من نورمبرغ إلى صدام حسين.. المحاكمات السياسية بين العدل والانتقام 

لم تنجح محاكمة صدام حسين السياسية في إقناع متابعيها أنها ليست مجرد انتقام المنتصر من المهزوم.

Share
من نورمبرغ إلى صدام حسين.. المحاكمات السياسية بين العدل والانتقام 
أعطت أمريكا صدام حسين فرصة الاستهزاء من محاكمته | خدمة غيتي للصور

اعتادت أسرتي أن تقضي عيد الأضحى في تجمّعٍ سنوي للمهاجرين المصريين في البلدة الصغيرة التي ولدت ونشأت فيها شمال ولاية كاليفورنيا الأمريكية. ومع أني كنت طفلاً صغيراً، إلا أني مازلت أذكر تفاصيل تجمّع العيد سنة 2006. علقَ في ذاكرتي ما شاهدته على شاشة التلفاز ذلك الشتاء. فقد كانت الشاشة تنقل إرسال قناةٍ عربية أظنّها الجزيرة وهي تبثّ مراراً مشهد إعدام صدام حسين. حاولتْ أمي حينها حجب عيني عن المنظر برفق، لكنها فشلت.

شكّلت حرب العراق علاقتي بمدينتي والولايات المتحدة بطريقة لاتزال آثارها معي حتى اليوم. فأثناء نشأتي، رأيت أشخاصاً يشاركونني الحي والمدينة والمدرسة يذهبون إلى العراق ليقتلوا من يشاركونني الهوية واللسان.

لم أكن أعلم عندما شاهدت مشهد إعدام صدام حسين تبعات الحرب عليّ وعلى موقعي داخل هذه البلاد. فقد وطدت الحرب علاقتي بالعالم العربي وحفرت فجوةً بيني وبين الولايات المتحدة.

وجدت نفسي أعيد النظر في محاكمة صدام حسين بعد أن تعرّفتُ بالصدفة على فكر أستاذة العلوم السياسية الأمريكية جوديث شكلار. كانت شكلار تناقش أسباب نجاح المحاكمات السياسية التي عَقَدها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية ضدّ قيادات ألمانيا واليابان في مدينتَي نورمبرغ الألمانية وطوكيو اليابانية. رغم الطبيعة السياسية الواضحة لهذه المحاكمات، ومع أن المتهمين حوكموا على أفعالٍ لم تكن مجرَّمة بنصٍّ قانوني حين ارتكابها، إلا أن المحاكمات نجحت في أن تحظى بشرعيةٍ جعلَتها ترتقي عن كونها مجرّد انتقام المنتصر من المهزوم، وأن تؤسس لمنظومةٍ يتمتع بها حُكم القانون بالاحترام. فتحتْ أطروحة شكلار أمامي سؤال. متى ينجح المنتصر السياسي في محاكمة المهزوم محاكمةً لها شرعية وعدالة ترتقي بها عن كونها مجرد انتقامٍ سياسي.

الإجابة التي أقدّمها تنبع من إدراكِ أن المحاكمات السياسية التي ولدت بعد الحرب العالمية الثانية وتطورت منها نابعةٌ من التجربة الأمريكية القانونية التي تأخذ فيها المحاكمة طابعاً مسرحياً ارتجالياً. فرغم  أن أي محاكمة تشبه المسرح، إلا أن خصائص محددة في المنظومة القانونية الأمريكية كَسَت المحاكمات بطابعٍ مسرحي ارتجالي متطرّف. ولّد هذا إيماناً أمريكياً عميقاً بقدرة الإجراءات القانونية للمحاكمة على تحقيق العدالة بلا نصّ، وفي سياقٍ سياسي إشكالي.

هذا الحرص الشديد على الإجراءات القانونية والسياق السياسي وعلى الإخراج المسرحي للمحاكمة له دورٌ كبير في حسم مصيرها. ما أفشل محاكمات صدام حسين وجعَلها تظهر كأنها مجرد انتقام المنتصر من المهزوم هو فشلها في مراعاة هذه الجوانب المسرحية وإغفالها السياق السياسي الذي تحدث فيه. لذلك، فإن إعادة رواية محاكمة صدام حسين من هذه الزاوية مهمّ، خصوصاً في سياق العدالة الانتقالية الذي تمرّ به سوريا اليوم بعد سقوط نظام الأسد والدعوات إلى محاكمة المسؤولين في هذا النظام.


ما يجعل المحاكم الأمريكية أشبه بالمسارح الارتجالية هو أن دورها لا يقتصر على الحكم وفق القانون، بل يمتد ليشمل إصدار القوانين والحكم على القانون. وحتى يتضح المقصود بإصدار القوانين، فمن المهم التذكير بأن المنظومة القانونية في أمريكا تعتمد القانون المشترك "الكومُن لو"، وهو القانون الذي توجده وتطوّره الأحكام القضائية، عكس القوانين الوضعية المتمثلة بالتشريعات القانونية التي تقرّها مجالس أو سلطات منتخبة.

فعلى سبيل المثال، المنظومة القانونية المعتمدة في مصر هي منظومة قانون وضعي متأثر بالتقاليد القانونية الفرنسية والإسلامية. وفيها تصدر القوانين عن مجلسٍ تشريعي، ويقتصر دور القضاة على تطبيق القوانين المكتوبة وتفسيرها ما لم تفسّرها اللوائح التنفيذية. أما في منظومة القانون المشترك، الذي يُسمّى أحياناً القانون العام، فإن للقضاة دوراً إضافياً. فهم يصدرون أحكاماً قضائية ملزمة هو إصدار أحكام قضائية ملزمة تشكّل سوابق قضائية تدعم مبادئ قانونية جديدة. وهذا يعني أن المحاكم تفسّر وتطبّق القوانين استناداً على الأحكام السابقة الصادرة من محاكم أخرى في قضايا مماثلة. ويُعرف هذا المبدأ باسم "السوابق الملزمة". وهو ما يعطي القضاة صلاحية التشريع ويجعل القانون المشترك مرناً وقابلاً للتكيّف بالمحاكمات. فيمكن لأي محاكمة أن تكون مصدراً لتشريعٍ جديد، أو فرصةً لترسيخ قانونٍ قديم.

أما الحكم على القانون، أو ما يعرف بالمراجعة القانونية، فالمقصود به سلطة المحاكم الأمريكية في تقييم ما إذا كانت القوانين أو الإجراءات التنفيذية أو السياسات الحكومية تتوافق مع الدستور. أُرسيَ هذا المبدأ في سنة 1803 بعد القضية التي رفعها القاضي ويليام ماربوري ضدّ وزير الخارجية آنذاك جيمس ماديسون في المحكمة العليا مطالباً إياها بإصدار أمرٍ يلزم الوزير تسليمه وثيقة تعيينه قاضياً، التي رفض الوزير تسليمه إياها. استند ماربوري في دعواه على قانونٍ أصدره الكونغرس يمنح المحاكم صلاحيةً واسعةً لإلزام المسؤولين تنفيذ القانون.

انتهت المحكمة إلى الاعتراف بأحقية ماربوري في التعيين، لكنها –وهذا هو المهم في القضية– رفضت أن تصدر أمراً تلزم به الوزير تسليمَ وثيقة التعيين. وقررت عوضاً عن ذلك إلغاء القانون الذي يمنحها صلاحيةً واسعةً في إلزام المسؤولين الحكوميين تنفيذ القوانين. فقد اعتبرت أن هذه الصلاحية مخالفةً للدستور وتوسِّع دور المحكمة. فالمادة الثالثة من الدستور الأمريكي تحصر صلاحية المحكمة بالإلزام في القضايا التي تتضمن خلافاً بين الولايات أو قضايا السفراء والدبلوماسيين أو القضايا التي تكون الولاية التي تقع بها المحكمة طرفاً فيها. بموجب هذا الحكم، منحت المحكمة العليا المحاكمَ الأمريكية سلطةَ إلغاء القوانين التي تخالف الدستور. سواء كانت صادرة من الكونغرس أو من مجالس تشريع الولايات، مستندةً إلى مبدأ سيادة الدستور على كل التشريعات الأخرى.

للقضاء صلاحية المراجعة القانونية في غالبية دول العالم، ومنها كثير من الدول العربية، بطريقةٍ لها سمتان: المركزية والتفاعلية. فهي مركزية لأنها تحصر سلطة إلغاء القوانين في المحكمة الدستورية العليا. مثلاً، لا تملك المحاكم المصرية حق إلغاء القوانين المنافية للدستور، بل يجب أن يُحال الطعن إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فيها. وهي تفاعلية لأن المحاكم لا تستطيع المراجعة القانونية قبل أن يُقدَّم إليها طعنٌ رسمي. تجعل المركزية والتفاعلية الرقابةَ القضائية في دول المنظومة القانونية الوضعية أكثر هرمية. بمعنى أن القانون يحتاج فيها أن يمرّ عبر هياكل النظام القضائي هرمياً. وغالباً يتطلب بتّ المحكمة الدستورية العليا في دستورية قانون ما إحالةً رسمية لهذا القانون من المحاكم الأدنى أو المؤسسات الحكومية.

تجعل هذه الخصائص المحكمة الأمريكية أقرب للمسرح الارتجالي. فالممثل في المسرح الارتجالي غير ملزم بنصٍّ ويعتمد على خياله الواسع وتفاعل الجمهور والإحالة لتجارب سابقة. ومثله المحامي الأمريكي الذي يعتمد على الخيال الواسع والتفاعل والاعتماد على السوابق لبناء ما هو آت. وهو أيضاً ليس ملزماً بنصٍّ، إن كانت قضيته تمس حقاً دستورياً. فهو يصنع النص القانوني البديل أثناء المرافعة ومحاولة إقناع القاضي بفساد القانون والحكم في صالحه، بتقديم تفسيرٍ يزعم أنه أكثر توافقاً مع الدستور. وبهذه الطريقة تكون المرافعة فعلاً صانعاً للنص القانوني. يتبع النظام القانوني الأمريكي والمسرح الارتجالي على حدٍّ سواء قواعد عامة، ولكن هذه القواعد مرنة وقابلة للتأويل.

ربما يكون هدف المحاكمة –كهدف العمل المسرحي– التطهير. إذ تتشابه المحاكمة مع المسرحية في أنها تتيح للمجتمع والجاني والمجني عليه خوض تجربةٍ عاطفيةٍ قويةٍ تؤدي إلى التطهير عبر طقوسٍ تساعد على مواجهة الحقيقة والتعبير عن الاستحقاق أو التبرير والسعي نحو الإنصاف. وبالإجراءات القانونية، تحوّل النزاعات والتوترات الاجتماعية إلى عمليةٍ منظمة علنية تساعد على تهدئة المجتمع وإعادة الثقة في السلطة. والنظام الأمريكي متطرف في هذه الناحية حتى مقارنةً بمنظومات القانون المشترك الأخرى في إنجلترا وأستراليا وكندا. وذلك بسبب تداخل قداسة الدستور الأمريكي، وهو أقدم دستور مكتوب لا يزال يُعمل به مع الدساتير الخاصة والقوانين المختلفة للولايات الخمسين التي تتكون منها البلاد.


ولّدت هذه الطبيعة المسرحية والإجرائية المتطرفة للمحاكم إيماناً أمريكياً بها وبقدرتها على الحماية والتصدي للسلطات الأخرى. وصفت أستاذة العلوم السياسية والمثقفة الأمريكية جوديث شكلار هذا الإيمان "بالليغاليزم"، والتي يمكن ترجمتها إلى "القانونوية". وُلدت شكلار في لاتفيا سنة 1928 ثم هاجرت مع أهلها إلى كندا سنة 1941 هرباً من أهوال الحرب العالمية الثانية. سنة 1955، أكملت شكلار أطروحة الدكتوراه في تخصص العلوم السياسية في جامعة هارفارد. والتحقت بعدها مُدرِّسة في القسم نفسه حتى تقاعدها ثم وفاتها في سبتمبر من سنة 1992.

قدّمت شكلار أطروحتها عن القانونوية في كتابها المعنون "القانونوية: القانون والأخلاق والمحاكمات السياسية" الذي نشر أول مرة في سنة 1964. عرّفت "القانونوية" أنها "الموقف الأخلاقي الذي يعتبر اتّباع القانون والأعراف هو السلوك الأخلاقي، وأن العلاقات الأخلاقية تتكوّن من واجباتٍ وحقوقٍ تحدّدها هذه القوانين والأعراف". واعتبرت شكلار هذا الاعتقاد هو الركيزة الأساسية لكلٍّ من الليبرالية والثقافة السياسية الأمريكية.

رأت شكلار في حركة الحقوق المدنية المطالبة بإلغاء القوانين والإجراءات التمييزية ضدّ السود، والممتدة من بدايات خمسينيات القرن العشرين حتى السبعينيات، تعبيراً مثالياً عما تقصده بالقانونوية. يتجلى هذا الإيمان في أن نشطاء هذه الحركة واجهوا قوانين الفصل العنصري الظالمة باللجوء إلى إجراءات المحاكم الأمريكية. وأهم من قام بذلك مارتن لوثر كينغ، أشهر قادة الحركة الذي اعتبرته شكلار شخصاً استوعب الثقافة القانونية الأمريكية وسعى لتغيير المجتمع من المحاكم.

فمثلاً ألقى كينغ خطاباً دعماً للإضراب الذي أعلنه السود في مدينة مونتغمري في ولاية ألاباما، احتجاجاً على التمييز العرقي في ركوب الحافلات العامة واعتقال الناشطة روزا باركس لرفضها الانصياع لهذه القوانين التمييزية. قال كينغ: "نحن لسنا مخطئين في فعلنا هذا. لو كنا مخطئين، فإن المحكمة العليا لهذه البلاد مخطئة. لو كنا مخطئين، فإن دستور الولايات المتحدة الأمريكية مخطئ. لو كنا مخطئين، فإن الله عزّ وجلّ مخطئ". وتدل المساواة بين عصمة المحكمة الدستورية والدستور والذات الإلهية على مدى إجلال مارتن لوثر كينغ، الذي كان قساً، للمنظومة القانونية للبلاد.

تُرجِع شكلار هذا الإيمان القوي بدور المحاكم إلى التعديل الرابع عشر للدستور الأمريكي المرسِّخ لمبدأ مساواة الجميع أمام القانون. أُقرَّ هذا التعديل سنة 1868 لمعالجة الإشكاليات التي نشأت نتيجة الحرب الأهلية الأمريكية بين سنتَي 1861 و1865. يحتوي التعديل على خمس فقرات، وتحوّلت الفقرة الأولى منه لاحقاً إلى منبع "القانونوية" والإيمان بالمحاكم. تنصّ هذه الفقرة على أن "جميع الأشخاص المولودين في الولايات المتحدة أو المتجنسين بجنسيتها والخاضعين لسلطانها يعتبَرون من مواطني الولايات المتحدة ومواطني الولاية التي يقيمون فيها. ولا يجوز لأي ولاية أن تضع أو تطبّق أي قانونٍ ينتقص من امتيازات أو حصانات مواطني الولايات المتحدة. كما لا يجوز لأي ولاية أن تحرم أي شخصٍ من الحياة أو الحرية أو الممتلكات دون مراعاة الإجراءات القانونية الأصولية. ولا أن تحرم أي شخصٍ خاضع لسلطانها من المساواة في حماية القوانين". جعل هذا التعديل المساواةَ في الحقوق والحماية لكل المواطنين حقاً دستورياً. وجعل من المحاكم وسيلةً مهمةً لاستمرار الصراع من أجل العدالة. تقول شكلار: "أضحى هذا التعديل في وقتنا الحالي أساس الحقوق المدنية".

لم يكن هذا الإيمان بالمحاكم حصراً على ناشطي الحقوق المدنية، بل كان مشتركاً مع خصومهم. إذ أبدى كل من صانع القانون والملتزم به والمخالف له والمتفرّج من بعيد تفهماً أساسياً لمسألة أن العدالة تأتي من المحاكم. فمع معارضة خصوم مارتن لوثر كينغ لأهدافه ومطالبه، إلا أنهم لم يستطيعوا معارضة أساليبه ووسائله، لأنه كان يعبّر عن نفسه بخطابٍ ومفرداتٍ مقبولةٍ لدى النظام القانوني.

ولا يتبيّن مدى تمايز هذا المسلك القانوني الذي اتّبعته حركة الحقوق المدنية الأمريكية لتحقيق مطالبها، إلا إذا وضعناه في سياقه العالمي في عقد الستينيات الذي كان مكتظاً بالحركات التغييرية والسياسية. فتلك الفترة كانت فترة الثورة الجزائرية وحرب فيتنام الداميتين. في المشرق العربي، قامت ثورة ظفار في عُمان بأهدافها التقدمية المنادية بالمساواة عن طريق السلاح. كذلك اندلعت في تلك الفترة حروب عصابات شرسة بأهدافٍ ثورية في كلّ من الأوروغواي وكولومبيا وحرب عصابات النانكاهوازو في بوليفيا، والتي أدّت الى إعدام المناضل الشهير تشي غيفارا. في أوروبا أيضاً كانت إيطاليا تحت وطأة سنوات الرصاص حيث نفذت المنظمة الثورية اليسارية، المعروفة بالألوية الحمراء، اغتيالاتٍ عدة وأعمال عنفٍ مختلفة. بمعنى آخر، ففي العقد الذي كان العالم بأسره في خضم ثوراتٍ وعملٍ ثوري مسلَّح، يُقتل فيه القضاة في إيطاليا وتفجَّر المؤسسات الحكومية في الجزائر، كان مناضلو الحقوق المدنية الأمريكان يرتدون بدلاتٍ أنيقة ويترافعون أمام محاكم بلادهم بكلّ هدوءٍ وإيمان. هذا لا ينفي وجود حراك مسلَّح ومحاولات عنيفة قمعتها الدولة الأمريكية، التي كانت ضعيفة أمام ضغوط المحاكم بينما قضت على العمل المسلَّح ضدها.


وُلدت المحاكمات السياسية التي تلت الحرب العالمية الثانية من رحم هذه المنظومة القانونوية الارتجالية الأمريكية. فكانت الولايات المتحدة قوةً دافعةً وراء سلسلة محاكمات ضدّ قيادات الحزب النازي في ألمانيا وقيادات الحكومة اليابانية. سمّيت الأولى "محاكمات نورمبرغ"، وكانت سلسلةً من محاكمات عسكرية عقدت بين سنتَي 1945 و1946 لمقاضاة القادة النازيين في مدينة نورمبرغ الألمانية. في نورمبرغ، حوكم أربعة وعشرون من كبار القادة النازيين. من أمثال هيرمان غورينغ رئيس وزراء هتلر ومؤسس الشرطة السرية النازية المعروفة باسم غيستابو، ورودولف هيس نائب رئيس الحزب النازي وسكرتيره الخاص. حكم على بعض هؤلاء بالإعدام وعلى بعضهم الآخر بالسجن المؤبد، بينما بُرّئ البقية.

شكلت هذه المحاكمات السياسية سابقةً قانونيةً لمحاسبة الأفراد على جرائم دولية. وقد أرست الأساس لتطوير القانون الجنائي الدولي والمحاكم الجنائية الحديثة، مثل المحكمة الجنائية الدولية.

أما سلسلة المحاكمات السياسية الأخرى التي عقدت في اليابان، فأطلق عليها شعبياً اسم محاكمات طوكيو. لكن اسمها الرسمي كان "المحكمة العسكرية الدولية للشرق الأقصى". جرت تلك المحاكمات في العاصمة اليابانية بين سنتَي 1946 و1948 لمحاسبة ثمانية وعشرين قائداً من قادة الجيش الياباني على اتهاماتٍ مماثلة لجرائم القادة الألمان في نورمبرغ. أشرفت على محاكمات طوكيو إحدى عشرة دولة من دول الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة. طالت هذه المحاكمات السياسية رئيس الوزراء الياباني هيديكي توجو، ولكنها لم تمسّ شخص إمبراطور اليابان هيروهيتو أو الأسرة الإمبراطورية، لأن الامريكيين رأوا أنه يجب الحفاظ على شيءٍ ما من منظومة الدولة اليابانية.

كانت هذه المحاكمات السياسية نتيجةً خالصةً للإيمان الأمريكي الذي أسمته شكلار "القانونوية". تحكي شكلار كيف أن المدعين العامين البريطانيين لم يكونوا مؤيدين لوجود المحاكمات، بل كانوا يفضلون "حلاً سياسياً"، أي محاكمة عسكرية سريعة أو حتى إعدام الشخصيات النازية الرئيسة. ويعود رفض البريطانيين إلى أنهم ظنوا أن هذه المحاكمات ستكون إما داخل المنظومة الألمانية أو خارجها. وإن كانت داخلها، فما فعله منسوبو الحزب النازي من جرائم كان موافقاً للقوانين الألمانية وتنفيذاً لها. وإن كانت خارج المنظومة القانونية الألمانية، فإن هذه المحاكمات ستكون معدومة الشرعية. لكن الإيمان الأمريكي بقدرة الإجراءات القانونية على تجاوز هذه التحفظات كان عميقاً. وبهذه الطريقة ذات الطابع الأمريكي، خلقت المحاكمات السياسية قوانين لم تكن موجودة على الأرض لحظة ارتكاب الجرائم.

انشغل الأمريكيون بصياغة قوانين جديدة يحاكم النازيون بموجبها عن جرائم لم تكن معروفة من قبل، ولكن انشغالهم الأكبر كان في سلامة إجراءات المحاكمة نفسها. تساهلهم في محاكمهم تجاه القوانين جعلهم يعتقدون أنه لابأس في استحداث القوانين عبر المحاكمات شريطة أن تظلّ الإجراءات صارمة.

هذا الاهتمام البالغ بالإجراءات نابع من الطبيعة الارتجالية للمحاكمات الأمريكية. فكما تقدَّم، يتضح القانون ويتولد من إجراءات المحاكمة. ولكن حتى يحدث هذا يجب أن تكون الإجراءات سليمة. وقد تمكّن الأمريكيون بانضباطهم الإجرائي من إثبات جرائم الحزب النازي وترسيخ قوانين لم تكن موجودة من قبل. فالحلفاء لم يحتاجوا مجلساً تشريعياً يصدر قوانين تجرّم هذه الأفعال بأثرٍ رجعي. ولم يكن نجاح تلك المحاكمات نجاحاً للحلفاء فحسب، بل نجاح للقوى المناهضة للفاشية ولأنصار القانون الدولي. والأهم من ذلك كله، كان نجاحاً للنظام القانوني الألماني الذي تغلّب بالمحاكمات على إرثه القمعي واستعاد مكانته واحداً من أهم النظم القانونية العالمية.

أرجعت شكلار نجاح محاكمات نورمبرغ الكبير إلى سعيها لإعادة إرساء القيم القانونية في المجتمع الألماني. إذ رأت أن لدى الألمان تاريخاً قانونياً عريقاً، وأن ما حدث تحت الحكم النازي كان انحرافاً. فحتى وإن لم يكن الحلفاء قد قصدوا ذلك، فإن المحاكمات أعادت تثبيت قيم الليبرالية، وكان من بين أهم هذه القيم مبدأ "القانونوية".


لم يكن نموذج المحاكمة السياسية خالياً من التحديّات والانتقادات. فقد أثار أحد قضاة محاكم طوكيو، وهو القاضي الهندي رادهابينود بال، انتقادين عن هوية الحَكَم وانعدام القانون. إذ رأى أن جميع المدانين اليابانيين أبرياء من كل جريمةٍ منسوبةٍ إليهم. ولم يكن سبب تبرئته لهم إنكاره أن اليابانيين ارتكبوا فظائع في الحرب العالمية الثانية، بل لأنه اعتبر أن المحاكمة برمّتها لم تكن إلا إنتقاماً يوقعه المنتصرون على المهزومين، متخفِّياً في ثوب العدالة. فكيف للأمريكيين اتهام القيادة اليابانية بجرائم ضدّ الإنسانية بُعيد إسقاط أمريكا قنابل نووية على سكان المدن اليابانية. أما الانتقاد الثاني الذي أثاره بال، فهو أن اليابانيين يحاكَمون بموجب قانونٍ لم يكن موجوداً أثناء فعلهم ما فعلوا.

وبسبب هذين الانتقادين، خلصَ القاضي بال إلى أن هذه المحاكمات السياسية التي تكتفي بالإجراءات فقط هي محاكمات هزلية وردّة للعصور السابقة على الحضارة التي يزهق فيها المنتصر روح المهزوم بلا اعتبار لأي قانون. فقال: "محاكمة تُفرَض فيها القوانين على هذا النحو لن تكون سوى استخدام زائف للإجراءات القانونية لإشباع رغبة في الانتقام، ولا تمت بصلة لأي مفهوم للعدالة". ورأى أن وجود النص القانوني هو ما يحسم مسألة عدالة هذه المحاكمات من عدمها.

لم تكن هذه الإنتقادات غائبة عن أنصار المحاكمات السياسية، وحاولوا إيجاد حلول لها. أحد أهم من ساهم في إيجاد هذه الحلول كان روبرت جاكسون، أحد قضاة نورمبرغ الأمريكيين وعضو المحكمة العليا الأمريكية. رأى جاكسون عدم جواز محاكمة النازيين على جريمة فعل مثلها الحلفاء. فعلى سبيل المثال بُرّئ الفريق النازي كارل دونيتز من جريمة استخدام الغواصات الحربية عشوائياً، لأن الضباط الأمريكيين اعترفوا أنهم فعلوا نفس الفعل.

كان جاكسون واثقاً أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تُتهم بالعدوان في دخولها الحرب العالمية الثانية. وبالتالي لم يشعر بأي تناقض في اتهام النازيين بجريمةٍ جديدةٍ سمّيت جريمة خوض حرب بلا هدفٍ دفاعي. لكن الأمر كان مختلفاً في طرح جريمة جديدة على أساس تدمير البنية التحتية المدنية. كتب جاكسون مخاطباً نظيره القاضي السوفييتي: "لقد استبعدنا من مسودتنا تجريم تدمير القرى والمدن، لأنني رأيت القرى والمدن في ألمانيا. وأعتقد أنك ستواجه صعوبة كبيرة في التمييز بين الضرورة العسكرية التي دفعتنا لمثل هذا التدمير وبين الضرورة التي دفعت الألمان لفعل ما يماثله. ويبدو لي أن هذه المواضيع ستفتح الباب أمام تبادل الاتهامات، وهو أمر لن يكون مفيداً في سياق المحاكمة".

واضح من هذه التخوفات والقرارات حرص جاكسون على إرساء قاعدة قانونية غير مكتوبة تمنح المحاكمة جانباً كبيراً من الشرعية، وهي أنه لا يجوز للحَكَم أن يحاكم المحكوم على أمورٍ اقترفها هو نفسه. وانطلاقاً من هذا المبدأ، حوسب النازيون على جرائم لم يرتكبها أحد غيرهم. ورغم أهمية هذا المبدأ في كل المحاكمات، إلا أن هذه الأهمية تتضاعف في سياق المحاكمات السياسية اللاحقة للحروب، وغير المقيّدة بنصوصٍ مسبقة لارتباطها الوثيق بشرعية هذه المحاكمات.

أما محاكمة المهزومين على جرائم لم يكن منصوصاً عليها وقت اقترافهم إياها، فقد سلك الحلفاء مسلكاً "إنسانياً" لتبرير ذلك بإدراج جرائم لم تكن معروفة من قبل سمّوها "جرائم ضد الإنسانية". إذ رأوا أن هذه الجرائم التي ظهرت في الحرب العالمية الثانية في القارة الأوروبية لم تكن موجودة ولم يتخيّل وجودها أي مجلسٍ تشريعي في أوروبا طيلة القرن الماضي. ومع ذلك استندوا في توليدهم هذه الجريمة الجديدة على إطارٍ نظري هو الحقوق الطبيعية. فحسب هذا الإطار، هناك حقوق كونية لا تتصل بأي نص ديني أو خصوصية ثقافية أو تراث قانوني. وهذه الحقوق غير قابلة للتصرف ومتوقع من الجميع الاعتقاد بها. لا يختلف هذا الموقف عن موقف المعتزلة في التراث الإسلامي من أن معرفة أن الشيء حسن أو قبيح تكون بالعقل وأنه يجب معرفة الله بلا نصّ. فكلتا النظريتين تريان أن الإنسان محاسب على ما يفترض به أن يعرفه بعقله، حتى لو لم يرد في ذلك نص أو تشريع.

من مثل هذا الإطار النظري يمكن محاسبة الأشخاص على اتباع قوانين أو قرارات تتنافى مع الحقوق الطبيعية حتى وإن لم يوجد نص. يقول القاضي جاكسون مثلاً: "البند الرابع من لائحة الاتهام يستند إلى الجرائم ضد الإنسانية. وأبرز هذه الجرائم هي القتل الجماعي لعدد لا يُحصى من البشر بدمٍ بارد. هل يُفاجأ هؤلاء الرجال [يعني النازيين] بأن القتل جريمة؟ [. . .] فقد كان تعدّي رجل على آخر بقبضتين عاريتين جريمة بموجب قوانين جميع الشعوب المتحضرة. فكيف أصبح تكرار هذه الجريمة مليون مرة، مع إضافة الأسلحة النارية إلى القبضات العارية، عملاً بريئاً من الناحية القانونية؟ كانت العقيدة السائدة هي أنه لا يمكن اعتبار المرء مجرماً عند ارتكابه أفعال العنف المعتادة في سياق الحرب المشروعة. وقد أضاف عصر التوسع الإمبريالي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عقيدة فاسدة تتعارض مع تعاليم الفقهاء المسيحيين الأوائل وفقهاء القانون الدولي، مثل غروتيوس، مفادها أن جميع الحروب يجب اعتبارها حروباً مشروعة. وكانت نتيجة هاتين العقيدتين أن أصبح شنّ الحروب محصناً تماماً من أي مساءلة قانونية".


لم تقتصر المحاكمة السياسية على محاكمات نورمبرغ وطوكيو، بل تحولت هذه المحاكم سوابقَ لمحاكمات كثيرة عقدت بعد ذلك. استمرارية هذا النمط من المحاكمات جاء مخالفاً لما توقعته شكلار. فقد قالت عن محاكمات نورمبرغ وطوكيو: "مرة أخرى، أولئك الذين أثاروا الضجيج وعبّروا عن مخاوفهم من المحاكمة بوصفها سابقة خطيرة وتهديداً مرعباً لجميع الجنرالات ورجال الدولة المهزومين في المستقبل، ربما كان ينبغي لهم أن يتذكروا أن لا الحروب ولا تسويات السلام تشكّل سوابق. فكلٌّ منها جديد ومختلف. ولو أن المحاكمة كانت جزءاً من نظامٍ قانوني راسخ، لكان من الممكن اعتبارها سابقة قانونية، سواء للأفضل أو للأسوأ. لكنها لم تكن كذلك بأي حالٍ من الأحوال. ولذلك فإن كلّاً من الآمال والمخاوف بشأن مستقبل القانون الدولي كانت بلا أساس. لم تكن المحاكمة، ولا يمكن أن تكون، سابقة إلا على نحو تشبيهي غامض لا أكثر".

كما يتضح لنا اليوم، فشل توقع شكلار. فنموذج المحاكمة السياسية تَطوّر في العقود الخمسة الماضية منذ عقد الخمسينيات وأُسِّس له في المنظومة الدولية. ولم يتوانَ عدد كبير من المنتصرين عن مقاضاة مهزوميهم. فبعد محاكمات نورمبرغ، عقدت عدة اتفاقيات دولية لتعزيز هذا النسق القانوني. أبرزها توقيع اتفاقيات جنيف التي نظمت قواعد الحرب سنة 1954، واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية سنة 1948، واتفاقية مناهضة التعذيب سنة 1984. هذه النصوص القانونية أعطت المجتمع الدولي أدوات واضحة لمحاكمة منتهكي حقوق الإنسان.

وإضافةً للقوانين الدولية، بدأت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حركةٌ حثيثةٌ نحو تأسيس نظامٍ قضائي دولي. جاءت أولى هذه الخطوات في تأسيس محكمة العدل الدولية سنة 1945 في مدينة لاهاي الهولندية، وتخصصت في فضّ النزاعات بين الدول. مع مرور الوقت، ظهرت محاكم دولية متخصصة بصراعاتٍ محددة. تُوّج هذا التطور بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية سنة 2002، أول محكمة دولية دائمة تحاكم الأفراد جنائياً بغضّ النظر عن مناصبهم، خلافاً لمحكمة العدل الدولية التي تحاسب الدول لا الأفراد. ساعدت الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي في دعم مسار تبنّي المحاكمات حلاً بإحالة قضايا إلى المحكمة الجنائية الدولية، كما حصل في حالتَي السودان وليبيا.

الأمثلة على المحاكم الدولية المتخصصة منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم كثيرة. ففي سنة 1993، أسّس مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المحكمة الدولية الجنائية الخاصة بدولة يوغسلافيا السابقة. وذلك لمحاسبة المتورطين في جرائم متعددة ارتُكبت أثناء حروب يوغسلافيا التي استمرت من 1991 حتى 2001. وأشهر من قوضي في هذه المحكمة الرئيس السابق ليوغسلافيا سلوبودان ميلوشيفيتش، الذي استمرت محاكمته خمس سنوات حتى وفاته سنة 2006 قبل صدور حكمٍ بحقه.

وفي سنة 1994 أسّس مجلس الأمن المحكمةَ الدولية الجنائية الخاصة برواندا لمحاسبة المتورطين في الإبادة التي ارتكبتها مجموعات مقاتلة من شعوب الهوتو ضد مئات الآلاف من شعوب التوتسي في رواندا، في الفترة من أبريل إلى يوليو 1994. أخذت هذه المحاكمة من تنزانيا مقراً لها. بدأت أعمالها سنة 1997 واستمرت إلى 2016، وحُكم فيها على واحد وستين متهماً فيما بُرّئ أربعة عشر.

لم يقتصر تطبيق نموذج المحاكمة السياسية على المحاكمات المرتبطة بالأمم المتحدة، بل استطاعت دول أخرى توطين النموذج واستخدمه الحكام الجدد لمحاسبة رؤوس النظام السابق. ففي الأرجنتين، بدأت محاكمة الاستبداد العسكري أواسط الثمانينات بعد عودة الديمقراطية إلى البلاد سنة 1983. جاءت المحاكمة نتيجة ضغوطٍ دولية ومحلية لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. تلك التي حدثت فترة حكم المجلس العسكري الأرجنتيني بين 1976 و1983، والمعروفة "بالحرب القذرة". ففي هذه الفترة، قتلت السلطات العسكرية الأرجنتينية وعذبت وأخفت قسرياً ما يقارب ثلاثين ألف مواطنٍ أرجنتيني.

لم يكن استدعاء نموذج المحاكمة السياسية الخيار الأول في الأرجنتين، ولكنهم اضطروا إليه بعد تعنّت المحاكم العسكرية. فبعد سقوط الاستبداد العسكري، سعى الرئيس الأرجنتيني المنتخب راؤول ألفونسين إلى محاسبة المتورطين من الجيش عبر القضاء العسكري. رفضت المحاكم العسكرية ذلك، بسبب العلاقة الوثيقة بين منسوبيها وقيادات الجيش. فما كان من ألفونسين إلا أن أنشأ محكمة استئنافٍ مدنية سنة 1983 للنظر في قضايا الانتهاكات التي حدثت أثناء الحرب القذرة. ركزت المحاكمات على الكشف عما حدث في فترة الحكم العسكري، ومنحت فرصةً لأسر المختفين قسرياً للإدلاء بشهاداتهم. أسفرت المحاكمات عن إدانة بعض القيادات العسكرية وصدرت أحكامٌ بسجنهم.

جرت محاكمات الأرجنتين في سياقٍ محلي، إلا أن هناك قواسم مشتركة بينها وبين محاكمات نورمبرغ. ففي كلا الحالتين، حوكم مسؤولون سياسيون وعسكريون على خلفية اتهامات بارتكاب جرائم جسيمة ضدّ الإنسانية. في نورمبرغ، كانت المحاكمة عن جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والعدوان على دول الجوار. أما في الأرجنتين، حوكم المسؤولون عن الإخفاء القسري والتعذيب والقتل خارج إطار القانون في "الحرب القذرة". وفي كلا الحالتين شُدد على مبدأ أن الأفراد مسؤولون ومحاسبون قانونياً عن أفعالهم، حتى لو كانت هذه الأفعال تنفيذاً لأوامر عليا.

هناك فروقات واضحة بين محاكمات نورمبرغ والأرجنتين رغم التشابه بينهما. فمحكمة نورمبرغ اعتمدت على أسسٍ قانونية دولية جديدة، وابتكرت مفاهيم مثل "الجريمة ضد الإنسانية"، بينما استندت محاكمات الأرجنتين إلى قوانين وطنية ودولية كانت موجودة. اعتمدت نورمبرغ على وثائق الحرب واعترافات كبار القادة، في حين استندت محاكمات الأرجنتين إلى شهادات الناجين ومنظمات حقوق الإنسان. أدى كل هذا الى توطين روح نورمبرغ والعمل بها في سياقٍ محلي وتحت رعايةٍ محلية.


وصلت المحاكمات السياسية إلى العالم العربي سنة 2003 بعد غزو التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية العراقَ وإسقاط نظام البعث. بعد سقوط نظام صدام حسين، تولت سلطة التحالف المؤقتة حكم البلاد بقيادة الدبلوماسي الأمريكي بول بريمر. أنشأت سلطة بريمر محكمةً خاصة لمقاضاة رأس النظام صدام حسين وكبار رجال حزب البعث العراقي. أصدرت المحكمة أحكامها سنة 2006 بعد عدّة جلسات متلفزة دافع فيها صدام حسين عن نفسه أمام القاضي وأمام العالم.

أثناء محاكمة صدام حسين، وقَع الأمريكيون في ثلاثة محاذير أساسية حاولوا تجنبها أثناء محاكمات نورمبرغ لضمان شرعية المحاكمة. عدم محاكمة المهزوم عن جرائم ارتكبها المنتصر، ثم تجاهل الإجراءات الحاكمة لعملية التقاضي والمحاكمة، وأخيراً تجاهل الجرائم التي مسّت شرائح مختلفة من المُعتدى عليهم.

أول هذه المحاذير التي خالفتها الولايات المتحدة في محاكمة صدام حسين كان عدم محاكمة المهزوم على جرائم اقترفها المنتصر. فموضوع القضية التي حوكم فيها صدام كان ما فعله بأهالي بلدة الدجيل شمال بغداد بعد محاولة اغتياله. وقعت الحادثة سنة 1982 بعد أن نجا صدام حسين من محاولة اغتيال نفّذها أفراد من حزب الدعوة الإسلامي الشيعي. جاء رد النظام قاسياً، إذ اعتُقل المئات من سكان الدجيل وعُذب كثير منهم وأُعدموا ودُمرت العديد من المنازل والمزارع. أودت هذه الحملة بحياة 148 عراقياً. ومع شناعة حادثة الدجيل، كان المنتصر الأمريكي قد تسبب بمقتل مئة ألف عراقي على الأقل عند لحظة النطق بالحكم على صدام. لم تفت هذه النقطة صدّاماً، فأشار لها ساخراً في الجلسة الأولى قائلاً: "هذا كله مسرح. المجرم الحقيقي هو بوش".

المفارقة بين جرائم المنتصر وجرائم المحكوم عليه هزّت شرعية المحاكمة بأكملها، وأعطت صدام حسين فرصة الاستهزاء من المحاكمة، مشككاً في أبسط إجراءاتها القانونية. فعندما طلب القاضي منه أن يعرّف بنفسه وفقاً للإجراءات القانونية، أجاب صدام القاضي بتحدّ قائلاً: "أنت عراقي، أنت تعرف من أنا". استغلّ صدام الفجوة بين الإجراء والواقع من أجل تقويض القانون وتقديم نفسه بطلاً. أدين صدام في جريمة الدجيل، وحُكم عليه بالإعدام شنقاً.

أما المحذور الآخر الذي لم تفلح محاكمة صدام حسين في تفاديه، فهو في عدم احترام الإجراءات المعايير القانونية الأساسية. والمقصود بهذه المعايير أمور من قبيل حق المتهم في محاكمةٍ محايدة والحصول على محامي دفاع. صحيح أن هذه الإجراءات ذات طابع مسرحي إجرائي، لكنها جوهرية لإعطاء المحاكمة شرعية لأنها حالة أسمى من مجرّد انتقام. إذ يفقد بدونها كل من له علاقة بالمحاكمة الشعور بأنها تسعى في إعطاء كل ذي حق حقه.

كان ثمة شعور عام في الأوساط القانونية والإعلامية أن محاكمة صدام حسين تخضع لتأثيرٍ سياسيٍّ واضحٍ، خاصة من السلطات العراقية الجديدة المدعومة من الاحتلال الأمريكي. فقد نشرت صحيفة الغارديان البريطانية عن امتعاض مسؤولين روس وأوروبيين من سرعة المحاكمة. أما الخبير القانوني المصري الأمريكي محمود شريف بسيوني، فقد أشار إلى أن المحاكمة لم تكن إلا محاولة أمريكية لتبرير احتلال العراق بعد فشل الأمريكيين بالعثور على أسلحة الدمار الشامل التي كانت مبرّرهم الرئيس للحرب. وأثناء المحاكمة، اغتيل ثلاثة محامين من فريق الدفاع. آخرهم كان المحامي العراقي خميس العبيدي الذي اختطفه أفراد يرتدون زي الشرطة العراقية من منزله في حي الأعظمية في بغداد، حسب ما نقلت وكالة أسوشيتد برس، ليعثر على جثته بعد ذلك في مدينة الصدر. أضعفت مثل هذه الحالات مصداقية المحكمة، وجعلها تبدو وكأنها أداة للانتقام السياسي لا لتحقيق العدالة. صبّ هذا الاستهتار في مصلحة صدام حسين. فهذه الأحداث جعلت المحاكمة مسرحيةً هزليةً تفتقر لأبسط مقوّمات الإقناع.

أما آخر الجوانب التي حسمت المحاكمة لصالح صدام حسين، رغم الحكم عليه بالإعدام، فهي اقتصار المحاكمة على قضيةٍ واحدة وتجاهلها جرائم أخرى. فعبر التركيز على مذبحة الدجيل، ثبتت المحاكمة سردية أن الطائفة الشيعية في العراق كانت الضحية الوحيدة لنظام صدام، متجاهلةً أن بطش النظام طال جميع العراقيين. ارتكب نظام صدام حسين جرائم جسيمة، شملت الإبادة الجماعية ضد الأكراد واستخدام الأسلحة الكيميائية وقمع الانتفاضات الشعبية والتعذيب في السجون والإخفاء القسري. ولم يُعطَ ضحايا هذه الجرائم فرصةَ مقاضاةِ النظام. حرم التركيز على الدجيل الضحايا الآخرين من العدالة، وضيّع فرصة توثيقٍ شاملٍ لحجم الانتهاكات. فبدت المحاكمة محدودة وهشة، مقارنةً بحجم الجرائم المرتكبة في سنوات حكم صدام حسين الطويل.

رسّخ مقطع تنفيذ حكم الإعدام بصدام حسين فشل هذه المحاكمة عن الإرتقاء من مجرد كونها محض انتقام. فهو أُعدم يوم عيد الأضحى، في مخالفةٍ صريحةٍ للقانون العراقي الذي يمنع تنفيذ الأحكام في الأعياد. واختيار هذا اليوم فيه نزعٌ لإنسانية الجاني، وتقصُّدٌ لإهانته بتحويله لأضحية أخرى.

أما ثالثة الأثافي، فكانت ما دار بين صدام حسين ومعدميه الملثمين. فعندما قال صدام قبل إعدامه "الله أكبر عاشت الأمة وفلسطين عربية"، قال أحد الملثمين "إلى جهنم". أجابه صدام "إلى الجنة إن شاء الله فداءً للعراق". وعندما بدأ صدام بالنطق بالشهادتين، صاح من حوله مردّدين "مقتدى مقتدى"، في إشارة إلى مقتدى الصدر الذي كان حينها قائداً لإحدى الميليشيات الشيعية المنخرطة في الحرب الأهلية العراقية. لما سمع صدام اسم مقتدى كرّره هازئاً ثم قال: "هيه هاي المرجلة [. . .] مشنقة العار".

نجح صدّام في استغلال إشكاليات هذه المحاكمة. فحوّلها من مسرحٍ يعطي شرعيةً لإعدامه إلى مسرحٍ يجعله ضحيةً للاستعمار والانتقام الطائفي.


دخل ثوار سوريا دمشق وأسقطوا نظام الأسد وأنا أكتب هذه السطور. وفي غضون ساعات من انتصارهم، أعلنوا نيّتهم محاكمة الجهات المسؤولة عما حدث في سوريا من انتهاكات وجرائم في العقود السابقة. وأياً يكن مستقبل هذه المحاكمات، فلن تستطيع الإفلات من أشباح محاكمات نورمبرغ ومحاكمة صدام حسين. وهي أيضاً لن تستطيع الإفلات من جذورها الراسخة في الإيمان "القانونوي" الأمريكي الفريد من نوعه بالمحاكمة عمليةً تطهيرية وعادلة.

هذا الإيمان لا يؤدي بالضرورة لنتائج جيدة. فالطبيعة المسرحية المتطرفة لهذه المحاكمات يجعلها مساحاتٍ للتجريب والتعليم. في بعض اللحظات تتيح للمتظلمين استخلاص العدالة، مثلما حدث مع حركة الحقوق المدنية في الستينيات بالولايات المتحدة. وفي بعضها الآخر تفشل عن الإرتقاء من كونها مجرّد أداة انتقامٍ سياسي.

وإن كان هناك درس يمكن استخلاصه من هذه التجارب، فهو أن السياق السياسي وعدم التساهل والتهاون في الإجراءات القانونية التي تدار بها المحاكمة هي عناصر رئيسة في منحها الشرعية الضرورية التي تجعلها ترتقي عن كونها مجرد انتقام وتسهم في ترسيخ حكم القانون.

بلا هذين العنصرين، فإن أي محاكمات في سوريا ستنتهي غالباً إلى مأساة ومصيرٍ مشابه لمحاكمات صدام حسين. يجب أن تُجرى محاكمات المسؤولين السوريين بأقصى درجات الحذر، ومع أهدافٍ واضحة. خصوصاً أنها ستحاكم أجنحة نظام بشار الأسد على جرائم حدثت في سياق حربٍ ارتكب كلّ طرفٍ فيها فظائع ضدّ المدنيين.

إذا أجريت المحاكمات بطريقةٍ صحيحة ومدروسة، فقد توفِّر نموذجاً للعدالة يفسح المجال لفجرٍ جديدٍ لحكم القانون وشرعية القضاء السياسية في العالم العربي. أما إذا كانت مجرّد تخليص ثأر وتصفية حسابات، فيمكننا أن نرى مقاطع في المستقبل القريب تصوِّر جنرالات حزب البعث السوري أبطالاً. يجب أن يفكر في هذه المحاكمات في جانبٍ منها على أنها مسرحيات، ويجب أن تكون مسرحيات تليق باللحظة التاريخية الكبيرة التي تمرّ بها سوريا.

اشترك في نشرتنا البريدية