رؤية الأطفال للأضاحي قد تؤثّر على صحّتهم النفسيّة

قد تترك مشاهدُ ذبح الأضاحي أثراً سلبياً على الأطفال؛ لذلك ينبغي على الوالدين توضيحَ الفكرة من قبل بأسلوب يناسب مراحل نموّهم

Share
رؤية الأطفال للأضاحي قد تؤثّر على صحّتهم النفسيّة
تأثير مشاهدة ذبح الأضاحي على الأطفال (تصميم: حاتم عرفة /الفِراتْس)

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

اعتادت العوائل في المجتمعات العربية والإسلامية أن تُحضِر خروفَ الأضحية قبل أيامٍ من العيد، فيعتني به الأطفال، وتتشكل بينهم وبينه صلةٌ من مسؤوليةٍ وودٍّ أحياناً. لكنَّ صباحَ العيد المُرتقَب بحماسٍ قد يحمل لبعض الأطفال صدمةً مؤذيةً إذا حضروا ذبحَ الأضحية بلا تمهيد. فهذا اللقاءُ المفاجئ مع الموت، حتى وإن كان جزءاً من الشعائر الدينية، يتركُ ندبةً في نفوس كثيرٍ من الأطفال تطغى على فكرة الاحتفال. ومن المرجَّح أن تزداد الندبةُ عمقاً وأثراً عند المبالغةِ والزجِّ بالطفل لمشاهدة الذبح، أو تلطيخِ كفِّ يدِهِ بالدم، أو الردِّ على بكائه ومقاومته المشاهدةَ بتسخيفِ فعلِ الذبحِ وإنكارِ وجود ما يدعو إلى الخوف، كقولهم: "لا تبكِ؛ كُن رجُلاً ".

قد يكون التأثيرُ السلبي لهذا المشهدِ الشائع مرتبِطاً بالعصر الحديث، إذ باتَ الذبحُ أقربَ إلى صنعةٍ محصورةٍ في مَسالخَ مغلقةٍ بعيداً عن أعيُن الأطفال، خلافَ الماضي؛ إذ كانت هذه المشاهد جزءاً من الحياة اليومية في المجتمعات الزراعية والرعوية. وهذا يستدعي تطوير النظرِ فيه للتخفيف من الصدمات المُحتمَلة، وتقديم الشعائر الدينية للأطفال بأسلوبٍ يتماشى مع تطوُّر المجتمع ويُراعي صحتَهم النفسية في آن. لا يقتصر الحديث على شعائر الذبح فقط، فكثيرٌ من الطقوس في مختلَف الديانات ينبغي أن تُقدَّم بسياقٍ وأسلوبٍ يُراعِيان عمرَ الطفل ووعيَه الناشئَ وخصوصيةَ حالته النفسيةِ ومرونتَها. ولا يُقصَد أن تكونَ المراعاة على حساب الشعائر، بل أن تأتي في سبيل حماية رمزيتها حتى لا تكون مدعاةً للنفورِ من الدين كلِّه بترميزه في عقل الطفل ترميزاً مُشوَّهاً. فإعادةُ تمثيِل مشهدِ صلب المسيح ودقّ المسامير في يديهِ ورِجليهِ عند بعض المسيحيين، والتطبير، أي اللطم الدموي، عند بعض طوائف الشيعة، والأضحية عند عموم المسلمين، طقوسٌ وشعائرُ قد تُربِك الطفلَ لو شاهَدها في مراحلَ عمريةٍ مُبكّرة.


يحتفظ كلٌّ منَّا في ذاكرته بكثيرٍ من ذكريات الطفولة المرتبطة بتفاصيل عيد الأضحى، مثل زيارة الأقارب وما يسبقُها من استعداداتٍ وتحضيراتٍ تتشابك فيها جميعُ الحواسِ ويشوبُها كثيرٌ من المشاعر، كروائح حلويات العيد ممزوجةً بروائح البيوت النظيفة، والأسواق المزيّنة وعربات الحلوى في الشوارع وملابس العيد الأنيقة، وحسابِ (العيديّات) النقودِ المتوَقَّع جمعُها من الكِبار في العيد، والأحلام المؤجَّلة المرجَّح تحقيقُها بعد جمع الميزانية المطلوبة. هذه الروحُ الاحتفالية قد تتحوّل إلى أزمةٍ نفسيةٍ للطفل إذا لم تُراعَ عواملُ الحداثة في نمطِ الحياة؛ أي يمكنُ أن يتحوّل تقليد التضحية بالحيوانات في عيد الأضحى إلى ذكرياتٍ صادمةٍ قد يعجز الطفل عن التعامل مع عواقبها العاطفية والسلوكية المُحتمَلة على المدى الطويل، في حال شَهِدَها قبلَ نضوجِه بما يكفي لاستيعابِها وتفسير مغزاها ومعناها.

يفهمُ الأطفالُ تحتَ سنِّ الحادية عشرة عاماً الطقوسَ والأحداثَ بمعناها الظاهري، مجرَّدةً من المعاني الإيمانيةِ والروحيةِ العميقةِ والمعقّدة، فيعجزونَ عن فهمِ سياقِها وتفسيرِها، كما يرى عالمُ النفس والفيلسوفُ السويسري جان بياجيه في نظريته عن التطور المعرفي عند الأطفال. ويرى بياجيه أن الأطفالَ ينتقلون في نموِّهم المعرفي من التفكير الملموس إلى التفكير المجرَّد، وقد يستعمل الأطفالُ الرموزَ لتمثيلِ الأشياء، لكن يَشْغَلُ التفكيرُ الملموسُ الحيّزَ الأكبرَ بين عملياتِ الطفل العقلية، لذلك لا بدَّ من معرفة الفرق بين التفكير الملموس والتفكير المجرَّد في السياق التربوي.

التفكيرُ الملموسُ هو القدرة على التفكير في الأشياء ظاهريّاً، وينطوي على فهم المعلومات ومعالجتها على أساسِ الجوانبِ المادية أو الملموسة فقط. بينما يبدأُ التفكيرُ المجرَّدُ بالتطوّر عند الأطفال بعد سنّ الحادية عشرة. حينها فقط يستطيع الطفل فهمَ سياقِ المعاني ورمزيتِها والعواقبِ التي تَتجاوز الفعلَ المباشر. وهذا يعني أن نُقارب مفهومَ الأُضحيةِ لطفلنا دون سنّ الحادية عشرة بالمشاركة الملموسة التي يُمكن لعقله استيعابُها، مثل إشراكه في توزيع لحومِ الأُضحية على الفقراء وتعزيزِ مبدأِ التكافل الاجتماعي، بدلاً من جعلِه يشهدُ الذبحَ الذي لا يُمكِن لعقله أن يستوعبَ سياقَه الدينيَّ وجذورَه. فنجاةُ النبيّ إسماعيل بمعجزةٍ تمثّلُ فكرةً مجرَّدةً لطفلٍ لم يتخطَّ الحادية عشرة، لا يستطيع ربطَها بما يشاهِد.

من الصحيح أنَّ دماغ الأطفال يَكتمِلُ بنسبة 90 بالمئة في سنواته الخمس الأولى، بَيْدَ أنّه يحتاجُ سنواتٍ طويلةً حتى يُكمِلَ تطوُّرَه ونُموَّه ونُضجَه تدريجيّاً. وتعليمُ الطفل تدريجياً، على صعوبتِه جهداَ ووقتاً، حاسمٌ ومهمٌّ في شرح القِيَمِ المعقَّدة بالتقدّم رويداً رويداً بخطواتٍ ثابتة، من البسيط السهل إلى المركَّب الصعب. فمِن غير العادل تقييمُ مواقفِ الأطفال ومشاعرِهم وردَّات فعلِهم بمعايير البالغين الذين اكتَسبوا بمعرفةٍ وخِبراتٍ وتجارِبَ كثيرةٍ آليّاتِ تكيُّفٍ وقُدراتٍ معرفيّةً مكّنَتْهم من تفسير الأحداث بطريقةٍ مختلفةٍ وواضحةٍ وفي سياقها الصحيح. فمناقَشةُ المواقفِ الافتراضيةِ والمُعضِلاتِ الأخلاقيةِ، وخلقُ مساحةٍ آمنةٍ للطفل للتجرِبةِ والخطأِ وطرحِ التساؤلاتِ والتعلّمِ، وتشجيعُه على حلِّ المشكلاتِ والتفكيرِ؛ كلُّها مهمّةٌ لتنميةِ قدرتِه على التفكير المجرَّد والتفكير المنطقي.

تستقبل أدمغةُ الأطفال في مثل هذه الأعياد كثيراً من المُدْخَلاتِ الحِسِّيةِ والأفكارِ ومحفِّزاتِ الذاكرةِ، وتُخزِّنُها وتُرمِّزُها بما يُسهِّل استرجاعَها برائحةٍ أو لونٍ أو مكانٍ معيّن. وبحسب معهد كوينزلاند للدماغ، المتخصّص بدراسة الدماغ ووظائفه والتابع لجامعة كوينزلاند الأسترالية، فإنّ المحفِّزات والمعلومات تصلُ إلى منطقة الحُصَين في الدماغ لتكوينِها وتخزينِها مؤقتاً. وهذا التخزينُ المؤقَّت يَسمح للدماغ بمعالجةِ البيانات الحسّية وتحليلِها قبل اتخاذ قرارٍ بشأن أهمّيّتِها ونقلِها إلى مستوياتٍ أُخرى من الذاكرة. ثم يَنتقل بعضُها إلى منطقة القشرة الجديدة، حيثُ تُحفَظ في الذاكرة زمناً طويلاً. أما منطقة اللوزة الدماغية فتُعطي الذكرياتِ بُعداً عاطفياً، مما يجعلُها مرتبطةً بمشاعرَ قويةٍ، كالسعادة أو الحزن، وأكثرَ استدامةً ويصعُب نسيانُها. وهنا يُمكِن للصدمة الناجمة عن مَشاهدِ ذبح الأضحية أن تُصبحَ نُدْبَة.


اصطفّ أكثرُ من مئةٍ وخمسينَ طالِباً سنةَ 2001، بينهم أطفالٌ في الخامسة لمشاهدة ذبح ثورٍ في مدرسة كاربون كانيون المسيحية في ولاية كاليفورنيا الأمريكيَّة بموافَقة أولياء أمورِهم. بعد أن صَعَقَ الجزّارُ الثورَ بمسدّسِ الكهرباء، ونَحَرَه بالسكّينِ وسَلَخَه واستَخرَج أعضاءَه، شَعَرَ بعضُ الطلاب بالغثيان وغادَروا المكان، بينما تحمّس آخَرون. أثارت الحادثةُ التي سمّيَت "حادثة الثورِ" جدلاً بين الأخصائيين التربويين، كما أثارت حفيظةَ منظمات حقوق الحيوان.

بعد ثمانيةِ أعوام تكرّرت حادثةٌ مشابِهةٌ في المملكة المتحدة، إذ أَطلقَت مدرَسةٌ ابتدائيةٌ في مقاطعة كينت برنامجاً لتربية المواشي في المدرسة بهدف تعليم الأطفال عن دورة الحياة ومصدر الغذاء، وقرَّرَت ذبحَ خروفٍ يبلغ من العمر ستةَ أشهر، أَطلَق عليه الطلابُ اسمَ ماركوس. اعتَرَض عددٌ من الآباء وناشطي حقوق الحيوان، وأَطلقت مجموعاتٌ على فيسبوك مبادَرةً للضغط على المدرسة للعُدول عن قرار الذبح. بينما تحدّث ناشطو حقوق الإنسان عن قلقهم من التأثير العاطفي لوفاة ماركوس على الأطفال. انتهى الجدال بتصويت مجلس المدرسة المؤلف من عدة تلاميذ لصالح قرار الذبح، قبل أن تُعلِن المدرسةُ في بيانٍ ذبحَ ماركوس، وتُدافع عن قرار الأطفال بوصفِه تربوياً.

أَتَذَكّرُ في هذا الإطار قريبَتي التي لا تأكلُ اللحومَ الحمراء. فبعد أن لَعِبَت في صغرها أياماً مع خروفٍ أَحضَره والدُها، شاهَدَتْه يُذبَح صباحَ اليوم التالي في عيد الأضحى. وعانَت إثرَ ذلك من اضطراباتٍ نفسيةٍ وجسديةٍ رافقَتْها عاماً كاملاً لَم تَسْتَطِع بعد ذلك أن تتناول اللحومَ الحمراءَ. وهي حتى اللحظةِ لا تَعرِفُ طعمَها. في حين أن شقيقتَها التي حَضَرَت الموقفَ نفسَه، وتطايرت الدماءُ على فستانِها، لَم تتأثّر بالذبح إلى هذا الحدّ.  

بعد فحص تسعين ورقةً بحثيّةً للتأكد من وعي المستهلِكين بالتجربة المؤلِمة للحيوانات في الزراعة الحيوانية، ومن موقفِهم من تقليل اللحوم بهدف الرفق بالحيوان، خَلُصَت دراسةٌ نُشِرَت في "المجلة الدولية للبحوث البيئية والصحة العامة" بعنوان "مواقف المستهلِكين تجاه معاناة الحيوانات: مراجعة منهجية للوعي والاستعداد والتغيير الغذائي" إلى أنَّ زيادة الوعي بما تمرّ به الحيوانات من ألمٍ من أجل إنتاج اللحوم قد يدفع إلى تقليل استهلاك اللحوم الحمراء أو التوقّف عنها تماماً في كثيرٍ من الحالات. ويُعَدُّ هذا شكلاً من أشكال التجنّب العاطفي، أو الموقف الأخلاقي المتأثّر بالذكريات المؤلمة.

يرى بعضُ الآباء أن الطريقَ الأسهلَ لشرح مفهوم الأُضحية يكون بالتجرِبة الحيّةِ والملموسةِ، أي بحُضور لحظاتِ ذَبْحِها. وعلى أهمّية التجرِبة في تعليم الأطفال، لكن لا يمكن تعميمُها. فمِن غير المنطقيّ مثلاً السماحُ لطفلٍ بعُمر الخمس سنوات بقيادة السيارة عندما يَسألُ عن آليّةِ القيادةِ، أو تَجرِبةِ السرقةِ عند الحديثِ عن مفاهيم الأمانةِ والغشِّ، أو عرضِ علاقةٍ جنسيةٍ عند البدءِ بالتربيةِ الجنسية. وكان الذبحُ والصيدُ جزءاً متأصّلاً في الثقافة الإنسانية، خصوصاً في المجتمعات البدوية والزراعية. وكان الأطفالُ يشاركون بها، إلا أنَّه أُبعِد عنهم في العصر الحديث وصاروا يَرَوْن اللحومَ على رُفوف المراكز التجارية بعبواتٍ أنيقةٍ مغلّفةٍ ونظيفةٍ بلا دماء، وقد لا يميّز بعضُ الأطفال أنها مِن كائنٍ حيّ. 

مِن المُهِمّ هنا ألا يقدِّم الأهلُ معلوماتٍ خاطئةً لأطفالهم حينَ يُسألون عن مَصدرِ هذه اللحوم، وإن كانوا يهدِفون إلى حمايتهم من معلوماتٍ صادمةٍ؛ مثلَ أنها دجاجةٌ أحضرناها من مركز التسوق. قد تكونُ هذه المعلوماتُ سبباً لصدماتٍ أشدّ في مراحلَ عمريةٍ لاحقة. مِن المهمّ في شرح مَصدرِ اللحوم أن نتحدَّث مع الطفل عن عمليةِ الذبحِ، وأن نعترفَ بأن الحيوانات تُعاني من الألم، وبأن الجزّارَ مُطالَبٌ بتخفيف ألمِ الذبيحة. يمكِن إعطاءُ الطفلِ مثالاً مناسباً كأمر النبي محمد عليه الصلاة والسلام بإحداد السكين جيّداً كي لا يزداد ألم الحيوان أثناء ذبحه، على أن لا يكون الإحداد أمام مرأى الذبيحة، وبأن تُساق الذبيحة برفق، وتُذبَح بسرعة. ثم يوضَّح للطفل أنّ الغرضَ من الذبحِ هو الغِذاءُ، ليُفرِّقَ مدرِكاً بين تعنيفِ الحيوان بشكلٍ محرَّمِ وغير أخلاقيّ وبينَ الذبح وفقَ قواعد واضحةٍ ولغايةٍ محدّدةٍ ومصيريةٍ للإنسان، ممّا يخفّف من آثارِ مشاهدةِ الطفل لاحقاً على حالته العاطفية والنفسية.

مِن غيرِ شرحِ السياقِ وتوضيحِه بمراعاةِ عمرِ الطفلِ وخصوصيتِه النفسيةِ في تبريرِ الذبحِ، لن يفهمَ الطفلُ الذبحَ إلّا بأنه عنفٌ ضدَّ الحيوان، كما وردَ في بحثٍ لفرانك أسكيوني الطبيب في علم نفس النموِّ في مجلةِ الأنثروزوز بعنوان "الأطفال الذين يتعاملون بقسوة مع الحيوانات: مراجعة للأبحاث وآثارها على علم النفس المرضي التنموي". فالطفلُ معرَّضٌ لعواقبَ من بينها أن تتولّد عنده فكرةُ تبريرِ أشكالِ العُنفِ كلِّها، لا سيّما بالنظر إلى وجود كثيرٍ من مسلسلات الكارتون القائمة على العنف مثل توم وجيري، وكذلك ألعاب الفيديو المستندة بنسبةٍ كبيرةٍ إلى التفوّق العنيف والاصطدام والقتل وإطلاق النار.

في عام 1920 عَمِلَ الباحثان جون واتسون وطالبتثه روزالي راينر في جامعة جون هوبكنز على نظريَّة تعميم التحفيز في تجربةٍ أُطلِقَ عليها اسمُ ألبرت الصغير. أدخل واتسون فأراً أبيضَ على طفلٍ رضيعٍ اسمُه ألبرت وعمرُه تسعةُ أشهُرٍ. وكلّما اقتربَ الفأرُ من الطفل طرقَ واتسون عصاً حديديةً بقوةٍ فيصرخ ألبرت ويبكي. دامت التجربةُ شهرَيْن. وبعد توقُّفِها بأسابيعَ كان ألبرت يخاف من كلِّ ذي فروٍ أبيض، مثل كلبٍ أبيض أو أرنبٍ أبيض، بل صار يخاف الشَعرَ الأبيضَ. أَثبتَت هذه الدراسةُ أنه من الصعب على الأطفال التمييزُ بين المحفِّزات المشروطةِ والمحفِّزات المماثِلة عموماً. فإذا ما تَكيَّف الأطفالُ على الاعتقاد بأن العنف ضدّ الحيوانات مبرَّرٌ، فهناك احتمالٌ كبيرٌ أن يعتقدوا بأنّ كلَّ أشكال العنف مبرَّرة.

حديثُنا عن الذبحِ "تعنيفٌ" مِن وجهةِ نظرِ طفلٍ يشاهِدُه بلا إدراكٍ وتحضيرٍ وتمهيدٍ ومراعاة،.ويَرى فرانك أسكيوني في بحثِه أن مشاهَدةَ الأطفال تعنيفَ الحيوانات قد ينتجُ عنه إِضعافُ التعاطفِ على المستوى النفسيّ، أي يَجعلُ العنفَ يبدو طبيعياً، أو يزيدُه أي أنه يَجعلُ الأطفالَ أكثرَ وعياً بالمعاناة. تتّفقُ خُلاصات فرانك مع خُلاصات الباحثتَيْن روشني تريهان لادني من قسم علم الجريمة والعدالة الجنائية في جامعة تامبا ولورا ماير أخصائية علم النفس المهني في جامعة دنفر، في بحثِهما "شهود مصابون بصدمة نفسية: مراجعة لتعرض الأطفال لمشاهد القسوة على الحيوانات" المنشورِ عام 2019 في "مجلة صدمة الأطفال والمراهقين" الذي يَعرضُ عدداً من الدراسات المماثِلة المَعنيةِ بالكشف عن تأثير مشاهدة العنف ضد الحيوان على الأطفال والمراهقين وينقُدُها. وقد خَلَصَ البحثُ إلى مجموعةٍ من الأعراض الناجمة عن مشاهدة الطفل تعنيفَ الحيوان. ومِن ذلك الأعراضُ النفسيةُ كالقلق والخوف والاكتئاب واليأس واضطراب ما بعد الصدمة وما يرافقُه مِن كوابيسَ وقلقٍ شديدٍ، والأعراضُ السلوكية مثل زيادة العدوانية على الأقران والحيوانات، وغياب الحساسية تجاه العنف فيجدونه أقلَّ إزعاجاً وأكثرَ قبولاً.

ويتأثّر الطفلُ عاطفياً ونموّاً إذا ما ترافقَت مشاهدتُه العنفَ ضد الحيوانات بعنفٍ منزليّ، فتضعُف قدرتُه على التعاطف مع الآخرين، ممَّا يؤدي إلى صعوباتٍ في تكوين علاقاتٍ صحّيةٍ مع الأشخاص، وظهورِ مشكلاتٍ في التعلُّق، كأن يعتمدوا بإفراطٍ على مقدّمِي الرعاية أو العكس. وتَظهر بعضُ العواقب الاجتماعية مثل اعتزالِ المجتمعِ بسبب الخوف أو عدم الثقة. وصعوبةُ الاندماج الاجتماعيّ قد تؤدّي إلى العزلة واحتمالية التعرّض للتنمّر.


إن كثيراً من الآباء الرافضين التربيةَ الحديثةَ وتحذيراتِ الأخصائيين التربويين والنفسيين من أساليب التربية التقليدية يعتمدون على حجَّتَيْن مضلِّلتَيْن. أُولاهُما أن هذا النمط التربويَّ "دخيل" يجعل الأطفالَ أكثرَ هشاشةً وغيرَ مستعدِّين لمواجهة تحدّيات الحياة. وثانيهُما أنَّ مَن سَبَقَهم من أجيالٍ تربَّت على النمط التقليدي لم تتضرّر بل كانوا أكثرَ قوّةً وصلابةً وقدرةً على التكيّف والتحمّل. ولذلك يرونَ حمايةَ الطفل من الصدمات مبالَغةً تُضعِف مِن قدرتِهم على التعامل مع الضغوط والمواقف الصعبة، وتُعزِّز من حساسية الأطفال المفرِطة، وتخلق جيلاً معتمداً على الدعم النفسي وفاقداً التجاربَ اللازمةَ لمواجَهة الحياة الواقعية.

تَغفل هذه الفئةُ الرافضةُ التربيةَ الحديثةَ عن جوهرِ تلك التربية، أي سعيِها إلى تحقيق التوازن المتناسب مع كلِّ طفلٍ ومقوّماته وطبيعته وخصوصيته، وهي مهمّةٌ صعبة. ومِن المحتمَلِ أن يكون مُتناقِلو هذه الحُجَج الرافِضون النمطَ التربويَّ الجديد أفضلَ ممّا هم عليه، لو خضعوا لتربيةٍ تقوم على هذا النهج الذي يرفُضونه ويعدّونَه دخيلاً. وقد تَظهرُ على أطفالهم لاحقاً أعراضُ صدماتٍ أو مشكلاتٍ تربويةٍ، وإن كانوا بنظرهم الآن ناجين وغيرَ متضرّرين. 

حَرِيٌّ بِنا إذَنِ التركيزُ على الفروق الفردية بين الأطفال في تلقّي الصدمات وتفسير الأحداث، إذ يتأثَّر بعضُ الأطفال أكثرَ مِن غيرِهم برؤية الحيوانات المذبوحة. فقد يَتفاوت أَثَرُ الحدثِ نفسه بسبب طبيعة الصدمة وشدّتها وعمر الطفل وشخصيّته والدعم والمعلومات التي يتلقّاها في بيئته، كما ورد في المجلة الطبّية البريطانية.

تختلف أنواعُ أعراض الصدمة؛ فلا مقياس واحد لكلِّ الحالات. وربّما يظهر عَرَضٌ واحدٌ أو أعراضٌ عِدّةٌ. وثمّةَ أعراضٌ تؤثِّرُ على المجالاتِ المعرفية، مثل مشاكل التركيز والانتباه وصعوبات التعلم، وقد تتجلى أحياناً بصعوباتٍ عاطفيةٍ مثل مشاكل الخوف والتعلق والحزن والقلق والانسحاب والتكيّف، أو جسديةٍ مثل آلامِ البطن والصداع ومشاكل النوم واضطرابات الشهية، وأحياناً تكونُ الأعراضُ مشاكلَ سلوكيةً مثل سلوكيات إيذاء الذات أو العدوانية وإيذاء الآخَرين ونَوبات الغضب. وقد يظهر عند الطفل أعراضُ التراجع والانحدار العُمْريّ، إذ يتصرفُ كأنّه أصغرُ سِنّاً بعد الصدمة، حسب المجلة الطبية البريطانية.

ولعلّ إصرارَ الآباء على اتِّباع الأساليب التعليمية القديمة ينبُعُ مِن عواملَ مختلفةٍ، بما في ذلك التقاليد، والراحة مع المألوف، والخوف من المنهجيات الجديدة التي قد تكون غير مثبَّتة أو أُخِذت مِن مدارسَ غربيةٍ، مثلاً، قد تتناقض مع ثقافة الشعوب العربية عموماً والإسلامية خصوصاً. ومع ذلك يمكِن أن يكون لهذا الإصرارِ آثارٌ سلبيةٌ عدَّةٌ على تعليم الأطفال ونموّهم النفسي والمعرفي.

احتياجات هذا الجيل من العلم والمعرفة والمهارات أَصبَحَت مختلفة. ومع زيادة الأبحاث والدراسات التربوية صارت المواضيعُ المتعلّقة بالصحة العقلية والرفاهية العاطفية للأطفال أهمّ. بينما نركّز اليومَ أكثرَ على مهارات محو الأمّية الرقمية وتنمية مهارات التفكير النقدي، لَم تكُن هذه المجالاتُ في الماضي ذاتَ أولويةٍ أو أهمّية. وهكذا، فإنّ واجبَ الآباء أن يُنشِؤوا الأبناءَ بما يُوائِم الواقعَ الحديثَ والتطوُّرَ وأنماطَ الحياةِ المتغيرة.

اشترك في نشرتنا البريدية