منذ سنة 2011 اضطرّ أكثر من أربعة عشر مليون سوريٍّ إلى النزوح عن منازلهم، ما ولّد أكبر أزمة لاجئين عرفها العالَم بحسب المفوضية الدولية للاجئين. إذ غادر أكثر من خمسة ملايين وثمانمئة ألف سوريٍّ من هؤلاء النازحين أراضيَ بلدهم وسُجّلوا لاجئين في لوائح المؤسّسات الأممية، عدا مَن لم يسجَّلوا إمّا طوعاً أو قسراً بسبب سياسات الدول المضيفة. ومعظم هؤلاء اللاجئين بحسب اليونيسيف هم من الأطفال.
كان لبنان المجاور وما يزال له نصيبه من تلك الأزمة الضخمة، إذ بلغت أعداد اللاجئين المسجّلين مع المفوضية في لبنان حسب آخِر تحديثٍ لسنة 2024 حوالي سبعمئة وثمانية وستين ألفاً. وتضيف السلطات اللبنانية على هؤلاء نحو ثمانمئة ألفٍ آخَرين غير مسجّلين مع المفوضية، ما يرفع أرقام السوريين المقيمين على الأراضي اللبنانية إلى مليونٍ ونصف مليون، ليكون لبنان أكبر بلدٍ مستضيفٍ للّاجئين في العالَم مقارنةً بعدد سكّانه البالغ أكثر من خمسة ملايين بقليل. وكانت السلطاتُ اللبنانيةُ قد أَرغَمَت مفوّضيّةَ اللاجئين على التوقّف عن تسجيل مزيدٍ من اللاجئين منذ سنة 2015، ناهيك من أن لبنان يضمّ أساساً عدداً كبيراً من العمال السوريين المشتغلين في قطاعَي البناء والزراعة.
ضخامة أزمة اللاجئين هذه تستدعي أمثلةً شبيهةً من تاريخ الأمم، لتذكّر بصعوبة حلّها في أمدٍ قصير. فثمّة تشابهٌ بينها وبين رواندا التي شهدت حرباً أهليةً في تسعينيات القرن الماضي بين التوتسي والهوتو وأودت بحياة مئات الآلاف، وخلّفت مئات الآلاف من اللاجئين في دول الجوار كجمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا. وانتظر كثيرٌ من اللاجئين الروانديين بعد إحلال السلام سنة 1993 عقداً تقريباً، قبل أن يتمكّنوا من العودة إلى ديارهم. كانت هذه العودةُ تدريجيةً على مدى السنوات العشر. وآخِرُ من عاد من هؤلاء، حسب المنظّمات الأممية، النساءُ والأطفال والفئات المجتمعية الأضعف تزامناً مع عودة الخدمات الأساسية في مناطقهم التي نزحوا منها.
استدعاء التجربة الرواندية أَثارَه مشهد عابري الحدود اللبنانية السورية الذين تراجعت أعدادهم يوماً بعد يومٍ منذ سقوط نظام الأسد، في مقابل تصريحات بعض السياسيين اللبنانيين بأنه "ما من سبب يدفع السوريين اليوم للبقاء في لبنان". زالت العقبة الكبرى من طريق عودة السوريين بزوال نظامٍ سامَهم القمعَ والاستبدادَ وشَنَّ عليهم حرباً مفتوحةً منذ انطلاق ثورتهم سنة 2011. هذا العنف دفع ملايين السوريين إلى مغادرة وطنهم واللجوء إلى دول الجوار أو غيرها من دول العالم. لكن معالجة النتائج التراكمية لدوّامة العنف الطويلة في الأربعة عشر عاماً الماضية ستستغرق وقتاً.
في البقاع اللبناني هناك الآلاف من المهجَّرين من حَيَّي القابون والقدم بدمشق، لكن هذين الحيّين سُوِّيا بالأرض. يسكن الآن حيَّ القابون نحو عشرين عائلةً أو ما يقارب مئةً وعشرين شخصاً وَجدوا لأنفسهم أماكنَ لم يَطَلْها الخراب. أمّا باقي الحيّ، الذي سكنه فيما مضى نحو خمسةٍ وأربعين ألف نسمةٍ، فليس صالحاً للسكن وقد أضحى تلالاً من الردم على مدّ البصر، عدا عن سكان الغوطتين الشرقية والغربية ممّن لَجؤوا إلى لبنان قبل حصار النظام السوري إياهم وتهجيرهم في سنة 2013.
تقدّر المؤسّساتُ الأممية خسائرَ القسم الشرقي من مدينة حلب ما بين القصف والزلزال بأكثر من ستة وثلاثين ألف مبنىً سكنيٍّ، فيما خسرت مدنُ غوطة دمشق حوالي خمسةً وثلاثين ألف مبنىً، وخسرت مدينة حمص حوالي أربعة عشر ألفاً. وقد لجأ بعض سكّان حمص وغوطة دمشق إلى لبنان منذ ما قبل الحصار لقرب المسافة، فهناك أعدادٌ كبيرةٌ من سكّان الغوطة وضواحي دمشق في البقاع اللبناني، وبالمثل تستضيف مدينة طرابلس ومناطق الشمال اللبناني أعداداً كبيرةً من اللاجئين من مدينة حمص.
وإذا ما قيس حالُ اللاجئين السوريين في لبنان بعموم ملفّ إعادة إعمار سوريا، فإن الأرقام تُبدي صورةً متشائمة. تتفاوت تقديرات تكلفة إعادة الإعمار بعد نحو أربعة عشر عاماً من الحرب، لكن التقديرات العامّة تشير إلى أكثر من مئة مليار دولار. وإذا قورن هذا بالثلاثة والثلاثين مليار دولارٍ التي قدّمها الاتحاد الأوروبي، أكبر المانحين في السنوات الثلاث عشرة الماضية، فإنّ هذا الرقم يبدو ضئيلاً أمام الاحتياجات الحالية، مايعني تباطؤ إعادة إعمار المناطق المدمَّرة إعماراً يتيح للاجئين السوريين العودة من لبنان.
ليست وثائقُ الأهل وحدها ما قد يعقّد العودة، بل ثمّة مسألةٌ شائكةٌ أخرى تواجه اللاجئين السوريين في لبنان، وهي مسألة تسجيل الولادات. فبسبب تعقيد العملية وكلفتها الباهظة، كانت التقديرات سنة 2018 تشير إلى أكثر من خمسين ألف طفل حديث الولادة بين مجتمع اللاجئين السوريين في لبنان ممّن لا يملكون وثائق رسميةً أو لم يتمكّن آباؤهم من تسجيلهم نظامياً في السجلّات السورية. كثيرٌ من العائلات التي تصارع لإطعام أبنائها أو تدفئتهم لا تستطيع إيجاد الموارد المالية للتسجيل النظامي. لهذا السبب ساعدت فرقٌ قانونية في المؤسسات السورية والدولية المئاتِ من العائلات لتسجيل وقائع الولادة طوال سنواتٍ. إلّا أن شحّ الموارد المخصّصة لمثل هذا النوع من الدعم القانوني أدّى إلى توقّف العملية تاركاً المسألة مهملةً لآلاف العائلات. إضافة إلى ذلك فإن القانون اللبناني يفرض على من لم يسجّل ولادة وليدِه في السنة الأولى من عمره أن يسجّله بموجب حكم محكمةٍ، ممّا يزيد تعقيدَ الإجراءات وكلفتَها على حدٍّ سواء.
هذه معضلةٌ قد تتسبّب في تأجيل عودة اللاجئين إلى سوريا، قبل تسوية تسجيل أطفالهم بوثائق رسميةٍ تؤكّد سوريَّتَهم وتمكّنهم من متابعة حياتهم، كالتسجيل في المدارس وإمكانية السفر والعودة إلى سوريا.
بحسب تقرير هيومن رايتس ووتش المُعَنْوَن "أوقفوا تسييس تعليم الأطفال اللاجئين في لبنان"، فإن العقبات الإدارية والمعايير الصارمة في تجديد تصاريح الإقامة اللبنانية أسفرت عن وضع مأساوي، إذ يحمل 20 بالمئة فقط من اللاجئين السوريين وضعَ إقامةٍ صالحاً. ويعود ذلك جزئياً إلى قرار مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بتعليق التسجيل الرسمي للاجئين السوريين منذ سنة 2015، التزاماً بسياسات الحكومة اللبنانية. هذا الوضع جعل أطفال 80 بالمئة من اللاجئين السوريين المقيمين في لبنان محصورين في دائرة الحرمان من الأوراق الثبوتية.
في نقاشاتنا مع اللاجئين عن العوامل التي تحكم قرارهم بالعودة إلى سوريا، كانت مسألة التعليم تحلّ دوماً في المرتبة الثانية بعد الأمن وتوقّف الملاحقات الأمنية. ما من شكٍّ أن الأمر ينبئ عن درجةٍ عاليةٍ من الوعي بأن التعليم هو الفرصة الوحيدة لأولادهم، لا للترقّي الاجتماعي فحسب، بل لتوديع مخيمات النزوح. قالت إحدى السيدات اللاجئات من حيّ القابون لمجلّة "الفِراتْس": "لن أعود إلى مكانٍ لا يمكنني أن أضمن فيه تعليماً لائقاً لأولادي. أنا في الأربعينات من عمري وراحت عليّ. أريد لأولادي تعليماً يضمن لهم مستقبلاً خارج الخيمة".
وعلاوةً على رغبة اللاجئين السوريين في لبنان بفرص التعليم لأولادهم وبناتهم، فإن البنية التحتية التعليمية في سوريا غيرُ مهيَّأةٍ لاستقبالهم. تشير التقديرات الدولية إلى أن الدمار الذي لحق بالمدارس جرّاء القصف بالبراميل المتفجرة، دفع إلى خروج أكثر من 891 منشأةً تعليميةً عن الخدمة، ناهيك من أزماتٍ في توفير الكتاب المدرسي لمحدودية الموارد من تمويلٍ ومطابع، وإعادة تنظيم معادلة الشهادات وإدماج الطلاب اللاجئين في العملية التعليمية في سوريا. كلّها تحدّياتٌ تؤجِّل عودتَهم من لجوئهم في لبنان.
حتى الجانب الاقتصادي للعودة يبدو غير مشجع ولا يصبّ في صالح إمكانية عودة هؤلاء اللاجئين من لبنان. ثمّة صعوبةٌ في الحصول على أرقامٍ دقيقةٍ عن العمالة السورية في لبنان، بحكم عملهم في قطاعاتٍ غير منظّمةٍ أو تقتصر على مجالاتٍ محدَّدةٍ مثل البناء والزراعة وجمع القمامة، وهي القطاعات التي يُسمح لهم بالعمل فيها قانونياً. أمّا العمل في باقي القطاعات فيُعَدّ غيرَ قانونيٍّ، ما دفع العديد من اللاجئين إلى العمل في ظروفٍ هشّةٍ ودون حمايةٍ قانونية.
ومع ذلك قد يَسْهل اتخاذ قرار العودة على بعض الحرفيين والمهنيين ممّن سيكثر الطلب على خدماتهم في المرحلة الجديدة من تاريخ سوريا. ولكن لن يكون هذا حال الجميع، بحكم الواقع الاقتصادي المزري في سوريا.
تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن نحو 90 بالمئة من السوريين يعيشون تحت خطّ الفقر وأن أكثر من ربع السكان يعيشون في فقرٍ مدقعٍ، أيْ أقلّ من دولارٍ وربع في اليوم، وعليه فإن الوضع الاقتصادي للاجئين السوريين في لبنان لن يكون أحسن حالاً إذا عادوا.
بعد سقوط نظام الأسد، أتيحت لي فرصةُ التجوّل في مناطق سوريّةٍ ولقاء فعالياتٍ مختلفةٍ ومحادثة الناس في حواراتٍ مطوّلةٍ، لا سيّما مع الشباب. وفي كلّ هذه الحوارات كانت فرص العمل والتمكين الاقتصادي تأتي على رأس الأولويات، قبل الأمن والسلم الأهلي. فرصُ عملٍ لا تكفي المقيمين في سوريا فحسب، الذين يعانون من اقتصادٍ متهاوٍ، بل تستوعب أيضاً آلافَ اللاجئين المرغَمين على العودة. ولعلّ تصريحات عبد الله الدردري، الأمين العامّ المساعد لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي للدول العربية، تعطي لمحةً عن حجم الأزمة الاقتصادية في سوريا، إذ قال إن الدولة خسرت أربعة وعشرين عاماً من التنمية وأنها تحتاج إضافة خمسمئة ألف فرصة عملٍ سنوياً في السنوات العشر المقبلة حتى يعود الاقتصاد السوري إلى ما كان عليه سنة 2010. هذا يعني أن ماحدث للاجئين الراونديين هو الأقرب لعودة اللاجئين السوريين من لبنان، عودةٌ متدرّجةٌ على مدى عشر سنواتٍ أو أكثرَ، مشروطةٌ بنموّ الاقتصاد السوري وقدرته على استيعاب العمالة العائدة وإدماجها في سوق العمل.
في حوادث أُخرى يحاول بعض العائدين من لبنان أو من الشمال فرضَ نمطٍ معيَّنٍ من الحياة بقوة السلاح، كإجبار المدارس والمؤسسات الرسمية على إنهاء الاختلاط بين الذكور والإناث بحجّة أن هذه التعليمات من "الهيئة"، أي هيئة تحرير الشام. وفيما تضع الإدارة الجديدة حدّاً لمثل هذه التجاوزات في مراكز المدن، فإنها تبدو عاجزةً عن فعل ذلك في الأرياف والأطراف، كما تدلّ خبرةُ الشهر الأول بعد استلامها زمام الأمور. على سبيل المثال، شهدت مدينة مصياف غرب حماة بعد انهيار النظام السوري، توتراتٍ أثارت مخاوفَ الأقلّيات والسكان، خصوصاً مع دخول عناصر من "لواء التوحيد" وتجوّلهم في المدينة حاملين راياتٍ إسلاميةً وأسلحةً بيضاء مطالبين المارّة بنطق عباراتٍ دينيةٍ مثل "الله أكبر". تلقّت النساءُ غير المحجّبات بعضَ التوبيخ وأُغلقت محالُّ بيع الخمور، ممّا زاد من حالة الذعر والقلق. ومع تطمينات "هيئة تحرير الشام" بشأن احترام خصوصيات السكان، فإن مثل هذه التوترات الأهلية قد تعيق عودةَ كثيرٍ من اللاجئين ممّن لا يرغبون في العيش في ظلّ احتقانٍ مماثل.
أخيراً، يبدو أن هامش الحرّيات وعملية الانتقال السياسي والشكل الذي ستؤول إليه سوريا المستقبلية سيكون ذا تأثيرٍ كبيرٍ على قرارات العودة عند كثيرين، خاصّةً النساء. في سنوات الحرب الطويلة تحمّلت النساءُ السورياتُ العبءَ الأكبرَ في رعاية الأُسَر، مع غياب الرجال لأسبابٍ مختلفةٍ كالموت والتغييب القسري والهجرة بقوارب الموت أو حتى المشاركة في الأعمال القتالية.
في هذا السياق، جرّب عديدٌ من النساء السوريات في لبنان مستوياتٍ جديدةً من الحرّية الفردية التي لم تكن متاحةً لهنّ في مجتمعاتهن السابقة. مع غياب دراساتٍ مفصّلةٍ عن هذا الموضوع في لبنان، إلّا أن شهاداتٍ من مشاريع اقتصاديةٍ نسويةٍ شارك فيها كاتب السطور في تجربته الطويلة مع اللاجئين السوريين، وَجَدَت أن بعض النساء عبّرن عن شعورهن بأن تجربة اللجوء فتحت أمامهن آفاقاً جديدةً مثل ارتياد العمل أوّل مرّةٍ وتحقيق موردٍ ماليٍّ مستقلٍّ أو الانخراط في الدفاع عن حقوقهن وحقوق مفقوديهن.
تَستبعِد هؤلاء النساءُ العودةَ إلى الوراء في مشاركتهنّ في الحياة العامّة أو حصولهن على فرص التعليم والعمل، وهذا مرتبطٌ بالانتقال الديمقراطي والعدالة الانتقالية وإعادة الإعمار.