نجاح اقتصاد المقاطعة بين تحسين البديل وتغيير السياسات الحكومية

تصاحب حملات مقاطعة بضائع الشركات الداعمة إسرائيل صعود البدائل المحلية، التي سرعان ما تتراجع مع خفوت دعوات المقاطعة.

Share
نجاح اقتصاد المقاطعة بين تحسين البديل وتغيير السياسات الحكومية
بدأت حملات المقاطعة الاقتصادية للمشروع الصهيوني قبل قيام دولة إسرائيل | تصميم خاص بمجلة الفِراتْس

قبل الحرب على غزة في أكتوبر 2023 كانت المراكز التجارية الكبرى في القاهرة تتزاحم برواد المطاعم والمقاهي ذات العلامات التجارية العالمية. قلّ توافد الناس على هذه المحلات مع اندلاع الحرب وقرار المقاطعة، وتحولوا إلى نظيراتها المحلية ما أدى لانخفاض مبيعات الفروع المحلية للشركات العالمية. تراجعت أرباحُ شركة أمريكانا، المالكةُ لتوكيلات كنتاكي وبيتزا هت وكوستا كافيه وتي جي آي فرايديز، في الأشهر التسعةِ الأولى من سنة 2024 بنحو 48 بالمئة. إذ سجلت الشركة أرباحاً قدرها مئة وسبعة عشر مليون دولارٍ أمريكي بعد أن كانت 226 مليون دولارٍ في الفترة ذاتها من سنة 2023، بحسب إفصاح الشركة مطلع نوفمبر 2024. 

كان هذا التحول ثمرة دعوات مقاطعة الكيانات الاقتصادية الداعمة إسرائيل، وهي الدعوات التي أطلقتها عدة جهات غير حكومية في مصر والعالم، ولاقت رواجاً كبيراً أثناء الحرب بسبب المشاهد المروعة للمذابح التي بثتها القنوات الفضائية والدعم الحكومي الغربي والعجز العربي الرسمي الذي صاحبها.

لم تكن تلك المرةَ الأولى التي تظهر فيها دعوات "مقاطعة المستهلكين" على نطاقٍ واسعٍ في مصر. فبعد عقودٍ من انهيار بنية "المقاطعة الرسمية" مع بدء عملية السلام والتطبيعِ المصري مع إسرائيل نهاية السبعينيات، انطلقت حملةٌ شعبيةٌ واسعةٌ في بداية الألفية متزامنةً مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية سنة 2000 والغزوِ الأمريكي العراقَ سنة 2003، تدعو لمقاطعة المنتجات الأمريكية. ساهمت الحملةُ في ظهور بدائلَ محلية للمنتجات المقاطعة، خاصة في قطاع الأغذية والمشروبات. واستمر رواج هذه البدائل سنواتٍ استعادت بعدها المنتجاتُ العالميةُ هيمنتها على السوق، وتراجعت المنتجات البديلة المحلية أو اندثرت.

ومع إعلان وقف إطلاق النار في غزة في النصف الثاني من يناير 2025، يعاد طرح السؤال عن إمكانية صمود المنتجات البديلة المحلية التي ظهرت في الأسواق أثناء أشهر الحرب وحفاظها على موقعها. فمع تراجع دوافعِ المقاطعة الأخلاقيةِ والسياسيةِ تبدو قدرة المنتجات المحلية على المنافسة في الأسواق محدودة، بسبب فروق الجودة والأسعار. وتتوقف قدرة هذه المنتجات المحلية في المنافسة المستدامة على تغييرات بنيوية واستراتيجية تمكنها من تطوير منتجاتها، وسياسات رسمية تدعمها.


بدأت حملات المقاطعة الاقتصادية للمشروع الصهيوني قبلَ إعلان دولة إسرائيل سنة 1948. ومع تلاحق موجات الهجرةِ اليهودية المدعومة من المؤسسات الصهيونية إلى فلسطين في العشرينيات، نظم الفلسطينيون أولى حملات المقاطعة السياسية والاقتصادية. إذ قرر المؤتمرُ الفلسطينيُ الخامسُ الذي انعقد في نابلس سنة 1922 مقاطعةَ الانتخابات التشريعية التي نظمتها بريطانيا رفضاً لسياساتها الداعمة بناءَ وطنٍ قوميٍ لليهود في فلسطين، ودعا المؤتمرُ لمقاطعة المستعمرين الصهاينة في البيع والشراء.

كانت المقاطعة الشعبية منذ البداية قراراً بالتضحية الاقتصادية الفردية من أجل المصلحة الجماعية. لم تكن البضائع التقليدية الفلسطينية التي تُنتج في الورش الصغيرة تقوى على منافسة إنتاج المصانع الحديثة في بريطانيا ثم الصناعات الحديثة التي أسسها المستوطنون. إلا أن البدائل الأكفأ اقتصادياً كانت أخطر على وجود الفلسطينيين. وفي 1931 تبنى مؤتمرُ نابلس، الذي انضمت له كل القوى الوطنية الفلسطينية، دعوةَ مقاطعةِ الانتداب البريطاني الاقتصادية. وجاء في وثيقته الختامية أن حكومة الانتداب "تستوفي من الجمارك ما يقرب من النصف من دخلها الذي تصوغ لنا به القيود، ولذا يجب مقاطعة جميع البضائع التي ترد بواسطة الجمارك. ولأجل التوفيق في تنفيذ ذلك يجب انتخاب لجنةٍ لوضع الخطط واتخاذ التدابير ونشرها على الناس لإنجاح هذا المشروع، وفي تنفيذ هذا المشروع رواجٌ للصناعات الوطنية. وأن تقاطع البلاد جميع ما يأتي بدخل على ميزانية الحكومة وأمكن مقاطعته، فنمتنع عن شرب الدخان ما أمكن ونتمنع عن التهاني والتبريك والتعزية بالبرقيات ونبذ استعمال التليفونات ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً".

ساهم تأسيس جامعة الدول العربية في مارس 1945 في توفير إطار مؤسسي للمقاطعة يحوّلها من الشعبية إلى الرسمية. في الثاني من ديسمبر من نفس السنة قرر مجلسُ الجامعة مقاطعة بضائع المستعمرين الصهاينة واعتبارها غير مرغوب فيها في كافة الدول العربية. على أن القرار لم يُطبّق جدياً إلا بعد النكبة وإعلان دولة إسرائيل سنة 1948، فقد تأسست بعدها مكاتب المقاطعة الاقتصادية في الأقطار العربية، وكذلك قوانين المقاطعة التي سنّتها الدول العربية. فكان أولها قانون المقاطعة الذي أقرّه لبنان في 23 يونيو 1955، وجاء فيه حظر التعامل مع الشركات والكيانات الاقتصادية الأجنبية التي تخالف مبادئ مقاطعة إسرائيل.

ومع انطلاق عملية السلام والمفاوضات العربية الإسرائيلية في منتصف السبعينيات، تراجع الاهتمام الرسمي بالمقاطعة الاقتصادية. ألغت مصرُ قرارَ المقاطعة بعد توقيعها اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل سنة 1979. وفي السنوات اللاحقة دخلت مصرُ وشركاتها في علاقات اقتصادية مع إسرائيل. كان المجال الزراعي في طليعة مجالات التطبيع، إذ ساهمت تقنياتُ الري والزراعة الحديثة التي طوّرها الإسرائيليون في السبعينيات والثمانينيات في دخول مصر عهداً جديداً للزراعة التصديرية في التسعينيات، وبالأخص في محاصيل الموالح والخضروات. ووقعت الحكومةُ المصرية سنة 2004 اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة، المسماة اختصاراً "الكويز"، التي تفتح الأسواق الأمريكية أمام المنتجات المصرية التي تكون نسبة من مكوناتها إسرائيلية. قدمت الحكومة المصرية وعوداً أن تزيد الاتفاقيةُ حجمَ الصادرات بنحو سبعة مليارات دولار سنوياً في خمس سنوات. وفي سنة 2005 وقعت الشركة القابضة للغازات، وهي شركة حكومية، اتفاقاً لتصدير الغاز لإسرائيل لمدة عشرين سنة.

فتح هذا التحولُ البابَ أمام مقاومة الشعبِ التطبيعَ الاقتصادي. فأحجمت أكثر المؤسسات الاقتصادية العاملة في قطاع النسيج عن المشاركة في اتفاقية "الكويز"، فلم تزد قيمة صادرات النسيج بعد عشرين سنة من توقيع الاتفاقية عن مليار وثلاثمئة مليون دولار أمريكي، أي أقل من خُمس الزيادة التي توقعتها الحكومة. ونظر القضاءُ في العديدَ من الدعاوى التي رفعها المواطنون ضدّ تصدير الغاز لإسرائيل، ثم توقف التصدير بعد ثورة يناير 2011. وبالتوازي مع ذلك ربطتْ الثقافةُ الشعبية وجود المنتجات الأمريكية والإسرائيلية في الأسواق المصرية بالمؤامرة على مصر. فربطت مقالات صحفية في التسعينيات زيادة معدلات الإصابة بالسرطان باستهلاك المنتجات الأمريكية والإسرائيلية، واعتبرت انتشار تقنيات الزراعة الإسرائيلية التي تعتمد على الهندسة الوراثية سبباً رئيساً فيه. في 2011 نشرت صحيفة الشباب المصرية تقريراً بعنوان "الأرض بتتكلم عبري" تناول بأثر رجعي الوقع السلبي للتطبيع الاقتصادي المصري الإسرائيلي في مجال الزراعة. وأشار للمواد المسرطنة الإسرائيلية التي تستخدمها بعض الشركات الزراعية المصرية. ونشرت صحيفة المصري اليوم في نفس السنة تقريراً عن استخدام المزارعين مبيدات إسرائيلية مسرطنة.


مع هذه الصور لمقاومة التطبيع ظهرت حركة مقاطعة المستهلكين للكيانات الاقتصادية الداعمة إسرائيلَ. تبدو هذه المقاطعة فعلاً فردياً يقوم على اختيار المستهلك. إلا أنها مع ذلك تُنتِج وعياً جماعياً بأهمية أن يكون الفرد إيجابياً. تعيد المقاطعة الاقتصادية التضامنَ العربيَّ والإسلاميَّ شعبياً، وتعيد في الوقت نفسه الاعتبارَ لتلك الهويات العابرة الهويةَ القومية.

مع بداية الغزو الأمريكي العراقَ، رَوَّج بعضُ الدعاة للمقاطعة بنشر رواياتٍ تهدف لربط المنتجات الأمريكية بالحرب على الإسلام واتخذت من ذلك أساساً للدعوة لمقاطعتها. فادعى بعض الدعاة –وقد انتشرت هذه الرواية شعبياً– أن الشعار التجاري "كوكا كولا" هو في الحقيقة "لا محمد لا مكة" كُتِبَت معكوسة. وادعى غيره أن الشعارَ التجاري "بيبسي" اختصارٌ لجملة "ادفع كل بنس لإنقاذ إسرائيل" بالانجليزية. ترسخت تلك المقولات وتداخلت مع خطابات سياسية واقتصادية تعتبر اندماج الاقتصاد المصري مع العولمة، المتزايد منذ منتصف السبعينيات، سبب التراجع الاقتصادي والتبعية السياسية.

أصبحت المقاطعة في الوعي الشعبي صورةً من صور "الجهاد ضد الصليبيين"، وساهم استدعاء الخطاب الديني لترويج المقاطعة في ترسيخ علاقة العداء مع الغرب والتوجس من منتجاته. تجاوزتْ المقاطعة إسرائيلَ وداعميها وامتدت لدول غربية أخرى، مثل الدنمارك التي ارتفعت الأصوات الداعية لمقاطعتها بعد نشر صحيفة يولاندس بوستن الدنماركية صوراً مسيئة للنبي محمد سنة 2005. صارت المقاطعة في هذا السياق حرباً دفاعيةً تقابل الحرب "الصليبية" التي أعلنها جورج بوش الابن بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001، وصارت وسيلةَ الإسلاميين في الترويج لمشروعهم الثقافي أكثر من كونها وسيلةً لمواجهة الهيمنة الأمريكية في المنطقة وتأمين المصالح الأمريكية في الخليج.

فرضت الاعتباراتُ العملية على حركة المقاطعة أن تتخذ منحىً انتقائياً. لم تكن مقاطعة سائر المنتجات الأمريكية والإسرائيلية ميسورة في كافة القطاعات. في قطاع التقنية مثلاً، لم يكن ثمة سبيل لمقاطعة أنظمة التشغيل بسبب الحاجة الملحة إليها. ولم تكن مقاطعة السلع المعمرة أو السلع الوسيطة التي تدخل في الإنتاج سهلةَ في ظل اقتصار المقاطعة على الجهود الشعبية غير الحكومية. إذ يصعب تتبع مصادر المواد الخام والمواد الوسيطة التي تدخل هذه الصناعات، ويحتاج ذلك سياسات حكومية تستبدل سلاسل الإمداد وتجبر الموردين على الاستيراد من جهات لا تستهدفها حملات المقاطعة.

ركزت حملات المقاطعة الاستهلاكية على المنتجات النهائية المصنعة والعلامات التجارية في بعض القطاعات الاستهلاكية المباشرة. كان هدف حملات المقاطعة الأولُ سلسلةَ محلات سانسبيري البريطانية التي دخلت مصر سنة 1999 قبل أن تضطرها حملات المقاطعة للخروج منها سنة 2003. في نفس الفترة انخفضت مبيعات الكثير من المنتجات العالمية التي روّج النشطاء لدعمها إسرائيل. فانخفضت مبيعات شركة بروكتر آند غامبل الأمريكية بسبب مقاطعة منتجها الأشهر في مصر، منظف الغسيل "آريال" –الذي ارتبط اسمه باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي "آرييل شارون"– بنسبة تتراوح ما بين 35 و60 بالمئة، بحسب تقديرات غرفة التجارة الأمريكية في مصر. واستهدفت حملات المقاطعة شركات المشروبات الغازية، ومنها بيبسي وكوكاكولا، والتوكيلات التجارية للمطاعم والمقاهي مثل ماكدونالدز وكنتاكي وستاربكس.

استفادتْ حملات المقاطعة الشعبية من أزمة مزمنة في الاقتصاد المصري ساعدت في انتشارها، فقد كان عجز الميزان التجاري بسبب ضعف الصادرات وزيادة الواردات يضغط على العملة المحلية. وفي بداية الألفية وصلت نسبة العجز التجاري إلى 6 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي، بحسب إحصائيات البنك الدولي. أدى هذا لتخفيض قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي. وفي سنتي 2002 و2003 ارتفعت قيمة الدولار ليساوي 5.8 جنيهاً بعد أن كان يساوي 3.8 جنيهاً قبلها. أدى هذا لزيادة أسعار السلع خاصة المستوردة منها أو المعتمدة على مدخلات إنتاج مستوردة، فقلّ الإقبال عليها وزاد البحثُ عن بدائلَ محلية تحل محلها.


تزامن صعود حملات المقاطعة الشعبية مع ظهور منتجات بديلة محلية استهدفتها الحملات. ساهمت الظروف البنيوية في ظهور هذه البدائل في قطاع الأغذية والمشروبات. إذ يعتمد القطاع، بما في ذلك المطاعم والمقاهي ذات العلامات التجارية العالمية، على سلاسل توريد محلية يضمن بها سرعة وصول المواد الغذائية من الحقول إلى المطاعم. فمطاعم ماكدونالدز تتعاقد مع موردين مصريين للبطاطس، ضمنهم شركة مانفودز مصر التابعة لمجموعة شركات منصور، يستوردون بذوراً بمواصفات فنية معينة ويزرعونها في مصر. وهو ما يُمَكِّن المطاعم الأخرى الحصول على بطاطس محلية بذات المواصفات. وبالتالي فالاستبدال في قطاع الأغذية والمشروبات أسهل من القطاعات الأخرى.

سرعان ما ظهرت منتجات بديلة للمقاطعة في هذا القطاع. كانت شركة "مكة كولا" للمياه الغازية في طليعة تلك البدائل. تأسست الشركة سنة 2003 على يد رجل أعمال فرنسي من أصول تونسية يدعى توفيق المثلوثي، تأسست أولاً في دبي قبل أن تدخل السوقَ المصريَّ الذي لاقت فيه رواجاً ملحوظاً. وإذا كان غياب الإحصائيات والدراسات السوقية يمنع من تقدير هذا الرواج رقمياً، فإن من دلائله فتحه الباب أثناء سنوات المقاطعة أمام منتجات بديلة محلية أخرى حاولت اقتفاء أثر "مكة كولا" في منافسة الشركات العالمية. في سنة 2008 مثلاً، تأسست شركة "سينا كولا" التي قدمت بديلاً بسعر أقل من كوكا كولا.

في سوق الغذاء تزامنت الدعوة لمقاطعة سلاسل المطاعم الأمريكية، وعلى رأسها ماكدونالدز وكنتاكي، مع ظهور بدائلها المحلية. تصدرت البدائلَ سلسلة مطاعم "مؤمن"، التي تأسست في الثمانينيات وكان وجودها مقتصراً على محافظتي دمياط والإسكندرية، ثم توسعت مع انتشار دعوات المقاطعة وتحولت توكيلاً تجارياً ضخماً. وفي سنة 2002 صرّح مؤسس ومالك السلسلة محمد مؤمن لشبكة "صوت أمريكا" قائلاً إن مبيعاتها زادت بنسبة 30 بالمئة مع صعود دعوات المقاطعة. ويمكن قياس نجاح سلسلة المطاعم بانتشارها الكبير في هذه الفترة التي افتتحت فيها فروعاً في سائر الأحياء الأساسية للقاهرة الكبرى وفي غيرها من المحافظات.

ومع نجاح هذه البدائل في أول ظهورها، إلا أنها سرعان ما تراجعت واستعادت الشركاتُ العالميةُ هيمنتَها على الأسواق. ففي السنوات التالية، وخاصة مع انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي جورج بوش سنة 2008 وتولّي خلفه باراك أوباما الحكم، تراجع التأثير الاقتصادي للمقاطعة وعادت سلع المؤسسات الاقتصادية العالمية للهيمنة على السوق المصري وتراجعت المنتجات البديلة المصرية التي ظهرت أثناء فترة المقاطعة. بحسب تقديرات دبلوماسيين أمريكيين في المنطقة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز سنة 2002، تراجعت مبيعات شركات المياه الغازية الأمريكية في مصر مع انطلاق دعوات المقاطعة في 2002 و2003 بنسبة 30 بالمئة تقريباً، ثم لم تلبث أن تراجعت مع انتهاء ولاية الرئيس بوش. أما مطاعم مؤمن فتوقف نموّها مع تراجع المقاطعة، ثم كانت بعد ذلك بسنوات ضحية الصراع السياسي بين نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي وجماعة الإخوان المسلمين وحلفائها من الإسلاميين. واضطرها الصراع لغلق أبوابها بسبب النشاط السياسي لمؤسّسها الذي ارتبط اسمه بدعم الرئيس محمد مرسي.


عادت حملات المقاطعة للظهور مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر 2023. لم يقد الإسلاميون حملة المقاطعة هذه المرة، ولكنها جاءت في إطار حملة دولية متصاعدة لمقاطعة إسرائيل بدأت بدعوة من منظمات المجتمع المدني الفلسطينية سنة 2005. وخلافاً للحملة المزامنة للانتفاضة الأولى والحرب على العراق، لم تروّج هذه الحملة لمقاطعة كل البضائع الأمريكية والإسرائيلية، وإنما اكتفت بالدعوة لمقاطعة الكيانات الداعمة إسرائيلَ. ولم تروّج حملة المقاطعة الحالية جهاداً تواجه به الحرب على الإسلام، وإنما أداةَ ضغط على إسرائيل وداعميها لتغيّر سياساتها العنصرية وتجبرها على وقف الحرب.

مع كل الاختلافات، فثمة أوجه تشابه بين حملتي المقاطعة. قامت الحملتان على الترويج الشعبي بعيداً عن الدعم الحكومي. وتشابهت الحملة الحالية مع سابقتها في مزامنتها أزمة اقتصادية ساعدت في رواجها. إذ بلغ عجز الميزان التجاري المصري عشية الحرب 7 بالمئة من الناتج المحلي بحسب إحصائيات البنك الدولي. وارتفعت قيمة الدولار ليقابل نحو خمسين جنيهاً مصرياً بعد أن كان يقابل نحو ثلاثين جنيهاً في مطلع السنة ذاتها. فارتفعت بذلك أسعار السلع المستوردة أو المعتمدة في تصنيعها على مواد مستوردة، ولم تعد في متناول الغالبية العظمى من الأسر التي بحثت عن منتجات بديلة محلية لها. وركزت الحملتان السابقة والحالية على قطاعات معينة أهمها قطاع الغذاء والمشروبات، وأوجدت بدائل محلية للمنتجات المستهدفة بالمقاطعة.

هذا التشابه يفرض التساؤل عن فرص استدامة المنتجات المحلية البديلة للمقاطعة، ومنه البحث في أسباب فشل البدائل المحلية في فرض استمرارها في السوق بعد تراجع موجة المقاطعة الأولى في مطلع القرن.


ارتبط صعود المنتجات البديلة بكونها خياراً أخلاقياً. سواء في ظل الحرب المتصورة على الإسلام أو العدوان الإسرائيلي على غزة، دُفع المستهلكون لشراء منتجات بديلة على سبيل التضحية، فشراؤها صورة من صور الجهاد أو أداةُ ضغط على إسرائيل وحلفائها تدفعها لتغيير سياساتها. ولم تنجح في سنوات المقاطعة في رفع قيمتها التنافسية لتضمن بقاءها بعد تراجع الداعي الأخلاقي. ركز مصنعو البدائل المحلية للمنتجات المستهدفة بالمقاطعة على هذا البعد الأخلاقي في الترويج لمنتجاتهم. فاختار مصنعو "مكة كولا" اسماً يسهل الترويج به لمنتجهم أخلاقياً في ظل حملات تعتبر المنتجات المنافسة ضالعة في الحرب على الإسلام. وكذلك اختار مصنعو "سينا كولا" اسماً يعبر عن الأرض التي حارب الجيشُ المصريُّ لاستردادها سنة 1973. ومع صعود حملة المقاطعة الحالية، وضعت شركات أخرى شعارات مثل الكوفية الفلسطينية وخريطة فلسطين على منتجاتها.

أعطى هذا الخطابُ المنتجات البديلة المحلية رمزية تنافسية أدت لزيادة مبيعاتها مع أنها أقلّ جودةً. وبدلاً من تطوير المنتجات لتصير منافسةً، فتحتْ الدعايةُ للمنتجات على أساس أخلاقي البابَ أمام زيادة المبيعات مع بقائها دون نظيرتها المستوردة في الجودة. فقد اعتبر المستهلكون سينا كولا بديلاً أقل جودة من كوكاكولا وبيبسي، فيما ظلت منتجات أخرى أعلى سعراً بين نظيرتها المقاطعة أو مثلها في السعر، مثل مطاعم كوك دور للوجبات السريعة، وإن ظلّت دونها جودةً، وهذا ما يفسر تراجعها مع تراجع دعوات المقاطعة.

هذا التركيز على الجوانب الأخلاقية بدلاً من رفع الجودة يمنع استدامة المنتجات البديلة المحلية. وغياب الدوافع الآنية للمقاطعة، مثل ما حدث بعد انتهاء ولاية بوش سنة 2008، ومثل التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة أخيراً في النصف الثاني من يناير 2024، من شأنه أن يؤدي لتراجع حملات المقاطعة. ومع تراجعها يختار المستهلك المنتج المنافس إما جودةً أو سعراً. ويؤدي تراجع الدوافع الأخلاقية للمقاطعة لتغير الصورة الذهنية للمنتجات الأجنبية. فالاستهلاك لا يهدف فقط لإشباع الحاجة المادية، ولكنه يؤدي معها وظيفة اجتماعية يحرص عليها المستهلك بالإعلان عن ذاته ووضعه الاجتماعي أو خياره الأخلاقي بنوع الاستهلاك الذي يختاره. وإذا كان اختيار المنتجات الأقل جودة يحفظ للمستهلك مكانة اجتماعية في أوقات المقاطعة لأنه فعلٌ أخلاقيٌ فإنه ينقصها عند تراجع دوافع المقاطعة كونه يربط المستهلك بالمنتج الأدنى.


ثمة أسباب تحول بلا رفع جودة المنتجات البديلة المحلية المستهدفة بالمقاطعة، على رأسها عدم الاستثمار الكافي في تطوير المنتجات. فالشركات المصنعة للبدائل المحلية تستغل حملات المقاطعة لزيادة أرباحها وحصتها السوقية مؤقتاً، بلا السعي لتحويل هذه الفرصة المؤقتة لوضع دائم.

لم تظهر البدائل المحلية للمقاطعة فجأة من العدم، بل كان بعضها موجوداً في السوق قبل حملات المقاطعة واستغل ظهورها وصعودها في زيادة حصته السوقية. "سينا كولا" مثلاً موجودة في السوق المصري منذ خمس عشرة سنة وتحقق مبيعات مستمرة لتفضيل فئات من المجتمع شراء منتجها الأقل سعراً من منتجات العلامات التجارية العالمية كوكاكولا وبيبسي. ومع صعود حملات المقاطعة يقلّ الإقبال على المنتجات العالمية ويبحث المستهلكون عن بدائلها التي تحقق زيادةً مؤقتةً في الأرباح بسبب وصولها لفئات اجتماعية جديدة. ومع انحسار حملات المقاطعة، يعود المنتجُ المحليُّ لمستهلكيه الطبيعيين، الراغبين في منتج أقل سعراً، وينصرف عنه المستهلكون الذي اعتبروه خياراً أخلاقياً وقت الحملات.

لا تسعى هذه الشركات بالضرورة لمنافسةٍ مستدامةٍ مع نظيرتها ذات العلامات التجارية العالمية. إذ يختار القائمون عليها عادة البقاء في "المنطقة المريحة" التي يحققون فيها قدراً مقبولاً من الأرباح ولا يضطرون للدخول في منافسة غير مضمونة العواقب من كيانات اقتصادية عملاقة. تحتاج هذه المنافسة لعمليات تطوير غير مضمونة العواقب، لذلك تتركز مبيعات "سينا كولا" وغيرها من الشركات في محافظات الدلتا والصعيد حيث يمكن للسعر أن يكون ميزة بسبب ضعف القدرة الشرائية في هذه المناطق.

يمكن إرجاع الإحجام عن منافسة العلامات التجارية العالمية لعدة عوامل، أهمها قصور الإنفاق على البحث والتطوير والدعاية. تتطلب المنافسة في قطاعات مثل الغذاء الاستمرار في تطوير الجودة مع خفض تكلفة الإنتاج وأسعار المبيعات من أجل المنافسة على نطاقات واسعة. والأبحاث والتطوير تحتاج موارد مالية لا تتوفر للشركات الناشئة التي تعاني كذلك صعوبات في النمو واستغلال الفرص السوقية التي تسمح بها المقاطعة بسبب مشكلات التمويل. تستند التوكيلات التجارية الأجنبية إلى موارد مالية ضخمة توجه بعضها للبحث والتطوير. مثلاً، أنفقت بيبسي خلال السنوات العشر الماضية نحو سبع مليارات دولار على البحث والتطوير وهو ما يزيد على عشرة أضعاف ما يمكن لنظيراتها المحلية أن تنفقه. وكذلك لا يمكن مقارنة موارد الشركة الموجهة للدعاية والترويج، والتي تمثل حجر أساس في "صناعة الرغبة" وفي بناء الولاء للمنتج وتسويقه تجربةً جماعية لا مجرد مشروب غازي، بموارد نظيرتها المحلية التي تعتمد في أوقات المقاطعة على مركزية الاستهلاك الأخلاقي.

يدفع هذا الوضع الشركات المحلية للعمل فيما يمكن تسميته اقتصاد الظل، فتعجز عن التوسع. تكتفي شركات كثيرة بإنتاج ما يغطي أسواقها المحلية المباشرة في المحافظة أو الإقليم عاجزةً عن توسيع قاعدة المنتجات. مثلاً، تنتشر في أرجاء الريف المصري منتجات تحاول محاكاة المنتجات ذات العلامات التجارية العالمية تُنتج بجودة أقل في مصانع "غير رسمية"، لا تحاول الدخول إلى الإطار الرسمي إما هروباً من الضرائب أو خوفاً من تعقيدات الإجراءات الإدارية ورقابتها أحياناً وفسادها أحياناً. بحسب هيئة سلامة الغذاء، هناك ما يقرب من عشرين ألف مصنع غير رسمي يعمل في مصر، أي أن عدد المصانع غير الرسمية يبلغ عشرة أضعاف المصانع الغذائية المسجلة. ولا تخضع المصانع غير الرسمية لرقابة تضمن التزامها بمعايير الجودة والصحة. ولا تستطيع إلا البقاء في الظل، فلا تحاول زيادة مبيعاتها ولا تبحث عن شركاء وممولين للاستثمار في زيادة إنتاجها أو رفع جودة منتجاتها. بل تكتفي ببيع منتجاتها لفئات المجتمع ذات القدرة الاقتصادية الأقل، لأنها تقبل شراء المنتجات غير مضمونة الجودة. وبهذا تبقى منتجات هذه المصانع في تصنيف متأخر جودةً وبلا قدرة حقيقية على تطوير الجودة أو خفض السعر أو زيادة الإنتاج.


قدرة المنتجات المحلية على المنافسة المستدامة تعتمد على السياسات الحكومية الداعمة للتصنيع المحلي. وثمة مصلحة اقتصادية في انتهاج هذه السياسات. إذ تزامنت حملات المقاطعة، سواءً التي انطلقت في مطلع الألفية أو في المرحلة الأخيرة مع حرب غزة 2023، مع أزمات اقتصادية سببها العجز في الميزان التجاري. وفي الحالتين تركز خطاب الحكومة على دعم المنتجات المحلية لتقليل الواردات وسد هذا العجز. إلا أن هذا الخطاب لم يتحول سياسات اقتصادية ناجحة تحقق المقصد المطلوب.

لم تحقق السياسات الاقتصادية الحكومية مقصدها في خفض عجز الميزان التجاري باستدامة. أثناء أزمتي تخفيض العملة في 2002 و2003 ثم 2022 و2024 روّج الخطاب الحكومي لأثر هذا التخفيض في تقليل الواردات. إلا أن التعويم أدى في الحالتين لرفع تكلفة الاستيراد بالعملة المحلية على المدى الطويل، ومن ثم زيادة قيمة الواردات ونسبتها من الناتج المحلي. فارتفع سعر الدولار أمام الجنيه ليصل إلى نحو خمسين جنيهاً سنة 2024 مقابل نحو ثمانية جنيهات في سنة 2016، التي كانت نسبة الواردات إلى الناتج المحلي فيها حوالي 22 بالمئة. وبالتوازي مع انخفاض قيمة الجنيه ارتفعت نسبة الواردات في 2017 و2018 لتسجل 27 بالمئة من الناتج المحلي، قبل أن تواصل الانخفاض لاحقاً في فترة استقرار سعر العملة لتسجل 21.3 بالمئة في 2023، بحسب بيانات البنك الدولي. نفس الأمر حدث في التعويم الأول في 2002 و2003، إذ ارتفعت نسبة الواردات إلى الناتج المحلي بأكثر من 10 بالمئة في أربع سنوات فقط، من 22 بالمئة تقريباً في 2001 إلى ما يقرب من 32 بالمئة في 2005.

وتوازت مشكلة العجز المزمن في الميزان التجاري مع زيادة مطردة في التحويلات الرأسمالية للخارج، سواء للأرباح أو للاستثمارات في الديون السيادية والتي تمثل فوائدها وأصل الدين ضغوطاً مستمرة على ميزان المدفوعات. وتؤدي هذه التحويلات لزيادة لاحقة في العجز المزمن في ميزان المدفوعات. فبلغ عجز الميزان التجاري المصري نحو 6 بالمئة من الناتج المحلي في بداية الألفية، بحسب إحصائيات البنك الدولي. وانخفض بعد تخفيض العملة في 2002 و2003 إلى ما يقارب 2 بالمئة من الناتج المحلي. لكن لم تستطع مصر الحفاظ على المعدل. إذ زادت الواردات مع زيادة الصادرات. حالياً يشكل عجز الميزان التجاري في مصر ما يقارب 7 بالمئة من الناتج المحلي، وكان قد وصل في 2017 بعد تخفيض العملة مباشرة إلى 12 بالمئة من الناتج المحلي.

المنتجات البديلة
زادت الواردات في مصر مع زيادة الصادرات | بيانات البنك الدولي

يعود هذا الفشل لعجز السياسات الاقتصادية عن خلق بدائل محلية للمنتجات المستوردة. وليس القصد الاستبدالَ الكامل للمنتجات المستوردة الذي طالبت به العديد من الحركات اليسارية والمناهضة للعولمة في نهاية التسعينيات وبداية الألفية. ولكن إيجاد بدائل محلية يحتل الاقتصاد المصري بها موقعاً أفضل في سلاسل التوريد العالمية، ويضيف لنفسه موقعاً في سلاسل إنتاج السلع المختلفة، فيرفع القيمة المضافة الكلية للاقتصاد بزيادة المساهمة الصناعية.

ليس للاقتصاد المصري القدرة على إعادة مخططات إحلال الواردات بشكلها القديم الذي راج في منتصف القرن الماضي. فقد تطورت سلاسل التوريد بتسارع منذ التسعينيات، وأصبحت صناعة المنتج الواحد تعتمد على سلاسل توريد عالمية متشابكة. فالبطاطس التي يقدمها مطعم ماكدونالدز تستند إلى سلسلة توريدات تبدأ باستيراد البذور من الولايات المتحدة أو أوروبا، وهي بذور محمية بحقوق ملكية لمطوريها الأمريكيين، تُزرع في مصر باستخدام أسمدة بعضها مستورد من دول أخرى وبعضها مُصَنَّع محلياً في مصانع تعمل بالغاز الطبيعي المستورد من إسرائيل. أما الزيوت التي تُقلى فيها البطاطس فتُستورد من شرق آسيا، وكذلك تُستَورد معدات الطهي والتوابل المستخدمة فيه من أماكن مختلفة. وهكذا يعتمد المنتج النهائي على سلاسل إمداد تصل أكثر من عشرين دولة حول العالم.

يعتمد نجاح المقاطعة على تنويع سلاسل التوريد في التصنيع على نحو يُمَكِّن من استبدال بعض أجزائها التي تنتجها جهات مقاطعة بغيرها. وتمثل زيادة المكون المحلي حجر الزاوية في تلك الاستراتيجية. وهي تعتمد على زيادة قدرة الموردين المحليين في سلسلة الإنتاج، الأمر الذي يتطلب قدراً من سياسات الحماية التي فشلت السياسات المصرية في توفيرها.

يعكس هذا الفشل خللاً هيكلياً في الاقتصاد المصري. فالسياسات النقدية لا تحفز التصنيع المحلي إذا كانت مقوماته غائبة. فتغيب قدرة الاقتصاد الكلي على تخليق القيمة المضافة من الصناعة. لكنها أيضاً تعبر عن خلل آخر أدقّ في هيكل الواردات المصري وهو ما يرتبط بالمقاطعة مباشرةً، وهو اعتماد الاقتصاد المصري على استيراد الكثير من السلع الوسيطة جزءاً من عملية الإنتاج، وبالتالي ترتبط سلاسل التوريد الصناعية المصرية بالكثير منها بلا القدرة على إحلال تلك الواردات.


تبدو معضلة الميزان التجاري المصري في العقدين الماضيين في عدم قدرة الصناعات المرتبطة باستيراد السلع الوسيطة على توطين سلاسل التوريد المحلية لها. ومن ثم فإن زيادة الاعتماد على الاستيراد، وبالأخص السلع الوسيطة، يزيد من فاتورة الواردات. وفي غياب أي نمو كبير في الصادرات، يزداد عجز الميزان التجاري.

تمثل السلع الوسيطة جزءاً كبيراً من الواردات المصرية. سنة 2022 شكلت هذه السلع 38 بالمئة من إجمالي الواردات، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. تعتمد تلك السلع على سلاسل توريد طويلة، ما يصعّب على المستوردين استبدالها في قطاعات كثيرة، وتغيب البدائل المحلية عن أغلب تلك السلع. يستمر الاقتصاد المصري في المعاناة في هذا السياق، فهو غير قادر على توفير السلع الوسيطة، والتي تمثل ما يقارب 70 بالمئة من هيكل الواردات المصرية سنوياً. بالتالي فإن هامش الحركة الكبير في الاستبدال ما زال موجوداً لكنه غير مستغل على طول سنوات التحول الاقتصادي في مصر والممتدة على الأقل منذ عقد الثمانينيات.

يعكس غياب التصنيع التوجهات الاقتصادية الحالية. فالاقتصاد المصري يميل إلى الاستثمار في عمليات استخراج الريع، سواء من القطاع العقاري أو من الاستثمار في الدين الحكومي في البنوك المحلية. فيشكل القطاع العقاري والقطاعات المرتبطة به ما يقرب من 20 بالمئة من الناتج المحلي، بحسب بيانات البنك المركزي المصري. ومع ارتفاع نسبة الدين المحلي للناتج المحلي من 80 بالمئة سنة 2014 لأكثر من 95 بالمئة سنة 2023، بحسب بيانات البنك الدولي، لا تتوفر الموارد اللازمة لدعم الإنتاج الصناعي. على أن المشكلة لا تقتصر على المزاحمة على أولويات توجيه الموارد المحدودة، بل تشمل أيضاً غياب البنية التحتية اللازمة لتطوير الصناعة، مثل التعليم الكفء والقدرة عن نقل التقنية. بحسب الموازنة العامة المصرية، لم تتخط نسبة الإنفاق على البحث العلمي والتطوير 1 بالمئة من الناتج المحلي في السنوات الأخيرة، وهي نسبة تقل عن نظيرتها في معظم الدول العربية.

يوضح الشكل التالي الإنفاق العام في مصر على البحث والتطوير في عشر سنوات متتالية. فمع الزيادة في الإنفاق، إلا أنها ما زالت دون المتوسط العالمي، والمقدر 2.5 بالمئة من الناتج المحلي، بحسب بيانات البنك الدولي.

البدائل المحلية
مع زيادة الإنفاق، ما زالت مصر دون المتوسط العالمي | بيانات البنك الدولي

يؤثر غياب الإنفاق على البحث والتطوير، والذي يقع النظام التعليمي في القلب منه، في فرص تطور الشركات الجديدة والتي تسعى في أوقات المقاطعة للتوسع. أثناء حملات المقاطعة تشهد منتجات الشركات المحلية طلباً متزايداً، لكن الإنفاق على البحث والتطوير هو ما يساعد على استمرار الشركات في الحصول على تلك الحصة السوقية في المستقبل، بل واستبدال كامل للمنتجات غير المحلية.


تؤدي المقاطعة الاستهلاكية لنتيجتين، أولاهما نشر الدعاية السلبية عن الشركات المقاطعة وتعريض أدائها المالي للخطر، والثانية تمكين المقاطِعين من شراء منتجات تتوافق مع قيمهم ومبادئهم الأخلاقية والسياسية. يمثل ذلك الاستهلاك الأخلاقي فرصة نمو للشركات المحلية، لكن العقبات على مستوى الاقتصاد الكلي تحول دون استغلالها.

يعاني الاقتصاد المصري غياب القدرة على خلق القيمة المحلية. إذ لا تحتل الشركات المصرية دوراً مهما في سلاسل الإمداد والتوريد للكثير من السلع التي تنتجها تلك الشركات. وبحسب دراسة لمحمد منصور قداح عن "الاستثمار الأجنبي المباشر ونقل التكنولوجيا الدولية إلى مصر"، نشرها منتدى البحوث الاقتصادية سنة 2003، تقل نسبة التوظيف في مجالات البحث والتطوير والإنفاق عليه إلى الناتج القومي وإجمالي السكان. وكذلك تقل عدد براءات الاختراع في مصر عنها في الدول النامية المنافسة، وهو ما يقلل من قيمة الإضافة المصرية في سلاسل الإنتاج. ولهذا السبب لا تظهر الشركات المصرية إلا في المراحل الأخيرة من سلاسل التوريد، ويكاد دورها يقتصر على التشغيل، بلا قدرة على التطوير أو الصيانة أو الهندسة العكسية.

وطنتْ الهندسةُ العكسية على وجه الخصوص التقنيةَ خارج أوروبا في السبعينيات والثمانينيات. في تلك الفترة، كانت الصين وبعض من دول جنوب شرق آسيا مثل كوريا الجنوبية وتايوان، تعيد تصنيع المنتجات الغربية البسيطة وإنتاجها وأحياناً تقليد إنتاجها، قبل أن تنتقل بعملية الهندسة العكسية تلك لصناعات أعقد في العقود اللاحقة. أتاح الدعم الحكومي الكبير للصناعة والعمل ضمن سياسات اقتصادية تستهدف التصدير للأسواق المحيطة وللغرب، أن تنتقل الشركات من مجرد استهلاك التقنية لإنتاجها.

الصين مثل كوريا الجنوبية وفيتنام، دخلت لاقتصاد السوق بعد فترات من سياسات التخطيط المركزي للاقتصاد والعمل على سياسات إحلال الواردات. بنتْ هذه الدول على ما لديها من الموارد، وخلقت بيئات الأعمال التي تساعد على المنافسة والابتكار. كان ما يميز كل تلك التجارب هو الإنفاق المكثف على التعليم التقني لمحاولة تسهيل عمليات الهندسة العكسية، خاصة في قطاعات الصناعات الهندسية ومنها الصناعات المغذية للسيارات. في الصين اعتمدت صناعة السيارات في الثمانينيات والتسعينيات على عمليات الهندسة العكسية. فطورت الشركات الصينية السيارة "شيري كيو كيو" بناء على نموذج من سيارة "دايو ماتس" التي تغير اسمها إلى "شيفروليه سبارك". فككت الشركاتُ الصينية السيارةَ الأمريكية الكورية، وأعادت تصنيعها بنفس التصميم والتقنية فأنتجت نسخة أقل سعراً. اتهمت شركة جنرال موتورز المصنعة للسيارة الأصلية الشركةَ الصينية بالسرقة الفكرية، لكن ذلك لم يمنع استمرار السيارة "شيري" بعد إدخال تعديلات طفيفة عليها. لم تكن الهندسة العكسية مجرد وسيلة للتحايل على حقوق الملكية الفكرية، بل كانت خطوةً استراتيجية مهدت الطريق للاستقلال التقني والريادة الصناعية. ولا يعني استلهام هذه التجربة البدء بتصنيع التقنية المعقدة. بل القصد البدء بسياسات صناعية تحاول استبدال بعض سلاسل التوريد بالتصنيع المحلي لبعض السلع الوسيطة.

يمكن لذلك مع الوقت أن يخلق قيمة مضافة مرتفعة في الاقتصاد، ويدفع مع دعم الحكومة للتعليم التقني في استثمار أكبر في البشر، وهو المورد الأوفر للاقتصادات ذات القدرة السكانية الكبيرة. يصبح الاستثمار في التعليم حينئذ ضرورياً لبناء اقتصاد قادر على تحمّل الصدمات، أو اقتصاد موجَّه للتصدير وهو جزء من سياسة الحكومات المصرية المتعاقبة علي الأقل في العقود الأربعة الأخيرة.


تمثل السياساتُ الوطنية للتصنيع، ومحاولةُ الاندماج في سلاسل التوريد العالمية في مواقع أفضل وأكثر قوة الأساسَ لاستدامة حركات المقاطعة. وتعطي حركات المقاطعة الاستهلاكية فرصة للبدء في هذا المسار بفعالية. إذ يمكن أن يساهم الاستهلاك الأخلاقي في تغيير بنية الاقتصاد على المدى الطويل. وشرط ذلك انتهاج سياسات اقتصادية تحسن التعامل مع التحديات التي يفرضها العالم المتغيّر، على النحو الذي استطاعته الكثير من الدول النامية في العقود الخمسة الأخيرة وحققت به مستويات جيدة من النمو الاقتصادي المتواصل الناتج عن توسع التصنيع.

وإذا كان استلهام تجارب ناجحة مفيداً في هذا الأمر، فإن محاكاة تجارب الغير لا تنفع. إذ انطلقت كل واحدة من هذه التجارب الناجحة من تحليلٍ وتقييمٍ لمواردها وسياقاتها. واستغلال الفرصة التي تتيحها المقاطعة الاقتصادية لإحداث مثل هذه التغييرات ضروري وعاجل، يؤدي تعطيله أو غيابه للبقاء عالقين في موقع التبعية المستمرة والمفرطة، والتي لا يمكن أن يتحقق منها أي شيء سوى المزيد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، بل ونفي الفعالية التاريخية عن ملايين البشر في هذه المنطقة من العالم.

اشترك في نشرتنا البريدية