تُلمَح في الحادثتين آثارٌ غيرُ مباشرةٍ لموادّ إعلاميةٍ اسمُها مجازاً "فنّ" وتخلق عالماً خيالياً منفصلاً عن الواقع. عالمٌ يعيش فيه "البلطجيّ" أو "الفتوّة"، وهو الخارج عن القانون الذي يعيث في الأرض فساداً ويبسط نفوذه بالترهيب والقوّة، كما هو الحال في مسلسل "البرنس" وبطله الممثل محمد رمضان، فيُعطى قيمةً اجتماعيةً متربّعاً على عرش الاحتيال والقوّة والعنف. هذا العالَم الخياليّ الذي يُقدّمه المسلسل محاكاةً لمشاكل الناس في أرض الواقع ليس فنّاً، بل مادّةً إعلاميةً منحرفةً عن الحقيقة. فالخير والشرّ من حيث أنهما الموضوعان الكبيران والأكثر انتشاراً لقصص البشر لا يمكن اختزالهما في محاكاةٍ مبتذلةٍ، فيظهر عددٌ من الممثلين مدفوعين بما تقتضيه "نسبة المشاهدات" و"معدّل الأجور" و"الأكثر رواجاً" في الموادّ الإعلامية التلفزيونية والإذاعية، وليسوا مدفوعين بالوقوف على حقيقةٍ ما، أو التوصّل لمعنىً نبيلٍ وإجابة قضيّةٍ معيّنة.
إنّ مساءلة الموادّ الإعلامية المرئية والمسموعة وما إذا كانت فنّاً أمْ لا ليست جديدةً، بل كانت موضوعَ نقاشاتٍ فلسفيةٍ وأدبيةٍ عديدة. ومِن أبرز مَن تناول هذا الموضوع ليو تولستوي الذي فرّق بين الفنّ والجَمال مؤكّدًا أن الفنّ وسيلةٌ للتواصل ونقل الأفكار والمشاعر، بينما يُركّز الجَمال على إثارة الحواسّ والاستمتاع الحسّيّ. أما النقد الحديث للأعمال الفنّية فيتجاوز فكرةَ الجَمال ليشمل نقدَ الطابع التجاريّ للموسيقى والتمثيل الذي يسلّع المنتجات الفنّية ويقلّل من أهمّية مكوّن التعبير فيها. يضاف إلى ذلك نقدُ طابع المحاكاة في الأعمال الفنية لأنها تخلق تمثيلاتٍ جوفاء للواقع.
أمّا الجَمال، فإنّ تولستوي رأى أنه لا يؤدّي بالضرورة إلى التواصل والتعمّق والفهم. وقد لا يكون ناجماً عن الرغبة في إظهار حالةٍ شعوريةٍ أو نفسيةٍ معيّنة. بل يتعامل الجَمال مع الغرائز الحسّية والاستقبال العاطفي للمُشاهد فيثير حالةً من الاستمتاع الحسيّ.
بعد التفريق بين الفنّ والجمال ينتقل تولستوي لرفض الفكرة القائلة بأن الجمالَ مقياسٌ للحُكم على جودة العمل الفنّي أو رداءته، فكلّ عملٍ يتيح قدراً من المتعة للمستهلِك فهو فنٌّ جيّد. ويرى أن النظرية الجمالية تتبناها الطبقات العليا في المجتمع ممّن لا يَرَون هدفاً للفنّ سوى إظهار الجَمال، بينما الجميل عند تولستوي ليس بالضرورة هو الخير، فهناك الكثير من الأشياء الممتعة والجميلة لكنها مضرّةٌ بالإنسان.
فليس الجَمالُ مرادفاً للفنّ ولا تعريفاً له، بل قد يكون في حدّه الأقصى دافعاً لإنتاج الفنّ إذا اقترن بدوافعَ أُخرى مثل البحث عن معنىً أو التعبير عن فكرة. ولا يرى تولستوي الجَمالَ فنّاً بذاته، فيقول: "بقدرِ ما نَخضع للجَمال بقدرِ ما نبتعد عن الخير". فالفنّ وفقاً لذلك هو الخير أو ما يدلّ على الخير.
أراد سكاروفي بهذه العبارة التمهيدَ لتقديم نظرةٍ نقديةٍ لا تقتصر على فرقة البيتلز وحسب، بل تناقش ماهيّةَ الفنّ. يرى سكاروفي أن الطابع التجاريّ الذي سيطر على إنتاج الفرقة واختياراتها جعل الموسيقى متعلّقةً بحاجة السوق لا بالإبداع. ففي مقالِه ذَكَرَ أنّ الكتب والمنشورات التي لا تزال تعدّ فرقةَ البيتلز "أعظم فرقة روك أو أهمها أو أكثرها تأثيراً" تخبرك عن بُعد موسيقى الروك عن الفنّ الحقيقي. يقول سكاروفي: "إن فرقة البيتلز تمثّل رمزاً لمكانة نقد الموسيقى ككلٍّ: حيث يتمّ إيلاء قدرٍ أكبرَ ممّا ينبغي من الاهتمام للظواهر التجارية والقليل للغاية من الاهتمام لحِرَفية الموسيقيين الحقيقيين".
يرى سكاروفي أن النقّاد أيضاً لم يَسلَموا من سطوة شركات الإنتاج الموسيقي. فإذا ألّف موسيقارٌ قطعةً رائعةً ولكن لَم يلقَ حظوةً لدى أيّ شركةٍ كبرى لتبنّيه ورعاية إصداراته حول العالم، فإن نقّاد الموسيقى سيضربون عنه الذكر صفحاً. وفي المقابل، لو اختارت شركةٌ كبرى موسيقيّاً لا حظَّ له من الموهبة ثم روّجت له بحملاتٍ إعلانيةٍ ودعائيةٍ ضخمةٍ في جميع أنحاء العالم، فسوف يجد مئاتِ النقّاد والعديدَ من القنوات الإذاعية والتلفازية يغدقون عليه المديح. هذه حقيقةُ الحالة المُزرية التي وصل لها ما يُعَدّ اليومَ موسيقى، فليس مهمّاً المحتوى الذي يقدّمه المؤدّي، وإنما حملةُ الدعاية التي ستقدّمها العلامات التجارية الكبرى والموزّعون ومتاجر التسجيلات. كلّ هؤلاء، وفقاً لسكاروفي، ينظرون إلى القطعة الموسيقية والمؤدّي منتجاً يُدِرّ الأرباح.
ومنهم أيضا الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو، أحدُ روّاد مدرسة فرانكفورت النقدية، الذي وجّه نقدَه لعالَم الفنّ الحديث. جادل أدورنو بأن اقتصاد السوق يهدّد الفنّ لأنه يحوّل الأعمال الفنّية إلى منتجاتٍ تجاريةٍ يمكن المتاجرة بها وشراؤها من أجل الربح. فوجود سوقٍ للفنّ يعني تحويلَ الأعمال الفنّية إلى سلعٍ فاقدةٍ قيمتَها الأصلية وسلامتَها الإبداعية، مجرَّدةٍ من قيمتها الفكرية والجمالية. ويعزو أدورنو ذلك إلى أن مبادئ السوق والعرض والطلب تُقوِّض القِيمَ الجمالية والفنّية الحقيقية للفنّ، وتختزله في منتجٍ يُتداوَل بكثرةٍ بغضّ النظر عن محتواه وقيمته الإبداعية. فالعمل المرئيّ أو المسموع يصبح منتجاً رأسمالياً يَستهدِف إثارةَ اللذّة والاستهلاكَ وليس منتجاً جماليّاً. وتسليع الفنّ على هذا النحو يجعل الهدفَ من العمل الفنّي تحقيقَ أكبر قدرٍ ممكنٍ من الربحية وليس الوقوف على دلالةٍ معرفية. وحجّة أدورنو في شجب تسليع الفنّ أن الفنان المبدع لا يستطيع أن يضع الجمهور في الاعتبار عندما يبدع، لأن ثقافة السوق والربح والخسارة التي لا تتسامح مع الفكر المستقلّ أو حرّية التعبير هي الخطر الحقيقيّ على الفنّ.
يجادِل تولستوي بأنّ خَلْق أنشطةٍ قد يكون "جماليّاً ومعنيّاً بالإمتاع، لكن الغرض من ورائها ليس الفنّ ولا تعميق وعي الإنسان بذاته والعالم من حوله بل تحقيق الربح وفرض أنماطٍ ثقافيةٍ معيّنة". يضيف أدورنو أن تلك السلع التي يُطلَق عليها مجازاً "فنّ" تسعى لإرضاءِ السوادِ الأعظمِ ولا تسعى للصِدام مع السُلطة، حتى تجنيَ أكبرَ مكاسب مادّيةٍ ممكنة. لذلك فإنها لا تشكّك في الثقافة الجماهيرية ولا تشكّك في مجتمعها الحاضِن. وبدلاً من ذلك "لا تزال تؤكّد صلاح النظام الثقافيّ القائم وأدواته".
سعى ماغريت بسلسلةٍ من الأعمال تجمع بين الصور والكلمات إلى الإطاحة بما رأى أنه "العقلانية القمعية للمجتمع البرجوازي". فالقواعد الثقافية أو الفنّية تتبنّاها الطبقات البرجوازية في أيّ مجتمعٍ وتَفرضُها عقلانيةً ومقبولةً. حاول ماغريت زعزعة تلك الأفكار والمعاني المسبَقة التي يفرضها التمثيلُ البصريّ على الدماغ. ونجح إلى حدٍّ كبيرٍ في أن يثير الشكَّ في طبيعة المظاهر التي نتّخذها مُسَلَّمَاتٍ، سواءً في اللوحات أو في الواقع نفسه. وعلى غرار مارغريت، يمكن وصفُ المشهد المصوَّر الرومانسيِّ بأنه ليس حُبّاً، فالحُبّ حالةٌ تنشأ بين شخصين في سياقٍ اجتماعيٍّ وفرديٍّ تتقابل تجاربهم ومشاعرهم وتخوض أنفسهم غمارَ شعورٍ معقّدٍ يحتاج إلى الكثير من المثابرة والعطاء ليستمرّ. فيأتي المقطع المصوّر "الفيديو كليب" ليحوّله إلى شريطٍ من الصور المتسارعة المركّبة على أغنيةٍ يظهر فيها شخصان يغنّي أحدُهما للآخَر.
ومثل ماغريت، حاجَج الفيلسوف الفرنسي جيلْ دولوز بأن المحاكاة ليست فنّاً، بل من الخطورة اتّخاذها كذلك. يتعمَّق جيلْ دولوز في مفهوم المحاكاة من منطلقٍ وجوديٍّ ويتقصّى كيف انحرفَت تمثيلاتُ الواقع عن المعنى الأصليّ كما انحرفَت صورةُ الغليون عن حقيقتِها محضَ صورةٍ وليست غليوناً حقيقياً. يرى دولوز أن الموادّ الإعلامية لا تلتقط الحقيقة، بل ليست معنيّةً بنقلِها. فالمحاكاة تصويرٌ معيبٌ للواقع ومنفصلٌ عن كلّ حقيقةٍ جوهريّة. يرتبط منظور دولوز ارتباطاً وثيقاً بنقد ما بعد الحداثة لما يُطلَق عليه مجازاً "فنّ" إذ تُقدّم العديد من الصور والأشكال كما لو أنها ذات معنىً ولكنها تفتقر إلى الجوهر أو الارتباط بالواقع.
في المجتمع المعاصر، ووفقاً لحجج دولوز، هناك خطرٌ متربّصٌ يكمن في انحراف الصور والإشارات عن معانيها الأصلية. سيؤدّي الانحراف لا محالة إلى ظهور عالمٍ من الاستعارات المنفصلة عن الحقيقة. فالمحاكاة في هذا السياق تعني فقدانَ المعنى والحقيقةِ حيث تصبح التمثيلاتُ جوفاء وتافهة. وكَي نَفهم الواقعَ حقّاً، وسط بحرٍ من التمثيلات المضلّلة، منوطٌ بنا أن نتعلّم التمييز بين الفنّ وما هو محضُ تمثيلٍ لا يعبّر عن الحقيقة. ويكمن التحديّ الآن في التعرّف على الأوهام المقدّمة لنا فنّاً من أجل فهم الواقع المتواري خلفها، مثلما يشير علينا دولوز. فقد تكون المسلسلات الدرامية والأغاني والأفلام "على قدرٍ عالٍ من الخطورة" وليست تمثيلاً حقيقياً للواقع.
الأعمال المرئية، سواءً المقاطع المصوّرة "فيديو كليب" أو المسلسلات أو الأفلام، لا يمكن أن تُعَدَّ فنّاً، لأنّ "التلذّذ بالجَمال" ليس هو الفنّ، ولأنّ فكرة المحاكاة فاسدةٌ كما أورد دولوز، ولأنّ سياسات السوق ورأس المال ونسبة المشاهَدات هي المتحكّم الحقيقيّ في المحتوى المعروض. هذا غير المجالات الأوسع للسلطة والعلاقات الطبقية التي تُقحَم في البنية الداخلية للأعمال الفنية ويكون هدفُها الحفاظُ على توازنات السلطة ورأس المال في يد طبقةٍ معيّنةٍ، وهذا الجزء الأخطر.