ترسّخت رمزية نصرالله عند محبّيه ومناوئيه على السواء. فقد حظيَ بهالةٍ أسطورية في العالم العربي تضاهي ما حظيَ به الزعيمُ المصريُّ الأسبق جمال عبدالناصر. كانت القومية العربية إرثَ عبد الناصر، وكان شخصية التف حولها الكثيرون على امتداد المنطقة. أما نصرالله فقد كان يعمل في إطار سياسيٍّ إسلاميٍّ شيعيٍّ مرتبطٍ ارتباطاً وثيقاً بإيران، لكنَّ تأثيره تجاوزَ الحدود الطائفية. ضربَ موتُه قلبَ محور نفوذٍ إقليميٍّ بأسره، متسبباً بآثارٍ لن تُحتوى بسهولة.
قد تكون مقارنةُ نصرالله بشخصيات قريبة مثل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني الذي قُتل بغارة أمريكية سنةَ 2020، مُجدِيةً لمن يرى هذه الشخصيات مخططين استراتيجيين أو قادة عمليات على الأرض. بل قد يستنتج بعضُهم أنَّ قتلَ سليماني كان مكلفاً للمحور الإيراني أكثر من خسارة نصرالله، لكن هذه الرؤية تُغفل التأثيرَ العميق لنصرالله بالمنطقة، عكسَ شخصية سليماني الغامضة.
كان سليماني فذاً، بلا شك، بهندسته تدخلات إيران العسكرية في الخارج وتشكيله توازنَ القوة بالمنطقة. لقد أدارَ سليماني شبكةً واسعةً من الفاعلين في أنظمةِ بعضِ الدول لاسيما الجماعات المسلحة ذات العلاقات الوطيدة بإيران. قدرتُه على فرضِ نفوذِه على السياسيين الشيعة الذين وصلوا إلى السلطةِ منحَ إيران تأثيراً ميدانياً لا مثيلَ له في العراق وسوريا وغيرهما. كان سليماني الوسيطَ الأمثل وقائد العمليات الحصيف، ولكن دائما ضمن سياق صنعه الآخرون.
أما نصرالله فقد كان أكثر من مجرد قائد عمليات. كان نموذجاً وقدوة. ذلك أن الهالة التي أحاطت به وقدرته على الجمع بين أدوار القائد العسكري والزعيم السياسي والرمز الثقافي جعلته يحلّق في سرب وحده. فلم يكن يتصرف داخل منظومة مصممة سلفاً، بل كان أحد بناتها. كانت حركته "حزب الله" حركة شعبية رعتها إيران على أرض لبنان، وجعلها نصرالله قوَّةً منيعة قادرة على مواجهة إسرائيل وتشكيل مسار الصراعات على امتداد المنطقة. قدّم نصرالله مثالاً فكرياً وعسكرياً يُحتَذى، حتى استفادتْ منه الجماعات الإسلامية الأخرى. بل إن جماعاتٍ مثل تنظيم القاعدة وتنظيم "الدولة الإسلامية" استعارت من أساليبه، وحاولتْ تقليده في دمج النشاط العسكري بالشرعية السياسية والتعبئة الشعبية، حتى أنهم حاكوا أسلوبه وشخصيته.
كان نصرالله، بخيره وشره، بلا مثيل. فحين انسحبت إسرائيل من معظم جنوب لبنان سنة 2000، نشرت صحيفةُ الاتحاد الإماراتية الرسمية رسماً ساخراً قارن انتصار نصرالله بالهالة الأسطورية لحرب أكتوبر 1973 مظهرةً إشارةً صغيرةً كُتِبَ عليها سنة 2000 تحت إشارة كتب عليها 1973. ما زال كثيرون يذكرون الاحتشادَ أمام الشاشات سنةَ 2006 لمشاهدة خطاب "النصر الإلهي" لنصرالله حين طلب من المشاهدين في لبنان أن يتطلعوا من نوافذهم بينما كان الهجوم الصاروخي ينهال على سفينة بحرية إسرائيلية.
جاذبيته وكيده ومهارته بالخداع السياسي عزَّ نظيرها. وكان ما يقوله مدعاة للتمجيد والسخرية في نفس الوقت. فوصفه لإسرائيل في التسعينيات بأنها أوهنُ من "بيتِ العنكبوت" كان وقوداً حفّز جيلين من مقاتلي الحزب ضد إسرائيل، وهو الوصف الذي اقتبسه رئيسُ الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عند إعلانه الغارة التي أودت بحياة نصرالله. وصارتْ لثغته بحرف الراء وحواجبه المرفوعة وإعلانات أتباعه الولاءَ، ملصقات مخصصة لا حصر لها على تطبيق المحادثة واتسآب. ضع هذا إزاء حقيقة أن نصرالله كان من أوائل المعزّين لسعد الحريري، الذي أصبح لاحقاً رئيساً للوزراء بعد مقتل والده رفيق في انفجار شاحنة مفخخة ببيروت سنة 2005. لاحقاً أدانت محكمة دولية خاصة خمسةَ أعضاء من حزب الله بالجريمة، منهم أحد أكبر قيادييها العسكريين مصطفى بدر الدين.
لا يكتمل الحديث عن نصرالله دون التطرق إلى تحوله إلى شخصيةٍ استقطابيةٍ في العالم العربي. فلسيرته شطران، كان في أولها بطلَ الرأي العام العربيِّ وخصوصاً بعدَ حرب حزبه إسرائيلَ سنة 2006. أما في الشطر الثاني فقد أصبح طائفياً، ومات وهو يحاول استعادة سمعته الأولى.
لقد رأى الملايينُ نصرالله زعيماً عربياً وحيداً قادراً على ردِّ العدوان الإسرائيلي، فصار رمزاً للكرامة لاسيما للذين شعروا بخيانة حكوماتهم وعجزها عن مواجهة إسرائيل. ولم يسقط من قلوب العرب وعقولهم إلا بعد تطلعاته المتغطرسة للتدخل في سوريا والدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه.
حوّل الربيعُ العربي والنزاعُ السوري نصرالله من بطل بالمنطقة إلى شخصية إشكالية. قراره بإلقاء ثقل حزب الله دعماً لبشار الأسد في الحرب السورية الدامية، ومشاركته بالنزاعات الطائفية بالعراق واليمن خلّف وصمةً لا تُمحى. أصبح الرجل، الذي كان يوماً رمزاً للوحدة العربية، وجهاً للحرب الطائفية تثير أفعاله استياء العرب السنة، لا سيما في سوريا والخليج.
حتى مع تراجع شعبيته، بقي تأثير نصرالله على حاله. وكان قراره دخول الحرب السورية دعماً للأسد أمراً وجودياً. فحماية نصرالله نظامَ الأسد كانت جوهرية للحفاظ على محور الممانعة بوجه إسرائيل. المحور الذي ربط إيران وسوريا وحزب الله وحلفاءهم من الجماعات المسلحة أصبح العمود الفقري للجهود المناهضة لإسرائيل بالمنطقة عقوداً. فمن غير الأسد يتداعى المحور، وبلا نصرالله قد ينهار تماماً.
موتُ نصرالله يُذكّر بشخصية جدلية أخرى في التاريخ العربي الحديث: صدام حسين. فمثل نصرالله، كان رمزاً للتحدي والوحشية. صدام آخرُ زعيم عربيٍّ واجهَ إسرائيل علانية، ظلَّ عند بعضهم رجلاً موقراً لأنه المدافع عن الكرامة العربية، مع كلِّ أفعاله المرعبة التي جعلته عند آخرين مجرمَ حرب ومسؤولاً عن فظائع سادية تفوق الخيال ضد شعبه ومنهم الأكراد والشيعة.
قد تحيط الثنائية نفسها بذكرى نصرالله. فعند أتباعه، خصوصاً في لبنان، كان زعيماً راسخاً ورمزاً لمقاومة الاحتلال والعدوان الإسرائيليين. لكنه عند كثيرٍ من السوريين وغيرهم سيظل مرتبطاً بجرائم وحشية مثل نظام الأسد. يجمع إرثُه نقائضَ المقاومة والقمع والكرامة والدمار.
دوره الأخير سيحافظ على صورته التي كانت قبل 2011 حصناً ضد إسرائيل. فقد استعادَ نصرالله، بالمشاركة بأطول حربٍ تخوضها قوَّةٌ عربيةٌ ضدّ إسرائيل، صورتَه السابقة عند أولئك الكثرة الذين أبدوا استعداداً للتغاضي عن دوره بالمجازر التي ارتكبت بحق السوريين. ولعل موته جاء في مرحلة فارقة له ولأتباعه، فقد قُتل في خِضمِّ قتاله مع فلسطينيي غزة وليس مع الأسد.
هذا الدورُ الختاميُّ لن يغيِّرَ واقعَ الدمار الذي سيُوقعه موت نصرالله على جماعته وعلى التحالف الأوسع الذي تقوده إيران. في غمرةِ أحداثٍ حاسمة كهذه يجدرُ التوقّفُ قليلاً وتتبعُ التطورات الفارقة في الأعوامِ القليلةِ الماضيةِ والشهور الأخيرة.
كثيراً ما نُظرِ إلى مقتلِ سليماني على أنه تصعيد خطير، وقد رفضه عددٌ من صُنّاعِ القرارِ الأمريكيين حينَ قُدِّم لهم، لكنَّه فتحَ الباب للسلسلةِ الأخيرةِ من استهداف القيادات عالية المستوى. كان استهدافُ إسرائيلَ قائدَ حماس إسماعيل هنيّة في طهران تصعيداً صادماً ظنَّ كثيرون أنَّهُ سيُشعلُ حرباً إقليمية. بعدَ ذلك وقعت هجماتُ أجهزة النداء الآلي "البيجر" وأجهزة الاتصال اللاسلكية التي هزَّت حزبَ الله في صميمه أكثر بكثير من استهداف منزلٍ أو مبنى. تَبِعَ هذه الهجمات قتلُ كلِّ قيادات حزبِ الله العليا تقريباً. يتصدَّرُ قتلُ نصرالله العمليات كلّها ويجعل استهداف آخرين مثل الأسد والقادة الحوثيين والإيرانيين أمراً غير مستبعد.
يشكّل مقتلُ نصرالله أزمةً عميقةً لحزب الله وللمحور الإيراني عامّةً. فقد أضعفت عملياتُ إسرائيل الأخيرة حزبَ الله وأدَّت إلى مقتل معظم قيادة التنظيم. وأساء "حزب الله" حساباتِه بقدرتِه على خوضِ اللعبةِ التقليديةِ بالمناوشاتِ المحدودة مع إسرائيل، لأنَّ إسرائيل غيَّرت قواعدَها هذه المرة. التوازن الحذر الذي حافظ عليه نصرالله عقدين من الزمن، لاسيما بعدَ حرب 2006، أصبح لصالح إسرائيل بفارق كبير.
يعتقد بعضُ الباحثين أنَّ تنظيمات مثل حزب الله لا تموت أو تتأثر بشدة بمثل هذه الاغتيالات لقيادتها العليا، لأنها تنجو وتبقى موجودة. لكن هذا الاغتيال كان انتصاراً حاسماً لإسرائيل سيمنحها فرصة مواصلة إضعاف عدوها اللدود، بغض النظر عن الظروف التي أدت إلى هذه التصعيدات الراهنة.
علاوة على ذلك، يأتي مقتل نصرالله في وقت يتعرَّضَ به نفوذُ إيران الإقليمي لضغطٍ لا مثيلَ له. فقد أُضعفت حماس في غزة، وتعاني كل من إيران ولبنان أزمة اقتصادية طاحنة، بينما تواصلُ سوريا السعيَ بهدوء إلى العودة للطرف الإقليمي والعودة إلى دورها قبل 2011 قوةً موازنةً بين إيران والسعودية. لذلك فقدان نصرالله أكبر من خسارة زعيم، بل هو خسارة قوة استقرار في قلب مخططات إيران الإقليمية.
لا يمكن تخمين حال حزب الله بعد عام من اليوم، وكذا مصير مقاتليه في سوريا وقياداتهم، أو حتى من سيقود الحزب نفسه، وهل سيستطيع لبنان الدفاع عن دولته وحدوده. لكن قدرة إيران على إيجاد بديل لنصرالله محلَّ شكٍّ. فكما خلّف موتُ سليماني فراغاً في عمليات إيران بالعراق وسوريا، يترك فقدان نصرالله الحزبَ بلا قيادة مميزة حافظت على تماسك الجماعة عقوداً. فخلفاء نصرالله يفتقدون جاذبيته، ومن غيره قد يعاني حزب الله كثيراً ليحافظ على تماسكه وتأثيره.
موتُ نصرالله يعلنُ إغلاق فصل في المنطقة العربية. سيكون إرثه كإرث صدام وعبد الناصر محلَّ جدال لأجيال قادمة، وستكون ذكراه ذكرى بطل مقاومة ورمز انقسام طائفي. لكنَّ تأثيره على المنطقة وعلى المحور الإيراني لا يُنكر، فالمنطقة العربية بدون نصرالله مختلفة جوهرياً، واستجابة إيران وحزب الله وخصومهما لغيابه ستشكل مستقبل المنطقة أعواماً قادمة.
هذه التناقضات أساسية لفهم تبعات الاغتيال وردود الفعل العاطفية التي أثارها قتل نصرالله في لبنان.
تظلُّ الشخصيات مثل نصرالله فريدةً بالمنطقة لأنها، على طغيانها، تملك رأس مال عزيزاً بالمنطقة لا يقل عن الدولارات الأمريكية، رأس المال هذا هو الكرامة. تسبب كل من عبد الناصر ونصرالله بمعاناة كبيرة لشعوبهما، لكنهما أثارا غضبَ إسرائيل. نعم، خسر عبد الناصر كلَّ حربٍ خاضها ضد إسرائيل، وقضى نصرالله قدراً كبيراً من العقد الماضي يأمر مقاتليه بتجويع السوريين بعد اغتيال كثير من الشخصيات المعارضة اللبنانية لسيطرة حزب الله على البلاد. لكنَّ الانفجارَ الذي أدى إلى سقوطه كان رداً على قصف شمال إسرائيل تضامناً مع غزة، بينما كان الزعماء والملوك العرب متواطئين مع تل أبيب لحصار القطاع أو صائحين من بعيد بأمان على الهوامش.
طريقة موته مهمة كذلك. ذلك أنها ترمز لعصر ظالم يأتي فيه الثأر لجرائم حزب الله ضدّ السوريين وغيرهم ممن قتلهم بدم بارد، بصورة قنابلَ تزن ألفي رطل خرقت التحصينات وسوّت مجمعاتٍ سكنية بالأرض في إحدى أفقر مناطق بيروت. وهي قنابل أطلقها جيشٌ ما يزال يرتكب جرائم لا حصر لها ضد المدنيين العرب، بما في ذلك المجازر المتكررة في غزة والتي يقودها مجموعة من القادة المتطرفين الحاملين توجهات دولة أقرب للفاشية.