جدل حول التعليم في مصر.. تهميش العلوم الاجتماعية واللغات

أصبحت الفلسفة مادة مقررة في السنة النهائية للثانوية العامة في مصر سنة 1929، وبعد اثنين وعشرين عاماً، أوصت اليونسكو جميع الدول الأعضاء فيها بتدريس المادة، إلا أن وزير التعليم ألغى تدريسها بداية العام الدراسي الجاري بحجة عدم جدواها لسوق العمل.

Share
جدل حول التعليم في مصر.. تهميش العلوم الاجتماعية واللغات
تصميم خاص لمجلة الفراتس

قبل بداية العام الدراسيّ الحاليّ، أعلن محمد عبد اللطيف، وزير التربية والتعليم المصريّ المعيّن توّاً في الحكومة "خطة الوزارة لإعادة هيكلة المرحلة الثانوية". الخطّة التي بدأ تطبيقها فعلاً أواخر سبتمبر الماضي تمحورَت حول تقليص عدد الموادّ الدراسية. إذْ أُلغيَت موادّ مثل الفلسفة والمنطق وعلم النفس والاجتماع، ودُمِجت موادٌ أُخرى كالكيمياء والفيزياء في مادّةٍ سُمّيَت "العلوم المتكاملة". وحُوّلت موادٌ مثل مادّة اللغة الأجنبية الثانية التي تُدرَّس فيها اللغة الفرنسية، من موادٍ يُقيَّم عليها الطلاب إلى موادٍ "خارج المجموع" لا تؤثّر على تقييم الطلاب.

قدّم المسؤولون والإعلاميون المقرّبون من السلطة عدّة حججٍ وتبريراتٍ لهذه التعديلات. ومن ذلك رغبةُ الدولة في ربط التعليم بسوق العمل. وقد ساقَ الوزيرُ حججاً أخرى، فهو يرى أن التعديلات تساعد في التأكيد على الهوية الوطنية بتأصيل دراسة تاريخ مصر وتضمين الموضوعات القومية في المناهج. أمّا تحويل مادّة اللغة الأجنبية الثانية إلى مادّةٍ خارج المجموع، فالهدف منه التركيز على دراسة لغةٍ أجنبيةٍ واحدةٍ وإتقانها بزيادة عدد حصصها المقرّرة. وأشار الوزير إلى أن فكرة إعادة صياغة المحتوى التعليمي وتوزيعه لاقت قبولاً من الخبراء والمعلمين ومديري الإدارات التعليمية ومجلس الأمناء وأولياء الأمور وعددٍ من أساتذة الإعلام المتخصّصين في ملفّ التعليم. ويعزو ذلك لأنها تخفّف العبءَ على الأسرة المصرية، دون التقصير في المعارف التي يدرسها الطلاب.

إلّا أن تلك التبريرات لم تقنع كثيرين لأن التعديلات هي استمرارٌ لعدّة محاولاتٍ تستهدف الالتفاف على مشكلة التعليم الرئيسة المتمثّلة في انحراف مؤسّسة المدرسة عن وظيفتَيْها الرئيستَيْن، وهُما نقل المعارف والتنشئة الاجتماعية، بسبب عجز النظام التعليمي الحالي عن الإنفاق واستيعاب أعداد الطلاب الحالية. فقبل هذا الحلّ الأخير، سعت الحكومة في العقد الماضي لتقديم مستويَيْن بجودتَيْن مختلفتَيْن للتعليم: واحدٌ للمقتدرين مادّياً، وآخَرُ لبقيّة الشعب. وبعده، سعت الحكومة لتجاوز مؤسسة المدرسة وتقديم التعليم عن طريق الانترنت. والآن يأتي الحلّ الراهن الذي يروم تقليل عدد الموادّ مضحّياً بالعلوم الاجتماعية والإنسانية والتخفّف منها بحجّة ربط التعليم بالسوق. إن التكاليف غير المادّية الناجمة عن التضحية بالعلوم الاجتماعية والإنسانية باهظةٌ، وليس أقلّها بتر قدرة الطلاب على التفكير العقلانيّ والتمتّع بالثقافة والذاكرة التاريخية الضرورية التي تتيح لهم الانتماء والانخراط بشكلٍ إيجابيٍّ ومنتِجٍ في نسيجهم الاجتماعي.


قبل نقد هذه التعديلات، لنتعرّف أكثر على مضمونها. يدرس طلاب الصف الأول الثانوي بدايةً من العام الدراسيّ الحاليّ ستّ موادّ بدلاً من عَشْر موادّ درسها نظراؤهم في العام الماضي. هذه الموادّ هي اللغة العربية واللغة الأجنبية الأولى والتاريخ والرياضيات والعلوم المتكاملة والفلسفة والمنطق. فبعد حذف مادّة الجغرافيا، دُمِجَت موادّ عِلم الأحياء والكيمياء والفيزياء في مادّةٍ واحدةٍ سُمّيت "العلوم المتكاملة" .أمّا مادّة اللغة الثانية، التي يدرس فيها الطلاب الفرنسية أو الألمانية أو الإيطالية، فأزيلت من قائمة الموادّ الأساسية المضافة في المجموع الكلّي، وأُبقِيَت كما مادّة الدين الإسلاميّ أو المسيحيّ ضمن موادّ "خارج المجموع"، وهي موادّ يُمتحَن فيها الطلاب غيرَ أن درجاتها لا تضاف للمجموع.

وفي الصف الثاني الثانوي يدرس الطلاب ستّ موادّ بدلاً من ثمان. تشمل هذه المواد بالنسبة للشعبة العلمية اللغة العربية واللغة الأجنبية الأولى والرياضيات والأحياء والكيمياء والفيزياء. أمّا بالنسبة للشعبة الأدبية فهي اللغة العربية واللغة الأجنبية الأولى والتاريخ والجغرافيا وعلم النفس والرياضيات. فقد استُبعِدَت اللغة الأجنبية الثانية من الموادّ المضافة للمجموع، وخُصّصت مواعيد حصصها لصالح اللغة الأجنبية الأولى وهي اللغة الإنجليزية. ودُمج منهجا الجبر والهندسة في كتابٍ واحدٍ يخصّ مادّة الرياضيات. ومن المقرّر أن يُلغَى تدريس مادّة الأحياء لطلّاب الشعبة العلمية وتبديلُها بمادّة التاريخ في العامين الدراسيَّيْن المقبلَيْن.

وفى الصف الثالث الثانوي يدرس الطلاب خمس موادّ بدلاً من سبع. وهي بالنسبة لطلاب الشعبة العلمية (علوم): اللغة العربية واللغة الأجنبية الأولى والأحياء والكيمياء والفيزياء. أمّا بالنسبة لطلاب الشعبة العلمية (رياضيات)، فهي: اللغة العربية واللغة الأجنبية الأولى والرياضيات والكيمياء والفيزياء. والموادّ التي يدرسها طلاب الشعبة الأدبية فهي: اللغة العربية واللغة الأجنبية الأولى والتاريخ والجغرافيا والإحصاء. وتضاف إليها مادّتا علم النفس واللغة الأجنبية الثانية، ولكنهما مادّتان لا تضافان إلى مجموع الطالب.

هذا النظام الجديد للثانوية العامة يَستهدف في المقام الأوّل إرضاءَ الطلاب وأولياء الأمور. فمن جهةٍ يخفّض عدد الموادّ الدراسية التي يلزم الطلاب بدراستها. ومن جهةٍ أخرى، ونتيجةً لتخفيض عدد المواد الدراسية، يخفّف النظام الجديد مصاريفَ الدروس الخصوصية على أولياء الأمور. فمنذ سنوات، ومع ضعف المدارس الحكومية، ازدادت أعداد الطلبة المسجلين في مراكز إعطاء الدروس الخصوصية، وهي مراكز ربحيةٌ برسومٍ ماليةٍ مرتفعةٍ وتُعرف محلياً بِاسمِ "السناتر".

قد تكون تلك الأهدافُ حسنةَ النيّة إلا أنها بعيدةٌ عن استراتيجية النهوض بالتعليم، إذ نلاحظ اختفاء تدريس مادّة الفلسفة والمنطق من السنة النهائية للثانوية العامّة، خلافاً للتقليد المتّبَع في مصر منذ ما يقرب من قرنٍ من الزمان، وخلافاً لما هو متّبَع عالمياً، تنفيذاً لتوصية اليونسكو عام ١٩٥١ بتدريس الفلسفة في السنة النهائية للمرحلة الثانوية. ونلاحظ الإلغاء الفعليّ للّغة الأجنبية الثانية، ما طَرَحَ تساؤلاتٍ عديدةً عن مصير مدرِّسي هذه الموادّ، بل وعن الغاية من وجود الأقسام العلمية التي يتخرجون منها في الجامعات.

وقد تطوّع بعض المتحدّثين بِاسم وزارة التعليم مصرّحين بأنه سيُعاد تدوير مدرّسي اللغة الفرنسية بدوراتٍ تؤهّلهم لتدريس اللغة الإنجليزية، وهي أقوالٌ تشير إلى حجم الورطة التي سبّبتها هذه التعديلات. وساهمت وسائل الإعلام وبعض الإعلاميين المقربين من السلطة في تفاقم الانتقادات الموجّهة للنظام الجديد والنفور منه، إذ صاحَبَ الإعلانَ عنه وتطبيقَه تبريراتٌ شعبويةٌ من بعضهم، وعددٌ من الحجج الضعيفة، من بينها أنّ الموادّ التي أطاح بها التعديل لا تؤهّل الطالب لسُوق العمل، وأنه لا داعيَ لإثقال كاهله بدراسة اللغات لأنه يستطيع الآن أن يتعلّمها بنفسه فى وقتٍ قصيرٍ على الحاسوب. وأضافوا أن الاهتمام بالتاريخ والجغرافيا لن يفضي بالطالب إلى شيءٍ لأنه فى النهاية سيكون محضَ مدرِّسٍ، ما أثار احتجاج كثيرين.


تكمن مشكلة هذه التعديلات في أنها تُجذِّر وتُعمِّق انحرافَ مسار مؤسسة المدرسة في مصر عن أداء وظيفتَيْها الرئيستَيْن وهُما نقل المعارف والتنشئة الاجتماعية. فإن كان التعليم ممارسةً قديمةً، فإن المدرسة مؤسّسةٌ حديثةٌ لا يتجاوز عمرُها القرنَيْن وربعَ القرن. وتعود بداية التعليم العامّ المدعوم حكومياً إلى سياسات الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت سنة 1806، إلّا أنّ تعميمه وجعله إلزامياً ومجّانياً ومستقلاً عن المؤسسات الدينية بدأ في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر. انتقل نظام المدارس هذا وتعمّم على أصقاع العالم كافّة بالاستعمار والإرساليات التبشيرية والاحتذاء والتقليد. ولمّا بدأت شعوب العالم تتحرّر من الاستعمار منذ منتصف القرن العشرين، استمرّت النخب الوطنية الجديدة في دعم مؤسسة المدرسة وتعميمها والإنفاق عليها.

هناك غايتان رئيستان من إنشاء مؤسسة المدرسة الحديثة عند علماء التربية، أُولاهما نقل المعارف وثانيهما التنشئة الاجتماعية. ولَئِن كانت الأولى واضحةً، فإن المقصود من الغاية الثانية انتزاع التلميذ من حضن الأسرة ليواجه تلاميذ لا يعرفهم وعليه أن ينسج معهم علاقات صداقةٍ وتعاونٍ، فيكون ذلك تدشيناً للحياة في المجتمع. تؤدّي المدرسة أيضاً دوراً في تكوين ثقافةٍ مشتركةٍ بين الأطفال على اختلاف منابعهم الأسرية وما يلحق بها من فوارق طبقيةٍ ودينيةٍ وجنسيةٍ وعرقيةٍ لتؤدّي بذلك دوراً توحيدياً بين أبناء الأمة. أيْ أنّ التنشئة الاجتماعية في المدرسة تزرع شعور الانتماء للوطن. ويَعتضِد ذلك بالمعارف التاريخية والجغرافية التي تُنتقَى وتُنقَل للطلاب ويُراد منها تمتين الهوية الوطنية والتمسك بروايتها السياسية.

يمكن إرجاع بداية تشكّل التعليم الحديث في مصر إلى عهد محمد علي (1805-1848). ففي عهده، أنشئ نظام التعليم الحديث في مراحله الابتدائية والتجهيزية. وانتشرت كذلك المدارس المختلفة، ومنها المدارس الحربية ومدرسة الألسن ومدرسة الولادة ومدرسة الطبّ، أو مدرسة القصر العينيّ، ومدرسة الطبّ البيطري ومدرسة الزراعة وغيرها من المدارس. وأُوفِدَت في عهده البعثات التعليمية إلى الخارج لتوفير موظّفين أَكْفاءٍ في مجالات التجارة والصناعة والزراعة. ومع كلّ هذا الدعم الرسميّ لنشر التعليم إلّا أن عدد الطلبة في المدارس كافّةً في عهد محمد علي قُدّر بتسعة آلاف تلميذٍ، ما يعني أن التعليم كان نخبوياً.

ومنذ تلك اللحظة أخذ التعليم العامّ بالتوسع خصوصاً في عهد الخديوي إسماعيل (1863-1879). ففي عهده أنشأ علي مبارك، وهو من روّاد التعليم في مصر، أوّل مشروعٍ فكريٍ في البلاد سنة 1867 المسمّى بلائحة رجب 1285 هجرية. وقد تحدّدت أهدافه في نشر الكتاتيب في مصر وزيادة عدد المدارس الابتدائية. كما اهتم مبارك بإعداد المعلم، فطالب بإنشاء مدرسة العلوم سنة 1872 التي أُسست بالفعل سنة 1880 واستَهدفَت تخريجَ أساتذة للّغة العربية والآداب للمدارس الابتدائية. وأسّس مبارك دارَ الكتب سنة 1870، وأنشأ مجلة "روضة المدارس" على نفقة وزارة المعارف، كما اهتمّ بالتعليم الفنّي فأنشأ عدداً من المدارس الفنية مثل مدرسة التلغراف ومدرسة المساحة. وفي سنة 1908، افتتحت الجامعات الأهلية. ومع أن دستور 1923 نصّ على أن "التعليم الأولي إلزامي للمصريين بنين وبنات"،  إلّا أنه كان محض حبرٍ على ورقٍ ولم ينفّذ. وظلّت فرصة التعليم متاحةً فقط للنخبة وبعض المتفوقين من الطلاب. وقد حذّر عميد الأدب العربي طه حسين من هذا الوضع في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" سنة 1938، إذ قال بأنه "تعليم يبثّ الفرقة والشقاق"، وطلب من الدولة آنذاك تقديم تعليمٍ موحّدٍ ديمقراطيٍ لتوليد وعيٍ وطنيٍّ متجانسٍ من طريق مناهج التعليم الديمقراطي، الذي يتجاوز الفروق الطبقية واختلاف الأقاليم وتنوع المراجع الدينية.

لم تتوسّع فرص التعليم بشكلٍ كبيرٍ في مصر سوى بعد قيام ثورة يوليو 1952. فحسب دراسة أعدتها هيلين تشابين ميتز بعنوان "مصر: دراسة قُطرية"، تعهّد الضباط الأحرار بتقديم فرصة التعليم المجاني للجميع، وأُلغِيَت كلّ مصاريف المدارس. عند قيام ثورة يوليو 1952، كانت نسبة التلاميذ الذين يذهبون إلى المدرسة مقارنةً بعدد الأطفال في سنّ التعليم الأساسي أقلّ من 50 بالمئة وكان غالبيتهم من الذكور. كان 75 بالمئة من المصريين الذين تجاوزت أعمارهم عشر سنوات لا يجيدون القراءة والكتابة، وارتفعت تلك النسبة بين الإناث في نفس الفئة العمرية إلى أكثر من 90 بالمئة. ازداد إنفاق الدولة على التعليم بعد الثورة ليصبح سنة 1978 أكثر من 5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي بعد أن كان أقل من 3 بالمئة بين سنتَيْ 1952 و1953. ساهم هذا في مضاعفة عدد المدارس الابتدائية والإعدادية إلى الضعف، أي عشرة آلاف مدرسةٍ بين سنتَيْ 1952 و1976.

وإضافةً لشمولية التعليم بتوسيع البنية التحتية وزيادة الإنفاق على المدارس، سعت الحكومة بعد الثورة للإستثمار بتأهيل المعلمين وتوحيد المحتوى التعليمي. ففي سبتمبر 1954، قام الوزير المسؤول عن التعليم كمال الدين حسين بتوحيد عملية إعداد المعلمين عبر معاهد إعداد المعلمين وكليات التربية فقط. وساهم في تأسيس نقابة المعلّمين واختير نقيباً للمعلمين سنة 1959. وحّد حسين أنواعَ التعليم التي كان بعضها أهلياً وبعضها أجنبياً، وحاصر التعليم الخاص، ودمج التعليم الأزهري في النظام التعليمي المصري سنة 1961، ليفتح قنوات انتقال الطلاب والمعلمين بين التعليم الأزهري والتعليم الحكومي، ويُدرّس المقررات الحكومية نفسها في المعاهد الأزهرية.

ومع انتهاء الحقبة الناصرية وتبنّي الدولة ما عُرف وقتها بسياسة الانفتاح في عهد الرئيس محمد أنور السادات تراجعت الحكومة عن التوسع في إنشاء المدارس وزيادة الإنفاق على التعليم. وأصبح 85 بالمئة ممّا تنفقه وزارة التعليم هو رواتب العاملين بها. ومنذ أوائل الثمانينيات، ومع زيادة عدد السكان وتقلّص موارد الدولة المصرية، بدأت المدارس تتخلّف عن أداء وظيفتيها الرئيستين. فالمدارس اليوم في مصر تستقبل أعداداً من الطلاب تتجاوز قدرتَها الاستيعابية. وساهمت الموارد الشحيحة التي تتحصل عليها هذه المدارس بإضعاف قدرة المدارس على أداء وظيفتها الرئيسيتين. فإضافةً لكثافة الفصول واستغلال المبنى الواحد ليحتضن مدرستين وأحياناً ثلاثاً، بدأ العمل على تقليل الفترة الزمنية لليوم الدراسي واستبعاد المواد التي نُظر إليها على أنها كماليةٌ مثل الألعاب الرياضية والرسم والموسيقى. ترافق ذلك مع زيادة غلاء المعيشة وضعف مرتّبات المدرسين، وهو ما جعلهم يعتمدون على الدروس الخصوصية من أجل الاستجابة لمتطلبات الحياة، ثمّ تحوّل الأمر إلى تكوين ثرواتٍ كبيرةٍ، خصوصاً لدى مدرسي العلوم والرياضيات واللغات الأجنبية.

أدّت هذه الظروف إلى أمرين، أُولاهما هو خصخصة وظيفة نقل المعارف وممارستها خارج مؤسسة المدرسة الحكومية. فاليوم هناك خياران لدى الأُسَر في مصر لتأمين حصول أبنائهم وبناتهم على المعارف. الأول هو نقلهم إلى المدارس الخاصة والدولية، وهذا الخيار متاحٌ فقط للأسر ذات الدخل المرتفع التي تتمكن من تحمّل التكاليف الباهظة لهذه المدارس. أما الثاني فهو الاعتماد على الدروس الخصوصية التي تقدّمها "السناتر" أو المكاتب. وهذا الخيار الثاني يعني عملياً هجرة الطلاب من المدرسة الحكومية إلى الدروس الخصوصية، مما جعل من المعتاد أن لا يذهب التلميذ إلى المدرسة الحكومية إلّا فى الأيام الأولى لدفع المصاريف، وفي الأيام الأخيرة لأداء الامتحانات.

أما النتيجة الثانية فهي الإطاحة بوظيفة التنشئة الاجتماعية. فالطلاب في مصر لا يعيشون تجربةً تعليميةً اجتماعيةً واحدةً، بل يعيشون تجارب متعدّدةً بحسب مستوى الدخل والخلفية الثقافية والاجتماعية وما إلى ذلك. وهذا الواقع هو الذي يُفترَض أن المدرسة الحكومية أُسّست لتجاوزه وإذابته وتخفيفه. ومن مؤشرات اختفاء هذه الوظيفة الاجتماعية أنه منذ ثلاثة أعوامٍ نشرت الصحف خبراً عن توافقٍ بين وزارة التعليم ووزارة الثقافة لإحياء العودة للمسرح المدرسي. هذا المشروع واجهته عقبة غياب الطلاب عن المدارس وانتهى الأمر إلى عرض المسرحية فى دار الأوبرا المصرية ليلةً واحدةً حضرها عددٌ قليلٌ من التلاميذ ممّن وجّهت لهم الدعوة.

إن الحلول الأساسية للخروج من هذا الوضع المتأزم تكاد تكون معروفةً للجميع لكن تفعيلها مهمّةٌ شديدة الصعوبة في الوقت نفسه. وتتمثل هذه الحلول من جهةٍ في زيادة الأبنية المدرسية لزيادة قدرتها الاستيعابية وبالتالي زيادة جودة التعليم. ومن جهةٍ أخرى في تعيين المزيد من المعلمين ورفع مرتباتهم لسدّ العجز وحتّى لا يلجؤوا إلى زيادة دخلهم من طريق الدروس الخصوصية. إلا أن هذه الحلول تتطلب ميزانيةً ضخمةً لا تستطيع الدولة تحمّلها، فتلجأ إلى حلولٍ أخرى لا تزيد إلا تعميق المشكلة وتجذير مسارها.


تندرج خطّة إعادة هيكلة التعليم الثانوي التي أعلن عنها وزير التعليم الجديد ضمن سلسلة الحلول التي قُدّمت في السنوات العشر الماضية والتي تحاشت معالجة المشكلة الرئيسة وحاولت إما الالتفاف عليها أو تعميقها. قبل هذه الخطة، اقتُرِح وجُرِّب حلّان لأزمة التعليم في مصر. أوّلهما التخلّي عن التزام الدولة المصرية بتقديم تعليمٍ متساوٍ لجميع التلاميذ والتركيز على نخبةٍ منهم تتلقى تعليماً جيداً وتصبح قاطرةً تقود المجتمع بما تقدمه من مشروعات ومبادرات. وتنطلق هذه الرؤية عادةً من أن التعليم عالي الجودة الذي يتّسم بتكاليف مرتفعةٍ لا يكون متاحاً إلا للقادرين مادياً. ومن الممكن أن تُطرَح فكرة تقديم منحٍ للطلاب المتميزين من الفئات غير القادرة، ولكن هذه الفكرة تبقى محصورةً في فئةٍ قليلةٍ من الناس. ممّا يعني تعليماً بمستويَيْن: مستوىً ذي جودةٍ عاليةٍ للمقتدرين مادّياً والمتميزين ذوي المنح، ومستوىً ذي جودةٍ متدنيةٍ للغالبية العظمى من المواطنين.

ومع أن تنفيذ هذا الحلّ على شكل سياسةٍ معلَنةٍ متعذّرٌ لأن الدستور المصري الحالي يلزم الدولة بتوفير حق التعليم لكلّ مواطنيها، فإن الدولة سعت لتطبيق أجزاءٍ منه بطرقٍ غير مباشرة. ولعلّ أهم هذه الطرق هو التوسع والتساهل في في منح التراخيص للمدارس والجامعات الاستثمارية باهظة التكاليف. فقد كانت مصر حتى نهاية السبعينيات تعتمد على الجامعات الحكومية المجانية وحدها، وكان عددها 17 جامعة. أمّا الآن، فقد تقلصت الجامعات الحكومية في مواجهة عشرات الجامعات الأخرى. ففي مواجهة 27 جامعةً حكوميةً، توجد 20 جامعةً أهليةً تتبع الحكومة ولكن بمصروفات. على سبيل المثال، تبلغ مصاريف العام الدراسي لكلية الطب في جامعة حلوان الحكومية 1200 جنيه، بينما تبلغ مصاريف الكلية نفسها في جامعة حلوان الأهلية 120 ألف جنيه، أيْ مئة ضعف. إلى جانب 32 جامعةً خاصةً، مصاريفها تبدأ من 150 ألف جنيه، وعشر جامعاتٍ تكنولوجيةً، وتسعة فروعٍ لجامعاتٍ دوليةٍ، وستّ جامعاتٍ باتفاقياتٍ دولية. يرجع التفاوت في المصاريف الدراسية بين الجامعات الحكومية والجامعات الأخرى إلى أن الحكومية تقبل طلّاب الطبّ مثلاً الحاصلين على مجموعٍ أكبر من 90 بالمئة في الثانوية العامة، بينما في الجامعات الخاصّة يُقبَل الطلّاب بحوالي 75 بالمئة.


لئن حاول دعاةُ الحلّ الأوّل الإبقاءَ على دور المدرسة لنخبةٍ مخصوصةٍ جدّاً من الشعب، فإن دعاة الحلّ الثاني رأوا ضرورةَ التخلّي عن المدرسة والاستنجاد بالتقنية الحديثة لنقل التعليم إلى المجال الافتراضي من أجل ضمان الاستمرار في تقديم التعليم للجميع. بدأ هذا التحول بتوجيه الحكومة في "عيد العِلم القومي" في 14 نوفمبر 2014، عندما أعلن الرئيس المصري عن مبادرة "نحو مجتمع مصري يتعلم ويفكر ويبتكر". تبع ذلك إطلاق مشروع "بنك المعرفة المصري" في عام 2015 لتكون أكبر مكتبةٍ رقميةٍ في العالم متاحةً للمصريين مجاناً. نُشر موقع بنك المعرفة على الإنترنت في "يوم الشباب المصري" الموافق 9 يناير 2016 باحتفالٍ أُقيم في دار الأوبرا المصرية. وكان طارق شوقي، رئيس المجلس الاستشاري الرئاسي للتعليم والبحث العلمي في ذلك الوقت، هو المشرف على تنفيذ هذا المشروع بإبرام صفقةٍ مع الشركة الأمريكية البريطانية كلاريفيت أناليتيكس والشركة الهولندية إل زيفير والشركة السعودية المنظومة، قبل أن يُعيَّن وزيراً للتربية والتعليم في فبراير 2017.

مع تعيين شوقي وزيراً للتربية والتعليم، أعلن عن التحول من النظام الورقي التقليدي إلى التعليم الإلكتروني. وفعلاً بُدِّلَت الكتب المدرسية بالحواسيب الشخصية فيما عُرف بسياسة "التابلت" أو الألواح. بموجب هذه السياسة، يتلقّى التلميذ في منزله موادّ الدراسة من بنك المعرفة ويؤدّي الامتحان على الموقع الإلكتروني. تبنّى شوقي هذا التصور قبل انتشار جائحة فيروس كورونا بثلاث سنواتٍ، وقدّمه حلّاً لتحسين جودة التعليم. ووعد قبل بدء العام الدراسي 2018-2019 بتوزيع الألواح على طلاب الصف الأول الثانوي مجاناً مع مدّةٍ كافيةٍ للتدريب على استخدامه بديلاً للكتب الدراسية وإجراء الامتحانات باستخدامه بدلاً من الامتحانات التقليدية في لجان الامتحانات بالمدارس. 

قبل أسبوعين من بداية العام الدراسي، أعلن شوقي في مؤتمرٍ صحفيٍ أن الحكومة، ممثّلةً في هيئة تسليح القوات المسلحة التابعة لوزارة الدفاع، تعاقدت مع شركة سامسونج الكورية لتوريد 708 آلاف لوحٍ لطلاب الصف الأول الثانوي على أن تصل الأجهزة إلى مصر بحلول أكتوبر 2018. لكن الحكومة لم تلتزم بالموعد المقرر. وتكرر تأجيل تسليم الأجهزة حتى الفصل الدراسي الثاني من العام الدراسي في فبراير 2019، ما تأخّر معه اطّلاع التلاميذ على الكتب المدرسية التي توقفت الوزارة عن طباعتها من حينها من أجل التحوّل للنظام الرقمي. بعد هذه الصفقة، أعلنت الحكومة في مارس 2021 عن تعاقدٍ مع سامسونج لتوطين صناعة الألواح الإلكترونية في مصر بإنشاء مصنعٍ في بني سويف باستثماراتٍ بلغت 30 مليون دولار، على أن تقوم الشركة بإنتاج أجهزة الحاسوب الشخصي اللازمة للطلاب وتوريدها إلى وزارة التربية والتعليم بأسعارٍ متفقٍ عليها. ويجري تحديث نماذج الأجهزة كلّ عامين وتوفير مراكز صيانةٍ في جميع أنحاء البلاد.

لكن تطبيق هذه التجربة واجه العديد من المشاكل. كان ثمّة مشكلاتٌ فنيةٌ مثل أعطال الأجهزة وانقطاع التيار الكهربائي وتفاوت سرعة الإنترنت وغياب الإنترنت في العديد من القرى. إضافةً إلى الفوضى التي صاحبت الامتحانات، وسُخط المواطنين تجاه هذه السياسات التي تسببت في ارتباكٍ كبيرٍ، مثل أن يذهب الطلّاب إلى لجان الامتحانات لأداء الامتحان على الألواح فيعمل الجهاز مع بعض الطلاب ولا يعمل مع آخَرين، أو يعمل الجهاز دقائق ثمّ يتعطل لتتعطل الشبكة بعدها ممّا يمنع النظام من استئناف الامتحان للطالب نفسه. وقد أدّى ذلك إلى اعتراضاتٍ واسعةٍ من الطلاب وأولياء الأمور، حتى أن مسؤولي الإدارات التعليمية اضطرّوا إلى العودة إلى الامتحانات الورقية في عدّة مناسباتٍ، بسبب انهيار النظام الإلكتروني. عزا وزير التعليم طارق شوقي تلك المشاكل إلى نقص الإمكانيات المادّية. إذْ أشار إلى أن السبب وراء "تعطل السيستم" كان عدم توفر الأموال لدفع تكلفة الإنترنت، ممّا أدّى إلى انقطاع الخدمة. في مايو 2019، قال شوقي في مجلس النواب "الديَّانة بتبقى واقفة فوق دماغنا، ومش بنقول لحدّ. الجميع يلوم وزير التربية والتعليم، لكن محدّش فكّر قبل ما يلومنا أن يبحث عن أصل المشكلة".

ولمواجهة تلك المشاكل، لجأت الوزارة إلى حلولٍ يَعُدّها أولياءُ الأمور كارثية. مثل احتساب الدرجة كاملةً للطلاب الذين لم يتمكنوا من أداء الامتحان إلكترونياً بسبب عطلٍ في النظام أو خطأٍ فنّيٍ تتحمله الوزارة. وقد قررت الوزارة تطبيق هذا القرار على نحو مئة ألف طالبٍ في امتحان اللغة العربية للصف الثاني الثانوي في مايو 2022، ما أثار سخط الطلاب الذين أدّوا الامتحان في الوقت المحدّد. ورغم رحيل شوقي عن الوزارة، لم تُعلن الحكومة رسمياً عن التخلّي عن سياسة الألواح، إلّا أن الواقع الآن يشير إلى أن هذه السياسة قد تُخُلِّيَ عنها دون تقديم مبرّراتٍ واضحة.

وأصبح "التابلت" أو اللوح الإلكتروني الآن أداةً تعليميةً بيد طلاب المدارس الحكومية والمعلمين على سبيل العهدة الشخصية، على أن يلتزم الطالب بإعادته فور انتهائه من المرحلة الثانوية العامة، بينما يلتزم المعلم بردّه بعد التقاعد مع شهادةٍ بصلاحية الجهاز. وفي حال فقدان اللوح الإلكتروني أو تلفه، يُلزم الطالب أو المعلم بدفع ثمن الجهاز وجميع النفقات. وتُتصفّح الكتب الدراسية إلكترونياً على اللوح بدلاً من تسليم نسخٍ ورقيةٍ منها، دون أيّ دورٍ إضافيٍّ للَّوح الذي سُوِّق مِن قبلُ أداةً محوريةً للتحوّل الرقمي.


بعد الحلّين المذكورين، يأتي الحلّ الراهن سعياً لتخفيف آثار انحراف المدرسة عن وظيفتيها الرئيستين دون محاولة إعادتها لمسارها الصحيح. ويشتمل ذلك على تخفيف الأعباء المادّية التي تتكبّدها الأُسَر نتيجة واقع خصخصة وظيفة نقل المعارف وانتقالها للمدارس الخاصّة و"السناتر" وسوق الدروس الخصوصية من جهةٍ، وربط التعليم باحتياجات السوق من جهةٍ أخرى. ولتحقيق هذين الغرضين، قُلِّص عدد الموادّ المطلوبة والاقتصار على الموادّ التي تعدّ مفيدةً وملبّيةً لحاجات السوق.

إنّ أهمّ اعتبارٍ يبرّر التشاؤم من قدرة هذا الحلّ على انتشال المدرسة المصرية من مسارها المنحرف عن وظائفها الرئيسية هو أن حجم الكلفة غير المادية المتمثلة بالتضحية بالعلوم الإنسانية واللغات الأجنبية كبيرٌ جدّاً وقد يخلّف أضراراً كثيرةً بعيدة المدى. فأهمّ سمةٍ للتعليم قبل الجامعي هي أنه لا يستهدف الإعدادَ المهنيّ للطالب. وذلك ما يصفه فيلسوف التربية الفرنسي أوليفيه ريبول بأنه تعليمٌ منزّهٌ عن المآرب. فالأجيال السابقة في مصر أتيح لها بالمدارس معرفة الشعر الجاهلي القديم ورياضيات فيثاغورث وفلسفة ديكارت وفيزياء نيوتن ومسرحيات شكسبير وقصائد لامارتين وقصص طه حسين والعقاد.

إن ربط السياسة التعليمية باحتياجات السوق يغفل الدور المهمّ الذي تؤدّيه هذه العلوم الإجتماعية والإنسانية. فهذه العلوم تساعد التلميذ على فهم المجتمع الذي يعيش فيه وتثري ثقافته العامّة وتشحذ قدراته الذهنية ممّا يؤدّي إلى تكوين شخصيته، كما أنها ضروريةٌ لترسيخ العقلانية منهجاً فى التفكير وتجنّب الخرافة، كما تساعد فى التعامل الرشيد مع المشكلات الاجتماعية التي قد تَعترض التلميذَ أو من يحيطون به. كلّ هذا يؤدّي إلى تحقيق الاندماج الاجتماعي وعدم الشعور بالاغتراب عن المجتمع مما يرسخ فكرة الانتماء.

إضافةً لفوائدها الاجتماعية والسياسية، فإن هذه العلوم لها دورٌ اقتصاديٌ مهمٌّ لو كان السوق نفسه غير مشوّه. فمن أجل صياغة سياسةٍ فعّالةٍ للتأمين الصحّي للمواطنين كافّةً لا يكفي تخصّص الطبّ وحده بل ينبغي أيضاً إسهام الإدارة والسياسة والاقتصاد. ولمحاربة ظاهرة الإدمان نحتاج إلى الأمن والقانون وعلم الاجتماع وعلم النفس والتخطيط العمراني. يتّضح أن تعقّد المشكلات المعاصرة لا يجعل التخصص فى العلوم الإنسانية ترفاً أو مجالاً نظرياً فحسب بل يؤكّد الحاجة العملية الملحّة له، ما يجعل موقعها ضرورياً في سلك التعليم قبل الجامعي.

ولتوضيح أهمّية هذه المعارف الاجتماعية والإنسانية لنركّز أكثر على تدريس الفلسفة. أصبحت الفلسفة مادّةً مقرّرةً على السنة النهائية للثانوية العامّة في مصر سنة 1929، وبعد اثنين وعشرين عاماً من هذا التاريخ أوصت اليونسكو جميع الدول الأعضاء بتدريس الفلسفة في السنة النهائية للتعليم الثانوي. حدّدت اليونسكو سنة 1951 أربعة أسباب لتوصيتها بتدريس العلوم الفلسفية فى السنة النهائية للمرحلة الثانوية. أوّلاً لأن الفلسفة تدرس موضوعاتٍ تتّسم بالتجريد وتستخدم مصطلحاتٍ صعبةً غير موجودةٍ في اللغة الطبيعية مثل الماهية والماصدق وغيرها، لذا تستدعي درجةً من النضج العقلي لا يتوفر في سنوات الدراسة المبكرة. ثانياً، لأن الفلسفة تستدعي إحاطةً واسعةً بنظريات العلوم وأنواع الأدب ومدارس الفنون لأن الفلسفة تهتم باكتشاف العلاقات بينها. وهذه الإحاطة لا تتوفر إلّا فى نهاية المسار الدراسي. ثالثاً، من الفلسفة والمنطق يتعلم الطالب طريقة التفكير المنهجي والتمييز بين المقدمات والنتائج والقدرة على الدفاع عن وجهة النظر الخاصة بحججٍ عقليةٍ مقنعةٍ، وهو ما يحتاجه الطالب بعد ذلك في دراسته الجامعية، لذا في أغلب البلاد تُدرّس الفلسفة في القسمين الأدبي والعلمي على السواء. رابعاً، الفلسفة مدرسةٌ في التسامح تتجاور فيها المذاهب المتعارضة بين المثالية والمادية، وبين أنصار المعرفة العقلية في مواجهة أنصار المعرفة الحسية ومن يرون أن القيم الأخلاقية مطلقةٌ ومن يرون أنها نسبيةٌ، وذلك دون أحكامٍ قطعيةٍ تُصاغ لتميّز بين من هم على هدىً ومن هم في ضلال.

يصعب أن نتذكر بعد مرور فترةٍ طويلةٍ على سنوات الدراسة ما الذي استفدناه من دراستنا للفلسفة فى المرحلة الثانوية أو حتى في أي مادةٍ أخرى. لكن يمكن أن نجمل بعض ملامح هذه الأهمية عندما نتذكر أن الفلسفة تعلّمنا التمييز بين النظرة الذاتية والنظرة الموضوعية وتناول القضايا المطروحة بشكلٍ عقليٍّ والتأمل لتفسير أحكام الناس وسلوكهم وكيف نعرض رأينا بشكلٍ منهجيّ. أما المنطق، فمن مربّع أرسطو نعرف كيف نحكم بالصدق أو بالكذب على قضيةٍ من معرفتنا بصدق قضيةٍ أخرى أو كذبها. ونعرف أشكال القياس الصحيحة التي تسمح لنا بالاستدلال على نتيجةٍ لازمةٍ بالضرورة عن المقدمات فتعلمنا بالتالي أشكال القياس الخاطئة التي تساعدنا في الكشف عن المغالطات الكامنة فى حجج الآخرين. 

ومع أن الفلسفة فى أغلب مسارات التعليم ما قبل الجامعي في العالم تُرجأ إلى السنة النهائية نظراً لموضوعاتها التي تتّسم بالتجريد ولغتها الخاصة، لكن ورغبةً في الاستفادة من المكتسبات التي تمنحها للطلاب، تولّى تربويون كبارٌ في سبعينيات القرن الماضي تبسيطَ الفلسفة وتحريرَها من المصطلحات المعقّدة وأسماء الفلاسفة بحيث تكون متاحةً للأطفال يستطيعون بها التأمّل في قضايا مثل الخير والشر، والعقل والعاطفة، والوعي واللاوعي. حظيت هذه المحاولات بنجاحٍ كبيرٍ مما حدا بمنظمة اليونسكو سنة 2002 لتوصي بتدريس الفلسفة للأطفال.


لم تقتصر توابع زلزال تقليص الموادّ على التعليم ما قبل الجامعي، لكنها ضربت التعليم الجامعي، بالأخصّ أقسام اللغة الفرنسية والفلسفة بكليات الآداب والتربية. يتساءل أعضاء هيئة التدريس عن جدوى الاستمرار في فتح هذه الأقسام، خصوصاً وأن الطلاب الجدد يُحجمون عن اختيار التخصص فى هذه الأقسام، بل إن بعض الطلاب الناجحين في السنة الأولى بأقسام الفلسفة بكليات الآداب عبروا عن رغبتهم في تحويل مسارهم التعليمي إلى تخصّصاتٍ أخرى أكثر مدعاة للطمأنينة بخصوص المستقبل.

يمكننا إذن القول إن هذه التعديلات الأخيرة لن تسهم في حلّ أزمات التعليم المزمنة ورفع تصنيف مصر في مؤشرات جودة التعليم العالمية، وإنما هي محاولةٌ جديدةٌ للالتفاف والهروب من الحلّ.

اشترك في نشرتنا البريدية