بعيداً عن جدل الشخصيتين الدراميتين، فإنَّ هذا المشهد يُعدّ من الإشارات الأولى إلى حضور الشأن الشيشاني في العالم العربي. عدا عن إشاراتٍ مبكرةٍ إلى "الشيشان" المتخيلين في الدراما العربية، فإن هذا المشهد في موسم سنة 1996، عبّر عن حضور الحرب الشيشانية الروسية عربياً، وبات الناس يتحدثون عن الشيشان وحربهم التي بدأت سنة 1994، بعد سنواتٍ ثلاثٍ من انهيار الاتحاد السوفييتي الذي عزل شعوبه المسلمة ومنع تواصلها مع دائرتهم الإسلامية. لم تكن سوريا استثناءً، لا سيما أنَّ علاقة السوريين قديمةٌ بالشيشانيين، وستمتدُّ سنواتٍ طويلة بمراحل مختلفة.
بدأ هذا الحضور منذ بداية التسعينيات، مروراً بتسلّح الثورة السورية سنةَ 2011. فقد استعار الثوّار السوريّون النموذجَ الشيشانيّ، سواءً بتشكيل بعض الكتائب بأسماء شيشانية، أو بلباسهم، أو بمشاركة مجموعاتٍ مسلّحةٍ شيشانيةٍ في القتال في سوريا مع مجموعاتٍ جهاديةٍ ومستقلّةٍ. وأخيراً حضورٌ يرتبط بحال الدولة الروسية، التي كانت الراعية أو الحامية الأساسية لنظام بشار الأسد، وأسهمت في حمايته مع الطرف الإيراني، وأرسلت مجموعاتٍ شيشانيةً مواليةً لها لتؤدي أدوار شُرطِيّةٍ في بعض مناطق سوريا، وبالتالي، فإن تأثير سقوط الأسد في الشيشان يتبدّى بوضوح.
الشيشان مسلمون سُنّةٌ على المذهب الشافعي ويتبعون الطرق الصوفية تاريخياً إلى أن حضرت التيارات السلفية بعد الحرب الشيشانية الأولى سنة 1994. وتشير بعض التقارير السوفيتية التي أورد ذكرها ألكسندر بنغسين في كتابه "صوفيون ومفوضون: التصوّف في الاتحاد السوفييتي" المنشور سنة 1985، وهو من أشهر الباحثين في شؤون مسلمي الاتحاد السوفييتي، أن الشيشانيين من أعضاء الحزب الشيوعي كانوا في أوقات فراغهم يذهبون إلى حلقات الذِّكر السرّية.
قوّة الروابط الاجتماعية في نظامٍ قَبَليٍّ مصحوبٍ بأعراف اجتماعيةٍ راسخةٍ أَسْهَمَ في تعزيز الشعور الدينيّ وبات مكوّناً أساسياً للهوية. مع سقوط الاتحاد السوفييتي، توجّه الشيشانيون من دائرتهم السوفييتية والمعسكر الاشتراكي الذي عاشوا فيه سبعين عاماً، منذ 1917 وحتَّى 1991، إلى الدائرة الإسلامية. فأعيدَ إنتاجُ أنماط الممارسات الدينية والطقوسية، وانفتحت العلاقات مع الدول العربية والإسلامية، ووفد المئاتُ من الطلاب الشيشان للدراسة في الدول العربية، ومنها سوريا، حيث درس العشراتُ اللغةَ العربية والشريعة في معهدي أبو النور والفتح الإسلامي في دمشق. لا توجد إحصاءاتٌ دقيقةٌ عن أعداد الطلاب آنذاك، لكن أذكر أنَّ عددهم زاد عن ثلاثين طالباً في "مركز اللغات" في الجامعة الأردنية وحدَه مثلاً بين سنتَيْ 1995 و1996، في أثناء دراستي الجامعية الأولى.
لم يكن موضوع الشيشان غريباً على سوريا والأردن، وبدرجةٍ أقلّ العراق. فكلّ تلك الدول، مع تركيا، فيها مواطنون شيشان ومواطنون من أصولٍ شمال قوقازية مثل الإنغوش والشراكسة والداغستانيين، ممّن هاجروا إلى الدولة العثمانية نهاية القرن التاسع عشر واستقرّوا في تلك الدول. وما زال كثير منهم محافظاً على اللغة والعادات والتقاليد، وقد تجدّدت العلاقات بين هؤلاء ووطنهم الأمّ في تلك الفترة.
برز التّوجه إلى الدائرة العربية الإسلامية في محاولات ربط الحركة الاستقلالية الشيشانية سلوكَها السياسيّ مع تلك الدول، فتكرَّرت زيارات مسؤوليها الدولَ العربية. عُيِّن سياسيون بمناصب رفيعةٍ في تلك المناطق بحكم علاقاتهم مع تلك الدول العربية، سواءً أكانوا مواطنين فيها، أم لهم علاقاتٌ قويةٌ بتلك الدول. وفي سنة 1993 زار العراقَ الجنرالُ جوهر دوداييف قائدُ الحركة الاستقلالية الشيشانية، وزار ضريحَ الإمام عليٍّ في النجف. وعند مغادرته لم يُدِرْ ظهرَه للضريح جرياً على عادات الشيشان الصوفية، وقد لقت هذه المعاملة للضريح ترحيباً كبيراً بين أوساط العراقيين الشيعة.
الكثير من الطلاب الشيشان عادوا إلى بلادهم بتعليمٍ دينيٍّ ولغويٍّ، وتولّوا مناصب دينيةً، أو تولّوا تدريس اللغة العربية والعلوم الشرعية في الشيشان، وحملوا تأثير الإسلام السياسي الشرق أوسطي إن جاز التعبير إلى الشيشان. وهو ما برزت آثارُه لاحقاً مع تزايد دور التيار السلفي الجهادي والمقاتلين العرب منتصف التسعينيات إبّان الحرب الشيشانية الأولى مع روسيا.
كان تزايُد العناصر المتشدّدة، وإضفاءُ الطابع الإسلامي على الصراع، وتزايُد عدد المقاتلين العرب الذين وفدوا من مناطق الصراع في أفغانستان وطاجيكستان وبلدانهم الأصلية نصرةً للشيشان، مدخلاً أساسياً، لروسيا التي شعرت بالمذلّة إثر هزيمتها، للتمهيد لحربٍ جديدةٍ في الشيشان سنة 1999 حتّى 2004. حينها ضرب رجل موسكو القويّ القادم من دهاليز الاستخبارات السوفييتية في ألمانيا الشرقية، فلاديمير بوتين، المقاومةَ الشيشانية وبكلفةٍ بشريةٍ عاليةٍ تجاوزت عشرات آلاف القتلى، من بينهم النساء والأطفال. وقد عمد إلى تنصيب حكومةٍ مواليةٍ ترأّسَها بدايةً مفتي جمهورية الشيشان الذي انقلب من الحركة الاستقلالية إلى صفّ روسيا، حجّي أحمد قاديروف، والذي قُتل سنة 2004 في تفجير استادٍ كان يرعى فيه حفلاً في ذكرى "الحرب الوطنية العظمى"، كما تصف روسيا الحرب العالميّة الثانية. ومهّد اغتيالُه الطريقَ لتنصيب ابنه رمضان قاديروف رئيساً للجمهورية.
تذكّر هذه الحادثة بالشأن السوري عام 2000. ففي جلسةٍ برلمانية استغرقت ربع ساعةٍ فقط، أقرّ مجلس الشعب تعديل المادة 83 من الدستور السوري التي أصبحت تنصّ على أن سِنّ الرئيس يجب أن يكون أربع وثلاثين سنة بدلاً من أربعين سنةً، حتى يتسنى لبشار الأسد أن يكون رئيساً. بعد ثلاث سنوات، واجه الشيشانيّون الموالون لروسيا حالةً شبيهة. لم يتجاوز عُمْرُ قاديروف الابن آنذاك سبعةً وعشرين عاماً، بينما حدّّد دستورُ الشيشان الروسيُّ عُمرَ الرئيس بما لا يقلّ عن ثلاثين عاماً. وبدلاً من تغيير الدستور على الطريقة السورية الأسدية، عُيِّن رمضان في منصب رئيس الوزراء وكان الحاكمَ الفعليَّ للجمهورية مع وجود رئيسٍ صوريّ. وما إن بلغ قاديروف الابنُ سنَّ الثلاثين حتَّى أجريت انتخاباتٌ رئاسيةٌ فاز فيها، وما زال حتى الآن رئيساً للشيشان.
تولّى قاديروف بعد المقتلة البشرية الكبيرة في الحرب الشيشانية الثانية دورَ ما تصفُه روسيا بمكافحة الإرهاب، لتفكيك بقايا شبكات المقاتلين الشيشان التي اتخذت طابعاً إقليمياً أوسع باسم "إمارة القوقاز الإسلامية". وقد شكّلت مظلّةً للمجموعات ذات الطابع الإسلامي في شمال القوقاز، وإن كانت قيادتُها في الشيشان. ثم تبنت خطاباً سلفياً جهادياً ونفّذَت هجماتٍ في روسيا. ومع محاولات التقارب من القاعدة إلّا أنَّ التنظيم، وإنْ أشاد بالإمارة، لَم يعترفْ بها جزءاً منه. وبذلك انقسمت مجموعات المقاومة المسلّحة الشيشانية بين تلك الإمارة وبين القوميّين الذين أسّسوا للحركة الاستقلالية الانفصالية عن روسيا، ويُعرفون بِاسم "الشيشان إتشكيريا". نجح تحالف موسكو قاديروف في إضعاف تلك الشبكات وتهجيرها، بينما بحث المقاتلون ذوو النزعة الإسلامية عن مناطق قتالٍ خارج شمال القوقاز، فاتّجَهوا إلى سوريا التي كانت قد بدأت تشهد حرباً مسلّحةً ضروساً بين المعارضة، بما فيها من مجموعاتٍ جهاديةٍ، والنظام السوري.
انقسم وجود المقاتلين الشيشان في سوريا إلى ثلاث مجموعات. الأولى جيل جديد من الطلاب الذين كانوا يدرسون في الدول العربية لا سيما في سوريا، والمجموعة الثانية ممّن تبقى من المقاتلين الشيشانيين بعد ضرب شبكاتهم وخروجهم إلى تركيا التي ساعدت سلطاتُها بدخولهم إلى سوريا. والمجموعة الثالثة تشكلت ممّن يُعرَفون بشيشان الكيست، أي الشيشانيون الذين يقطنون في وادي بانكيسي في جورجيا، وهُم مواطنون جورجيون. ومِن أشهرِ مَن أتوا من تلك المنطقة كان طرخان باترشفيلي المعروف بِاسمه الحركيّ "عمر الشيشاني" الذي ترأس عملياتٍ عسكريةٍ لتنظيم داعش، وقد قُتل في مواجهاتٍ بالشرقاط في العراق سنة 2016، وصلاح الدين الشيشاني "غريغوري مارغوشفيلي"، الذي ترأس جيشَ المهاجرين والأنصار في بدايات الأزمة السورية، وقُتل في غارةٍ روسيةٍ في سوريا سنة 2017. ومنهم مسلم الشيشاني "مراد مارغوشفيلي" زعيم "جند الشام"، الذي واجه هيئةَ تحرير الشام إلى حين مقتله بغارةٍ روسيةٍ في جسر الشغور بريف إدلب سنة 2021.
من بين هؤلاء القادة عبد الحكيم الشيشاني "رستم أجاييف"، الذي ترأس مجموعة "أجناد القوقاز" قبل أن يترك ورفاقه القتالَ في اللاذقية بعد سنة 2022، وينتقلوا إلى أوكرانيا لقتال روسيا. ومثل أجاييف، كانت مجموعة مسلم الشيشاني مستقلةً، بينما حدث الانقسام بين صلاح الدين وعمر الشيشاني على وقع الانقسام الأكبر المعروف بين تنظيم داعش الذي بايَعَه عمر الشيشاني سنة 2014، وبين جبهة النصرة المبايِعة للقاعدة آنذاك والتي غيّرت اسمَها لاحقاً لهيئة تحرير الشام، وهي التي قادت معركة إسقاط نظام الأسد. وقد انعكس ذلك على المقاتلين الشيشان الذين انقسموا بين الطرفين، مع غالبيةٍ آثَرَت البقاء مع صلاح الدين في "جيش المهاجرين والأنصار"، المتحالف مع جبهة النصرة.
أمّا من تبقّى من هؤلاء المقاتلين، وأحدُهم من وقف ليتصوّر أمام المسجد الأموي، هُم في غالبيّتهم ممّن تبقّى من مقاتلي وادي بانكيسي وأَمْيَلُ إلى التيّار القوميّ الإسلاميّ. وهُم الآن أمام سؤال كيفية تعامل السلطة الجديدة في دمشق معهم. فهُم رفاق السلاح والثورة ولكنهم أيضاً مصدرٌ لقلقٍ دوليٍّ، لا سيما لروسيا، وعُرضةٌ لخطابٍ داخليٍّ انقساميٍّ في سوريا وإن استَنَد على مقولاتٍ غير حقيقيةٍ أو إقصائيةٍ، إنْ لَم نَقُلْ عِرقيّةٍ، في بعض الأحيان. كما شوهد مثلاً في هتافاتٍ في بعض مناطق دمشق في ديسمبر 2024، تُحسَب على معارِضين للواقع السوري الجديد، وتقول "إسلام ومسيحية.. ما بدنا شيشانية"، وذلك حين ظهرت الخلافات عشيّة أعياد الميلاد في البلاد بعد حرق مجموعةٍ من الأشخاص شجرةَ ميلادٍ في ريف حماة.
يحتفظ التيّار الأقرب للقوميّ، ومنهم من تبقّى في سوريا، بعلاقاتٍ جيّدةٍ ببعض من يقاتلون في أوكرانيا ضدّ روسيا. ويدركون أن إضعاف روسيا، يصبّ في مصلحة معركتهم الاستقلالية، ولا مكان آخَر يذهبون إليه لا في روسيا ولا في جورجيا. وإذا ما سمحت لهم السلطات السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع أو أبو محمد الجولاني، حين تحالفت معه بعض تلك المجموعات، باستخدام أراضيها للتدريب والضغط على الوجود الروسي في ميناء طرطوس وقاعدة حميميم الجوّية، فهذا سيشكّل تحوّلاً جديداً للصراع الشيشاني الروسي.
كان ضعفُ الدولة الروسية المركزية تاريخياً عاملاً أساسياً في صعود الثورات الشيشانية والشمال قوقازية. وشوهد ذلك أيام ثورة الإمام منصور سنة 1787، بينما روسيا مشغولةٌ بحربها آنذاك مع الدولة العثمانية، وفي القرن التاسع عشر، وإبّان حرب المريدية التي قادها الإمام شامل واستمرّت ثلاثين عاماً منذ 1829 وحتَّى 1859. وكان قد أسّس حكم الشريعة وجمع الشمال قوقازيين تحت رايةٍ واحدةٍ، ولم تستطِع روسيا هزيمتَه حتى فرغت من حرب القرم. وحين انشغلت روسيا بحربها الجديدة مع الدولة العثمانية بين سنتَيْ 1877 و1878، استمرّت ثورةُ علباك حجّي عاماً وبضعةَ أشهرٍ وانتهت بإعدام قياداتها.
دعا ضعفُ الدولة المركزية مع بدء الثورة البلشفية شعوبَ شمال القوقاز إلى إعلان "جمهورية الجبل القوقازية". اعترفت بهذه الجمهورية عدّةُ دولٍ وترأّسها الشيشانيّ تبا تشرمويف، وتشكّلت من نخبٍ شمال قوقازيةٍ ممثِّلين عن شعوبهم. وقد أفشلَها الشيوعيون بعد سيطرتهم على السلطة. وإبّان الحرب العالمية الثانية، هجَّر الزعيم السوفييتي ستالين الشيشانيين مع شعوبٍ أُخرى إلى أصقاع سيبيريا ومجاهل كازاخستان ثلاثة عشر عاماً، بتهمة التعاون مع ألمانيا النازية لتأسيس دولةٍ لهم، ليعود أبناء المهجّرين للمطالبة بالاستقلال مع سقوط الاتحاد السوفييتي سنة 1991.
أحد عواملُ نجاح عملية "ردع العدوان" هو انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا منذ 2022، وعدمُ قدرتها على حماية نظام الأسد ودعمه، كما فعلت منذ سنة 2015 بسلاحها الجوّي. وأشارت تقارير إلى أن سقوط الأسد أظهر أوضاعاً صعبةً للجنود الروس في قاعدة حميميم الجوّية، وميناء طرطوس، بحكم تحويل أغلب الموارد إلى حرب أوكرانيا.
يقول رئيس الحكومة الشيشانية (إتشكيريا) في الخارج أحمد زاكاييف للفِراتْس: "إن حال الضعف الذي تشهده روسيا دَفَعَهم إلى إعادة تأسيس هيئةٍ في أوكرانيا تمهّد لإعادة تأسيس جمهورية الجبل القوقازية 1917، بممثلين عن كلّ جمهوريات شمال القوقاز… وسقوط نظام الأسد عرّى المزيد من ضعف الدولة الروسية". لكنّه أصرّ على أن تجربة كثيرٍ من المقاتلين الشيشان في سوريا أظهرت أن كثيراً من الشيشانيين وجدوا أولويّةَ التركيز على "تحرير بلادهم" بدلاً من القتال في الخارج. وقد عارض وتيّاره القوميّ ذهابَ المقاتلين الشيشان للقتال في حربٍ لا يَعُدّونها حربَ قومهم. وأضاف أن كثيراً من الشيشانيين، حسب التقارير التي تصله بوصفه لاجئاً في لندن منذ منتصف التسعينيات، صابرون على عيشهم تحت نظامٍ قمعيٍّ، لكن سقوط الأسد جعلهم "يدركون أن سقوط مثل تلك الأنظمة ممكن".
ويرى مايبريك فاتشاغيف، الباحثُ في تاريخ شمال القوقاز المقيمُ في فرنسا، والذي عمل سابقاً مع الرئيس الثالث للجمهورية الاستقلالية أصلان مسخادوف، أنّه لن يكون هناك تأثيرٌ مباشرٌ لسقوط نظام الأسد بحُكم سيطرة نظام قاديروف مع روسيا بشكلٍ كبيرٍ على مفاصل الدولة والمجتمع، على "حال الفرح الذي استقبل به الشيشانيون خبر سقوط الأسد". ومن المعروف أنَّ نظام قاديروف شكّل مصدراً للمقاتلين لصالح روسيا في الحرب الأوكرانية، لا بل عمليات التجنيد الإجباري تجري لأيّ سببٍ، حتى لو كانت مخالفةَ سَيْرٍ، وعقوبتُها الذهاب للقتال تحت راية الأعداء التاريخيين للشيشان، ضدّ شعبٍ آخَر، كما يروي للفِراتْس أحدُ الذين هربوا من الشيشان خوفاً من التجنيد، مشترطاً عدم الكشف عن هويته. وقد أدّى هؤلاء المقاتلون الشيشان، أو كتيبة أحمد سيلا –نسبةً إلى حجّي أحمد قاديروف– وسيلا تعني القويّ بالروسية، دوراً وظيفياً آخَر دعائيّاً لصالح البروباغاندا الروسية في الدول العربية، بوجود مسلمين يقاتلون تحت الراية الروسية. استغلّت روسيا هذا العامل بعدما عُرف بمصالحات 2018، حين رَعَت تأسيسَ مناطق خفض التصعيد في سوريا بين المعارضة والنظام. وكانت درعا من المناطق المعقّدة، حين زجّت روسيا بقواتٍ شيشانيةٍ تفصل بين قوّات النظام والأهالي، الذين وجدوا لدى الشرطة الشيشانية تقارباً بحكم الثقافة الدينية والشكل القبليّ المتّبَع في البيئتين.
وبغضّ النظر عن شكل التأثير، فإن صدى سقوط نظام الأسد أَسْمَعُ في الشيشان، جليّاً، بحُكم الارتباطات التاريخية. ويبدو أنَّ عاملَيْن أساسيَّيْن يتحكّمان بمدى هذا التأثير، وهُما: أوّلاً، حال الدولة الروسية وتكشّف ضعفِها، وهذا مرهونٌ بتطورات الجبهة الأوكرانية. وثانياً قدرة الشيشانيين، وشمال القوقازيين عموماً، على إعادة إنتاج شبكات المعارضة في الداخل، وهو أمرٌ يبدو غيرَ واقعيٍّ حاليّاً في ظلّ نظامٍ فئويٍّ يقوم على السيطرة والعنف بدعمٍ غير محدودٍ من موسكو، ولكن لسان حالهم يذكّر بأن ذلك كان حال نظام الأسد.
على الجانب الآخر هناك مخزونٌ من المقاتلين الشيشان الذين انتقلوا إلى أوكرانيا، أو بقوا في سوريا. وبقاؤهم مرهونٌ بالتحوّلات السياسية فيها. وهُم يتمتّعون بخبرةٍ قتاليةٍ وإيديولوجيةٍ صلبةٍ تذكّر بكثيرٍ ممّا كان يقوله أولئك المقاتلون لكاتب السطور بداية الأزمة السورية، بأن سوريا هي ساحة تدريبٍ حقيقية حتى يعودوا إلى بلادهم. لكنّ التطوّرات السياسية ليست بتلك البساطة.
مهما يكن من أمرٍ فإن تأثير سقوط الأسد امتدّ إلى خارج الدول العربية، بما في ذلك الشيشان. كذلك فإن وجود الشيشانيين في سوريا أمرٌ واقعٌ سيكون على الحكّام الجُدد التعاملُ معه، أو كما يقول عصام عبه جي في حلقة "مرايا" المذكورة في بداية المقال: "ما عم بتشوفهم [الشيشان] كل يوم كيف عم يتمشّوا في ساحات غروزني وهم صافّين هالفشك على صدورهم، وعم يتغاووا". كلّ ما علينا هو إبدال ساحات غروزني بساحات المسجد الأموي، وإن كان عدد هؤلاء الشيشانيين قليلاً جداً، ولا يقارَن بأعدادهم في ساحات غروزني، إلّا أن تأثيرهم يبدو كبيراً.