؤخّر أيّ عملية تعافٍ حقيقية.
بهذا، لا تبقى هذه الأطر النظرية مجرد تشخيصٍ أكاديميٍ، بل عدساتٍ تكشف أن سوريا بعد الأسد خرجت من حربٍ طويلةٍ، دون أن تغادر شروطها. العنف هنا ليس عرضاً جانبياً للفوضى، بل جزءاً من آلية إنتاج الواقع الجديد، حيث تُدار المكانة والهوية والمكاسب بالسلاح بقدر ما تدار بالسياسة. وهنا يطرح السؤال الملحّ: هل تستطيع المرحلة الانتقالية كسر هذه الحلقة، أم أنها ستكتفي بإدارتها حتى تنفجر من جديد؟


تعيش سوريا اليوم في فراغٍ معلّقٍ بين سقوط النظام القديم وتعثر ولادة دولةٍ جديدة. وكما تحذّر أدبيات النزاع، فإن المرحلة الانتقالية ليست مساحةً آمنةً، بل هي اللحظة الأكثر هشاشةً، إذ يمكن أن تعود الحرب الأهلية في أشكالٍ أكثر تعقيداً إذا أخفقت إدارة هذا الفراغ.
تثبت التجارب المقارنة أن الاستقرار لا يصنعه "حكم المنتصر"، بل توافقٌ وطنيٌ واسعٌ لا يقصي أحداً، يرافقه مسار عدالةٍ انتقاليةٍ يكسر دوائر الانتقام ويحوّل الذاكرة المثقلة بالعنف إلى مجالٍ للمساءلة. في سوريا، ما لم تُحتكر القوة بيد مؤسساتٍ وطنيةٍ منضبطةٍ، سيظلّ مشهد "الفزعات" والميليشيات وصفةً لحربٍ مؤجلةٍ، وسيبقى الفقر والانهيار الاقتصادي وقوداً جاهزاً لأيّ اشتعالٍ جديد.
الأخطر أن الملفات الداخلية الكبرى – من أزمة السويداء إلى المفاوضات مع قوات سوريا الديمقراطية شمال شرق البلاد – باتت تدار في الخارج أكثر مما تدار في الداخل، ما يرسّخ الوصاية ويفرّغ القرار الوطني من مضمونه. تُظهر تجربة جنوب إفريقيا أن تحييد التدخلات الخارجية يبدأ من اتفاقٍ داخليٍ شجاعٍ، يضع كلّ المكوّنات على طاولةٍ واحدةٍ، ويحوّل الخلافات إلى مسار تفاوضٍ وطنيٍ لا ساحةٍ لتصفية حسابات الآخرين.
وأخيراً، الحرب الأهلية لم تفتّت الخرائط فحسب، لقد فتّتت القلوب. عودة سوريا دولةً واحدةً تمرّ عبر مصالحةٍ مجتمعيةٍ تبدأ من القاعدة لا من النخبة: حواراتٌ محليةٌ، تسوياتٌ عادلةٌ للنزاعات، وبرامج تعيد بناء الثقة داخل النسيج السوري الممزق بدل إبقائها رهينة "الفزعات" والثأر. فالتجارب المقارنة من رواندا إلى جنوب إفريقيا أثبتت أن لجان المصالحة الناجحة، كانت تلك التي أفسحت المجال لضحايا النزاع وقواه المحلية ليمتلكوا الحوار بدل أن يبقى أسير النخب السياسية. ولتحقيق ذلك في سوريا، يجب إعادة هيكلة "اللجنة العليا للسلم الأهلي" لتتحرر من الشخصيات الإشكالية، وتضمّ في صفوفها ممثلين حقيقيين عن القوى المدنية والشخصيات الوطنية المؤثرة في مجتمعاتها المحلية. بهذه الصيغة، تتحول اللجنة من مجرد واجهةٍ مكتبيةٍ، إلى منصةٍ فاعلةٍ لإدارة هذا المسار المعقّد.
السلام في النهاية ليس شعاراً سياسياً، بل شبكةً من الثقة والعدالة والمشاركة، تُبنى ببطءٍ، من القاعدة إلى القمة. وإن لم تستثمَر هذه اللحظة في إعادة تعريف معنى الدولة بوصفها ضمانةً لجميع مواطنيها، فإن سوريا ستظلّ أسيرة الشروط ذاتها التي فجّرت الحرب الأهلية، حتى وإن تغيّرت خرائط السيطرة.

اشترك في نشرتنا البريدية