من التشريع إلى الواقع.. قراءة نقدية في قانون العنف ضد المرأة في الولايات المتحدة

رسم قانون مكافحة العنف ضد المرأة في الولايات المتحدة لسنة 1994 إطاراً قانونياً أساساً لحماية النساء. مع ذلك لم يخلُ من ثغراتٍ تنفيذيةٍ أعاقت إنجاز العدالة لجميع الفئات.

Share
من التشريع إلى الواقع.. قراءة نقدية في قانون العنف ضد المرأة في الولايات المتحدة
القانون وحده لا يكفي | تصميم خاص بالفراتس

تسلّلت أشعة الصباح من النوافذ الزجاجية منعكسةً على المقاعد المعدنية. في الخلفية أصوات كثيرة متداخلة، يمكنك أن تميز بينها كلمات عن "العنف" و"الحماية". وفي الصفوف تجلس الحاضرات، منهن من تحمل أوراقاً، ومن تنظر إلى المنصة كمن يستعد لاعترافٍ طويل. تبدأ المتحدثة الأولى بسرد قصتها. لا تقرأ نصاً مكتوباً، بل تغرف كلماتها من الذاكرة. تتوقف لتشهق نفساً عميقاً، ثم تكمل. 

بشهاداتٍ توالت على النمط نفسه تقريباً، افتتح المؤتمر السنوي الثالث للعنف الأسري، المقام في نيويورك بالتعاون بين وزارة العدل الأمريكية ومنظماتٍ مدنيةٍ شاركت في سَنّ قانون مكافحة العنف ضد النساء. وأقيمت هذه الدورة يوم 8 أكتوبر 2025، تحت عنوان "سبل الشفاء المستمرة". جمع المؤتمر ناجياتٍ من حوادث عنفٍ، وباحثاتٍ وصنّاع سياساتٍ، لإعادة التفكير في سبل التعافي وإنجاز العدالة لضحايا العنف القائم على النوع الاجتماعي. برز في جلسات المؤتمر نقاشٌ أوسع يدور منذ عقودٍ عن سؤال العدالة: هل يكفي القانون وحده لإنصاف النساء؟. 

أظهرت التجربة الأمريكية على مدى ثلاثين عاماً تلت إقرار قانون مكافحة العنف ضد المرأة سنة 1994 أن سَنّ التشريعات كان خطوةً ضروريةً لكنها لم تضع حداً للعنف ولم تنجز العدالة. فمع مرور الوقت تحوّل القانون إلى مرآةٍ تُظهر التفاوت في المجتمع الأمريكي، وتؤكد أن أيّ تشريعٍ – مهما بلغت قوّته – يظلّ منقوصاً إن عُدِمَت الأدوات المجتمعية لتطبيقه. 

جاء القانون ثمرةَ جهدٍ جماعيٍ قادته نساءٌ وناشطاتٌ في مكافحة الاعتداء الجنسي. وشاركت فيه أجهزة إنفاذ قانونٍ وسياسيون ومنظمات مجتمعٍ مدنيٍ بهدف بلورة إطارٍ تشريعيٍ يوفّر حمايةً حقيقيةً للنساء. وقبله لم يكن في الولايات المتحدة قانونٌ فيدراليٌ يكفل حماية النساء من العنف. وأسهم القانون منذ إقراره سنة 1994 في بناء منظومة دعمٍ متكاملةٍ، من بينها خطوط الطوارئ والملاجئ ودور الإيواء للنساء المعنَّفات، إضافةً إلى برامج تدريب العاملين مع ضحايا العنف. فضلاً عن ترسيخ قواعد أكثر صرامةً لمعاقبة مرتكبي جرائم العنف ضد النساء، ممّا أسفر عن انخفاضٍ ملحوظٍ في مستوياته. 

على ما نُسِب للقانون من نجاحاتٍ، أظهرت التجارب العملية وجودَ ثغراتٍ تنفيذيةٍ نَجَمَ عنها تضييق نطاق الحماية واستبعاد الفئات المهمشة، ومنهن نساءٌ من أصولٍ مهاجرةٍ كالعربيات المقيمات في الولايات المتحدة. وقد واجه القانون انتقاداتٍ لعدم اعترافه بالعنف الاقتصادي والنفسي شكلَيْن من أشكال العنف ضد المرأة. ما يُظهر أن التعويل على القانون وحده غير كافٍ لإنجاز العدالة للنساء. 


يُعَدّ قانون مكافحة العنف ضد المرأة نموذجاً لتشريعٍ تطوّر على مدى أعوامٍ من النقاش والجدل، ليبرز في مساره الصراعات التشريعية والتحولات الاجتماعية في الولايات المتحدة منذ تسعينيات القرن الماضي. بدأ العمل على إعداد القانون سنة 1990 بمبادرة النائب الديمقراطي جوزيف بايدن، الذي أصبح رئيساً للولايات المتحدة لاحقاً. قدّم بايدن وقتئذٍ مقترحاً أولياً للكونغرس لمعالجة العنف ضد النساء. وسرعان ما اتّسع النقاش ليشمل قضايا الوقاية وتوفير الخدمات، بالتعاون مع موظفي اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ.

بالتوازي مع ذلك، جمعت منظمةٌ باتت تحمل اسم "ليغَل مومِنتوم" (الزخم القانوني) خبراء ومنظماتٍ لتكوين فريقٍ لصياغة التشريع وتمريره. وتحوَّل هذا الائتلاف لاحقاً إلى "فريق العمل الوطني لإنهاء العنف الجنسي والعنف الأسري"، وهو تحالفٌ واسعٌ ومتنوعٌ لا يزال حتى اليوم يشارك في إعداد القانون وإقرار تمديد العمل به .

امتد مسار صياغة القانون وتمريره أربعة أعوامٍ بسبب حملةٍ معارضةٍ ضدّ بند الإنصاف المدني الذي يتيح لضحايا جرائم العنف القائم على النوع الاجتماعي مقاضاة المعتدين عليهم أمام المحاكم الفيدرالية. كانت حملة المعارضة بقيادة القاضي الأمريكي ويليام رينكويست، رئيس المحكمة العليا حينها. فقد زعم رينكويست أن هذا البند سيؤدي إلى تحول مسار أعدادٍ كبيرةٍ من النزاعات الأسرية من محاكم الولايات إلى المحاكم الفيدرالية، ما قد يثقل كاهل النظام القضائي. ولم تحظَ هذه المادة سوى بدعم الرابطة الوطنية للقاضيات، التي تعاونت مع موظفي اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ ومع منظمة "ليغَل مومِنتوم" لتنقيح الصياغة بما يقلّل من مخاوف المشرّعين والقضاة. أسهمت تلك التعديلات في إقرار القانون سنة 1994، على أن يخضع لمراجعة الكونغرس لتمديد العمل به مرّةً كلّ أربعة أعوامٍ بهدف تقييم فعاليته وتوسيع نطاقه عند الحاجة. 

كان صدور هذا القانون لحظةً مفصليةً في التاريخ التشريعي والاجتماعي للولايات المتحدة، حتى إن الرئيس بيل كلينتون عدّه من أهمّ إنجازات إدارته وركيزةً أساساً في سياسته الاجتماعية. روّج كلينتون القانونَ تحولاً تاريخياً في تعامل الحكومة الفيدرالية مع قضايا العنف الأسري. وخصصت الحكومة الفيدرالية مبلغ 1.6 مليار دولار على مدار خمسة أعوامٍ من تاريخ بداية العمل بالقانون لتعيين مزيدٍ من المدّعين العامّين وتدريب الشرطة والأطقم الطبية والاجتماعية للتعامل مع حالات العنف القائم على النوع الاجتماعي. المبلغ المخصص شمل أيضاً تمويل إنشاء الملاجئ ومراكز الاستشارات، وإطلاق خطٍّ ساخنٍ يعمل على مدار الساعة لتلقي شكاوى النساء وبلاغاتهن وطلباتهن الدعمَ. وخضعت هذه البرامج لتعديلاتٍ وإضافاتٍ متتابعةٍ في كلّ مرحلةٍ من مراحل تمديد العمل بالقانون، اتساقاً مع تحولات الخطاب السياسي داخل الولايات المتحدة.

عند إقرار القانون وسَرَيانه المرّةَ الأولى، مُنحت بعض برامجه ستّة أعوامٍ للتطبيق، ما أعفاه من الحاجة إلى التمديد بعد أربعة أعوامٍ كما يقتضي نصّ إنشائه. وأقرّ الكونغرس تمديد العمل بالقانون للمرّة الأولى (التجديد الأول) سنة 2000. وقتئذٍ اعتُمِدت آليّةٌ تهدف إلى مساعدة غير الأمريكيات المقيمات في الولايات المتحدة في الإبلاغ عن جرائم العنف، وذلك بمنحهن تأشيرة إذن عملٍ وإقامةً قانونيةً تتيح لهنّ بعد ثلاثة أعوامٍ التقدّمَ بطلب الحصول على الإقامة الدائمة. وتُمنح تلك التأشيرة لضحايا الجرائم الخطيرة، مثل الاتّجار بالبشر والعنف المنزلي، اللّاتي يتعاونّ مع الشرطة أو القضاء في التحقيقات. كذلك وسّع القانون نطاق الدعم بتمويل برامج الإيواء والملاجئ وخطوط الطوارئ، وتدريب عناصر الشرطة والمدّعين العامّين على التعامل مع قضايا العنف الأسري. وأصبحت ولاية القانون تشمل حالات العنف في العلاقات العاطفية خارج إطار الزواج وملاحقة النساء بغرض المضايقة أو التهديد. 

بعد مرور خمسة أعوامٍ جاء التمديد الثاني سنة 2005 مركّزاً على تعزيز الخدمات المقدّمة للمجموعات العرقية من غير البِيض وللمهاجرات والمنتميات للمجتمعات القبلية والسكان الأصليين. وأنشأ نصّ تمديد العمل بالقانون برامج جديدةً منها برنامج تدريب المحاكم وتحسينها وبرنامج الشهود الأطفال وبرامج ثقافيةٌ متخصصةٌ في التوعية بالعنف الأسري.

ولم تظهر تحدياتٌ كبرى أمام القانون إلا مع انتهاء فترة التمديد الثانية تلك سنة 2011، حين شهد القانون انقساماً على بعض بنوده بين الديمقراطيين والجمهوريين. وعليه لم يكن التجديد اللاحق سنة 2013 مجرد محطةٍ تشريعيةٍ لتمديد العمل بالقانون، بل مثّلت حلقةً مفصليةً في تاريخ القانون. 

تركّز الخلاف حول الفئات التي يشملها نطاق الحماية. إذ أضافت نسخة القانون المقترحة سنة 2012 بنوداً تمنع التحيّز ضد الأفراد على أساس الهوية أو التوجّه الجنسيَّيْن، ما أثار اعتراضات بعض المشرّعين المحافظين الذين رأوا في المواد المقترح إضافتها تجاوزاً لنطاق القانون الأصلي. أعطت البنود الإضافية المقترحة كذلك صلاحياتٍ خاصةً للمحاكم القبلية للسكان الأصليين تمنحها الحقّ في محاكمة من لا ينتمون إليها في جرائم العنف المنزلي الواقعة على أراضيهم، ما عدّه أعضاءٌ جمهوريون في مجلس الشيوخ تجاوزاً للولاية القضائية الفيدرالية. عدا عن ذلك، أضيفت موادّ تسمح بتسهيل الحصول على تأشيراتٍ للمهاجرات الناجيات من العنف، وهو ما أثار خلافاً بين الحزبين بدعوى أن ذلك قد يستخدم للتحايل على قوانين الهجرة. وبعد أكثر من عامين من الجدل، أُقرّ القانون المُعدَّل في مارس سنة 2013 بأغلبيةٍ ضئيلةٍ في مجلس النوّاب، بواقع 286 صوتاً مقابل 138.

شهد القانون حزمةً من الإصلاحات المفصلية في نسخة 2022 المصوَّت عليها لتمديد العمل به. وجاءت التعديلات في ولاية الرئيس السابق جو بايدن الذي كان أوّل من تبنّى القانون ووضع نصّه الأول حين كان نائباً. وسّعت التعديلات الجديدة من الولاية القضائية الخاصة بالمحاكم القبلية لتشمل الجناة من غير السكان الأصليين في جرائم الاعتداء الجنسي والعنف ضد الأطفال والملاحقة والاتّجار الجنسي والاعتداء على موظفي إنفاذ القانون القبلي. وزادت التعديلات من الخدمات والدعم المقدمة لضحايا العنف من الفئات المهمّشة، بما في ذلك ذوو الهويات الجنسية المتنوعة. وخصصت إدارة بايدن مليار دولارٍ إضافياً لزيادة تمويل خدمات العنف الأسري والاعتداء الجنسي، بينها 49.5 مليون دولارٍ للمنظمات الثقافية والمجتمعية التي تخدم الفئات المهمّشة، إضافةً إلى سبعين ألف قسيمة سكنٍ، وهو دعمٌ مادّيٌ موجّهٌ لمساعدة الناجين من العنف والاتّجار بالبشر لمساعدتهم في الحصول على سكنٍ مستقلّ.


أحدث القانون انعطافاً في التعامل مع العنف القائم على النوع الاجتماعي في الولايات المتحدة. وتجسدت هذه التحولات في الممارسات والقوانين المحلية، إذ سنّت جميع الولايات الأمريكية قوانين تجرّم ملاحقة النساء، وعزّزت قوانين تجريم الاغتصاب لتصبح أكثر صرامةً في معاقبة مرتكبيها. وقد ترجمت الأرقام هذه النجاحات، إذ لم تقتصر نتائج القانون على الإصلاحات التشريعية فحسب، بل أظهرت تراجعَ معدلات العنف ضد النساء في الولايات المتحدة من 16.1 في المئة سنة 1994 – عام بدء تطبيق القانون – إلى 9.6 في المئة سنة 2024. لكن هذا التراجع لم يكن بمعدلاتٍ منتظمةٍ طوال مدّة التطبيق، لِما واجه القانون من عراقيل وخلافاتٍ قانونيةٍ بين المحافظين والليبراليين في كلّ مرّةٍ يجدد فيها العمل بالقانون.

الحقبة الأهمّ في تأثير القانون على تراجع معدلات العنف كانت ما بين 1993 و2008، إذ رصد مكتب إحصاءات العدالة الأمريكي تراجعاً في جرائم العنف ضد النساء بنسبة 53 بالمئة. فقد انخفضت المعدلات من 9.4 حالة عنفٍ لكلّ ألف أنثى تبلغ من العمر اثني عشر عاماً أو أكثر إلى 4.3 حالة. أما جرائم القتل التي يرتكبها الشريك، زوجاً أو خديناً، ضد النساء فقد انخفضت بنسبة 26 بالمئة، بين 1993 و2007. ورصدت دراسةٌ صادرةٌ عن جامعة كنتاكي حينذاك أن الإبلاغ عن جرائم العنف من الشريك ارتفع بنسبة 51 بالمئة بعد تطبيق قوانين الاعتقال الإلزامي التي نصّ عليها القانون. وانخفض العنف غير المميت ضد الشريكات بنسبة 63 بالمئة، والعنف المميت انخفض بنسبة 24 بالمئة. 

بالتوازي مع الجهود الحكومية ساهمت مؤسسات المجتمع المدني في تقييم أثر القانون ورصد نتائجه على أرض الواقع. فقد عملت هذه المؤسسات على جمع البيانات وتحليل فعالية الخدمات المقدمة للنساء المتضررات من العنف، كالعنف الأسري وانتهاكات أصحاب العمل أو عناصر الشرطة. ساهمت هذه الجهود في توثيق تحسّن الوصول إلى خدمات الدعم، وزيادة معدلات الإبلاغ عن الجرائم، وتعزيز حماية النساء والفئات الأكثر هشاشة. وأظهرت المتابعات الدورية لمنظمات المجتمع المدني أن تطبيق القانون أدّى إلى انخفاض حالات العنف وتحسّن قدرة المجتمعات على الاستجابة للطوارئ.

وفي الجلسة العامة للمؤتمر السنوي للجرائم الواقعة على النساء (أنيوال كونفرنس أون كرايمز أغينست ويمِن) التي أقيمت في يناير 2024، بعنوان "ثلاثون عاماً من قانون العنف ضد المرأة: الصمود، التوسع، والعصر الجديد"، اجتمع عددٌ من خبراء مواجهة العنف القائم على النوع الاجتماعي لمناقشة أثر القانون وتحولاته في العقود الثلاثة الماضية. ووجدوا أن القانون أسهم في تعزيز الاستجابات العلمية والمؤسسية لمكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي. وساهم في توسيع نطاق الحماية ليشمل المهاجرات وضحايا الاتجار بالبشر، وفقاً لأنجيلا مور، المستشارة العلمية الأولى في المعهد الوطني للعدالة. وأضافت مور في مداخلتها أنه مع كلّ تجديدٍ للعمل بالقانون كان يوسّع نطاق عمله في قضايا متعددةٍ، مثل معالجة أنماط العنف المتكررة، وتعزيز استخدام الحمض النووي في التحقيقات، وملاحقة الجريمة الإلكترونية. في المقابل ترى روزي هيدالغو، مديرة مكتب العنف ضد المرأة، أن من أبرز إنجازات القانون تعزيزَ البحث العلمي الذي ساهم في تحويل قضية العنف ضد النساء من شأنٍ خاصٍّ إلى مسألةٍ عامةٍ، تُعالج بسياساتٍ مدروسةٍ وتمويلٍ حكوميّ. وأوضحت أن نحو ثمانين منظمةً في الولايات المتحدة تعمل اليوم على نتائج الأبحاث الممولة ضمن برامج القانون لتدريب الأطقم المساعدة وتقديم الخدمات. 


مع النجاحات العديدة المنسوبة للقانون، إلّا أن قدرته على إنجاز العدالة للنساء ظلّت موضع جدل. وفي هذا السياق برزت رؤيتان مثّلتا محور النقاش النسوي القانوني في الولايات المتحدة.

من ناحيةٍ ترى كاثرين ماكينون، أستاذة القانون والمنظرة النسوية البارزة، التي عُرفت بإسهامِها في صياغة قوانين مكافحة التحرش والتمييز القائم على النوع الاجتماعي، أن القانون يمكن أن يكون أداة تحرّرٍ إذا أعيدت صياغته من منظورٍ نسويّ. مضيفةً أن القانون "قد يبدو محايداً في ظاهره، إلا أنه في الواقع يعكس علاقات قوّةٍ غير متوازنةٍ بين الرجال والنساء". وتؤكد ماكينون أن القانون ليس مشكلةً على حدّته، بل يمكن أن يكون جزءاً من الحلّ، شريطة إعادة تعريف مفاهيم التحرش والاعتداء بناءً على تجارب النساء الحقيقية، لا من المعايير الذكورية.

من الناحية المقابلة ترى مارثا فينمان، الفيلسوفة القانونية والأستاذة في جامعة إيموري، أن المشكلة أعقد من أن يحلّها القانون. تعتقد فينمان أن التركيز المفرط على التشريع أداةً مركزيةً لمواجهة العنف ما هو إلا إعادة إنتاج الظلم، لأن القانون يقوم على فرضية استقلالية الأفراد متجاهلاً هشاشة النساء والقيود الاجتماعية والسياسية التي تجعلهن عرضةً للسيطرة والاستغلال. لذلك ترى أن إصلاح القانون وحده لا يكفي، إنما الهدف إعادة بناء مؤسسات الرعاية والدعم الاجتماعي حتى لا تختزل العدالة في المحكمة، بل تمتد إلى بنية المجتمع نفسه.

في بحثها "ريب ريديفايند" (إعادة تعريف الاغتصاب) المنشور بمجلة "هارفارد لو بولسي ريفيو" (هارفارد للقانون والسياسات العامة) سنة 2016، ترى ماكينون أن الاتفاقيات الدولية تشير إلى أن العنف ضد النساء، بما في ذلك الاغتصاب، انتهاكٌ لحقوق الإنسان وشكلٌ من أشكال التمييز القائم على النوع الاجتماعي. ولكن مع هذا التقدم الكبير دولياً إلا أن القوانين المحلية في معظم الدول لم تصل بعد إلى هذا الفهم، إذ تتعامل مع الاغتصاب جريمةَ عنفٍ جنسيٍّ أو اعتداءٍ فرديٍّ، وليس انعكاساً للعلاقة غير المتكافئة بين الرجال والنساء.

تصف ماكينون القانون المحلي بالولايات المتحدة الأمريكية بأنه لا يزال بعيداً عن إدراك الحقائق التي أثبتتها التجارب، فلم يعرّف الاغتصاب بطريقةٍ توضح أنه نتاجٌ لعدم المساواة في النوع، و"لا يزال يعتمد على مفاهيم قديمةٍ مثل الرضا والإكراه التي تبرّئ المعتدين وتُحمّل الضحايا مسؤولية أفعال من اعتدوا عليهم". في المقال نفسه كتبت ماكينون أن القانون كما هو مطبّقٌ، يَفترض أن العلاقات الجنسية متكافئةٌ وأن كلّ الأطراف تحظى بحرّية الرفض. لكن الواقع مختلف، فكثيرٌ من النساء لا يمارسن هذا الحقّ بسبب تبعات الرفض الاجتماعية، وعلى رأسها العنف أو فقدان العمل. وفي المقابل، لا يعترف النظام القانوني بالظروف التي تَحُول دون الرفض. وتشير إلى أن الإكراه يُفهَم في القانون على نطاقٍ ضيّقٍ، إذ يحدّده استخدام القوّة البدنية مباشرةً أو التهديد بالعنف. لكن الإكراه يتجلّى في الواقع بعدّة أشكالٍ نفسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً.

تشرح ماكينون في بحثها أن القانون في صيغته الأولى أتاح للنساء رفع دعاوى مدنيةٍ على المعتدين بوصف ما ارتُكب بحقّهن انتهاكاً لمبدأ المساواة. وهو ما رأت فيه ماكينون خطوةً نحو تحويل العدالة من فكرةٍ مجرّدةٍ إلى ممارسةٍ تعترف بعدم توازن القوة بين الرجال والنساء. لكنها عادت لتنتقد التراجع الذي حدث لاحقاً حين ألغت المحكمة العليا هذا البند المدني (بند التقاضي) في سنة 2000، بعدما رفعت سيدةٌ إلى المحكمة الفيدرالية دعوىً باغتصابها في محلّ عملها في معهد فيرجينيا للفنون التطبيقية. رأت المحكمة العليا حينئذٍ أن هذا النوع من الجرائم شأنٌ محلّيٌّ ضمن حدود حكومة الولاية، وليس ضمن صلاحيات الحكومة الفيدرالية. صارت هذه سابقةً قضائيةً ألغت المحكمة العليا بموجبها بند التقاضي المدني، وهو القرار الذي كشف عن محدودية التزام النظام القضائي الأمريكي بفهم العنف ضد المرأة، واعتباره قضية مساواةٍ بين الجنسين.

في المقابل تعرض فينمان رؤيةً مختلفة. فبينما تنظر ماكينون إلى القانون أداةً يمكن تسخيرها لمواجهة العنف والتمييز بتطوير التشريعات وتوسيع نطاق الحماية، ترى فينمان أن القانون نفسه جزءٌ من المنظومة التي تنتج اللامساواة. الإصلاح الحقيقي من وجهة نظر فينمان لا بدّ أن يكون تحولاً بنيوياً يعيد صياغة النظام القانوني كاملاً، ويعكس التجارب الإنسانية المختلفة، ويعيد توزيع مفاهيم الحماية والمسؤولية على أسسٍ اجتماعيةٍ تراعي الفروق النوعية بدلاً من إنكارها. 

في بحثها "فيمنست ثيري إن لوذا ديفرنس إت ميكس" (النظرية النسوية في القانون: الفرق الذي تُحدِثه)، الذي نشر سنة 2005 في مجلة "كولومبيا جورنال أوف جندر آند لو" (كولومبيا لدراسات النوع والقانون)، ترى فينمان أن المساواة التي دافعت عنها موجات النسوية الأولى لم تكن كافيةً لإنجاز العدالة الفعلية. فالقانون – في رأيها – صيغ في البداية على صورة الرجل المستقل القادر على العمل والمشاركة في المجال العامّ، متجاهلاً واقع النساء اللاتي يتحمّلن أعباء الرعاية والعلاقات الاجتماعية التي تقوم على الاعتماد المتبادل.


تتواصل التساؤلات عن فعالية القانون نظرياً وعملياً على حدٍّ سواءٍ، إذ تظهر تحدياتٌ حقيقيةٌ تعيق إنجاز العدالة للنساء، خاصةً الفئات الأكثر هشاشةً بينهن.

فمع احتواء القانون على نصوصٍ شملت حماية المهاجرات وأصحاب الهويات الجنسية المختلفة، إلّا أن المعطيات العملية تشير إلى واقعٍ مغاير. وفقاً لتقرير نشره موقع "ذا ناشيونال" بعنوان "كيف خذل قانون العنف ضد المرأة النساءَ" سنة 2021، تواجه النساء ذوات البشرة الداكنة ممّن يطالهنّ العنف حواجز متداخلةً في الحصول على الحماية والمساعدة. تجمع تلك الحواجز بين فقدان الثقة في الشرطة ومقدمي الخدمات نتيجة تراكم عقودٍ من الانحياز والتمييز السلبي ضد أعراقهن. وهو ما ينطبق على المهاجرات وكلّ من لا يندرج ضمن صورة "الضحية المناسبة المتخيَّلة"، وهو مصطلحٌ سياسيٌ يستخدم للدلالة على انتخاب مقدمي الدعم والخدمات من هو جديرٌ بالحصول على الدعم والتعاطف بناءً على محدداتٍ عرقيةٍ أو جنسيةٍ أو دينيةٍ أو سلوكيةٍ معيّنة. كذلك تُبلِغ كثيرٌ من النساء عن تجارب إقصاءٍ وعداءٍ وسخريةٍ حين يسعين لطلب المساعدة من ملاجئ العنف المنزلي أو الشرطة وخطوط المساعدة، وهي المؤسسات نفسها التي يوكل إليها القانون مهمة مساعدتهن.

ثمّة انتقاداتٌ أخرى تُعدّدها الباحثة أليز فاي هوغن في بحثٍ نشرته المجلة القانونية "ذا سكولار" سنة 2012 بعنوان "كيف يُخفق قانون العنف ضد المرأة في حماية النساء". تركّز الباحثة انتقاداتها على أوجه القصور في ملاجئ الطوارئ والإسكان الانتقالي، الذي يعدّ من أكثر الخدمات طلباً من الضحايا، لكنها الخدمة التي تلقى أقلّ معدل استجابةٍ من الجهات المعنية بإنفاذها. تقول الباحثة إن القانون حيناً بعد حينٍ خفّض برامج دعم الإسكان والملاجئ للسيدات، في مقابل توجيه الموارد لبند الوقاية، ومنها حملات التوعية والتثقيف. لهذا تجد نساءٌ كثيراتٌ أنفسهن إزاء خيارين، إما البقاء تحت سقفٍ واحدٍ مع الشخص المعنِّف، أو الهروب لمكانٍ آخَر. غالباً يكون هذا المكان إما ملاجئ الناجيات من العنف المنزلي، أو الدعم الذي يقدم عبر برنامج "السكن الانتقالي"، وهو برنامجٌ يتيح للمستفيدات منه السكن لمددٍ تتراوح بين ستة أشهرٍ إلى عامين، خلافاً للملاجئ الطارئة التي لا تتجاوز مدّة الإقامة فيها ستة أشهر. ويضمن برنامج السكن الانتقالي للمستفيدات منه الحصول على تدريبٍ للوظائف وخدماتٍ نفسيةٍ وعلاجيةٍ تساعد الناجيات على بناء حياتهن والاعتماد على أنفسهن بنهاية البرنامج. 

غير أن الموارد المحدودة والاكتظاظ يَحُولان دون استقبال جميع الحالات سواءً في برنامجَي الملاجئ الطارئة أو السكن الانتقالي. لهذا تلجأ نساءٌ عديداتٌ اضطراراً إلى ملاجئ المشردين، لكنهن يواجهن عراقيل تنظيميةً لأن تعريف المشرّدين لا يشملهن.

تخوض النساء اللاتي يسعين للحصول على ملجأٍ بموجب قانون العنف ضد المرأة سلسلةً من الإجراءات المعقدة. تبدأ عادةً بالتواصل مع خطوط الاتصال بالملاجئ لسرد الحالة والتحقق من توافر أماكن. وإن لم تتوافر أماكن، فيُفترض أن يعرض العامل على الخط إحالاتٍ تساعد المتصلةَ على اتخاذ خطواتٍ لتخفيف الخطر. ومع ذلك تُترك كثيراتٌ بلا سكنٍ آمن. وأحياناً تكون الضحية في خطرٍ داهمٍ وتحتاج لتدخلٍ عاجل. في المقابل وبحسب هوغن، استمر الكونغرس في خفض تمويل خدمات الإسكان مع أن السكن الآمن حاجةٌ فورية. فمن 1996 وحتى 2000 خُصّص للقانون ما لا يقلّ عن 50 مليون دولارٍ سنوياً للإسكان. ثم زاد المبلغ إلى 175 مليون سنوياً من 2000 إلى 2005. ولكن في 2005 لم يجدّد بند خدمات الملاجئ، وأدرج نصّ تجديد العمل بالقانون تمويلَ الملاجئ بِاسم منحٍ تعاونيةٍ لتطوير إسكانٍ طويل الأمد للضحايا، ما خفّض تمويل الملاجئ المباشر من 175 مليون دولار سنوياً إلى لا شيء. 

على ما مرَّ به القانون من تطوراتٍ تشريعيةٍ ومؤسسيةٍ، ما زالت فجوة الإبلاغ عن الجرائم تحدياً جوهرياً. وهذه دلالةٌ على أزمة الثقة والتواصل بين الضحايا وأجهزة إنفاذ القانون. وتفصح هذه الفجوة عن نفسها في البيانات الحديثة، حيث أظهر تقرير المسح الوطني لضحايا العنف المنزلي لسنة 2023، الصادر عن مكتب إحصاءات العدالة التابع لوزارة العدل الأمريكية، أن هناك تراجعاً في الإبلاغ عن حوادث العنف المنزلي مقابل عدد الجرائم المرصودة. فبحسب نتائج المسح، لم تُبلَغ الشرطة بنحو نصف حوادث العنف التي مورست على الأفراد داخل الأسرة أو مِن الشركاء. فلم يُبلَغ عن 53 بالمئة من حوادث عنف الشريك، و52 بالمئة من حوادث العنف المنزلي عامةً. 


تجارب النساء تترجم تلك الفجوات على أرض الواقع، كما حدث مع سمر عبد الله، التي انتقلت رفقة زوجها من مصر إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2021. كانت وجهة الزوجين الأولى مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس حيث بدأت الخلافات. التقت الفراتس سمر وتحدثت معها عن التجربة وآثارها. فشرحت أنه مع بداية الخلافات كان زوجها يُقدِم على أفعالٍ تندرج تحت مظلّة العنف النفسي والاقتصادي، مثل التوبيخ واللوم أو الحرمان من الموارد المالية. لكنها لم تدرك حينئذٍ أن ما يمارَس عليها يعدّ شكلاً من أشكال العنف. وتَلاعَب الزوجُ محاولاً إيهامَها بأن مشاعرها وتجاربها غير حقيقية.

بعد أشهرٍ قليلةٍ انتقلت سمر مع زوجها إلى ولاية تكساس في رحلة عملٍ قصيرة. هناك تصاعدت الخلافات وتحول العنف من مجرد إيذاءٍ لفظيٍّ إلى اعتداءاتٍ جسدية. تقول سمر إنها سِيمَت الضربَ والعنفَ اللفظيَّ وتحطيمَ هاتفها المحمول، لتجد بعد ما يقرب من ساعةٍ ضابط شرطةٍ يطرق الباب، بعدما اتصل أحد الجيران بخطّ اتصالات الطوارئ. وصلت الشرطة واستمعت لأقوال الطرفين. حاول الزوج إنكار ما جرى، في حين بدت الزوجة في حالة خوفٍ واضحة. لينتهي الموقف بتوثيق محضرٍ رسميٍ لدى الشرطة. تقول سمر: "أخبرني الضابط أنه من الأفضل أن أذهب لمكانٍ آخَر آمنٍ، لكنه لن يستطيع توفير المكان لأن إقامتنا تابعةٌ لولايةٍ أخرى. أخبرتُه أنني لا أملك المال ولا أعرف أيّ أحدٍ في هذه الولاية ولا حتى أجيد اللغة الإنجليزية. لكنه قال إنه لا يستطيع اتخاذ أيّ إجراءٍ سوى تسجيل المحضر فقط. وعليه فالمفروض أن أتّجه لولاية ماساتشوستس وأحرّر بها محضراً آخَر وهناك يستطيعون حمايتي". لم تخضع سمر لفحصٍ طبّيٍ لآثار العنف، ولم يُعرض عليها أيّ دعمٍ طبّيٍ أو نفسيّ. واكتفت الشرطة بتدوين أقوال الطرفين فقط.

في الأيام التالية تلقّت سمر اتصالاتٍ متكررةً من أصدقاء زوجها يحثّونها على العودة إلى مصر، في حين كان زوجها يبلغ أسرتها بمصر بأنها متغيبةٌ عن المنزل لا يعرف مكانها. زاد ذلك من مخاوفها، فذهبت إلى قسم الشرطة. المترجم الذي استعانوا به لم ينقل كلماتها بدقّةٍ كما قالت، ولم يصوّر حجم الخطر الذي كانت تشعر به. كان الردّ كما في المرّة السابقة، أن عليها العودة إلى الولاية التي صدرت منها إقامتها لتتابع المسار القانوني. قضت سمر ثلاثة أيامٍ في المطار غير قادرةٍ على شراء تذكرةٍ إلى بوسطن أو حتى العودة إلى مصر. وبعد عدّة محاولاتٍ واتصالاتٍ مع جامعة "إم آي تي" حيث يدرس زوجها، ساعدتها الجامعة في حجز تذكرة العودة إلى بوسطن. لم تتوقف التهديدات غير المباشرة من زوجها، واستمرت الاتصالات من أصدقاء الزوج. ومع رفض الزوج تطليقها وإصراره على أنه وحده من يملك القرار، قرّرت سمر اللجوء للمحكمة وطلب أمر حماية. وهو أمرٌ تصدره المحكمة لإبعاد الطرف المعتدي عن الطرف المعتدى عليه. قضت سمر فترةً في منزل طوارئ تابعٍ للجامعة. ثم انتقلت إلى نيويورك قبل أن تسافر إلى دبي لحضور تدريبٍ، ومن هناك حصلت على فرصة عملٍ في الأمم المتحدة مكّنتها من العودة إلى الولايات المتحدة بتأشيرة عملٍ منفصلةٍ عن تأشيرة زوجها.

في مشهدٍ يلخّص الثغرات التي تعاني منها منظومة العدالة في قضايا العنف الأسري داخل الولايات المتحدة، تقول سمر إن الأحداث بدأت في يوليو سنة 2022، وفي أكتوبر من العام نفسه علمَت أنها طُلّقَتْ غيابياً في مصر. في التوقيت نفسه رفع طليقها دعوىً عليها في الولايات المتحدة بزعم أنها لا تحمل إقامةً شرعيةً، جاهلاً أنها عادت بتأشيرةٍ جديدة. استمرت القضية سبعة أشهرٍ لكن المحكمة برّأتها. ليعاود الزوجُ رفع قضيةٍ ثانيةٍ ضدّها فيتّهمها بسرقة أموالٍ من بطاقاته البنكية. لم تكن سمر قادرةً ماليّاً على تعيين محامٍ حينئذٍ، فتولّت أمر الدعوى بنفسها حتى برّأتها المحكمة مرّةً ثانية. لكن الزوج رفع قضيةً ثالثةً بالادعاءات نفسها التي برّأتها منها المحكمة مرّتين متتاليتين. تقول سمر أنها لم تُبلّغ بالقضية الثالثة بأيّ وسيلةٍ، لتُفاجَأ بأن المحكمة أسقطت عنها أمر الحماية الصادر سابقاً، وحوّلتها من ضحيةٍ إلى متهمة.

لفهم السياق القانوني والاجتماعي للعنف الأسري التقت الفراتس بيكي لي، مؤسِّسة منظمة "بيكي فاند" ومديرتها، المهتمة بحقوق النساء داخل الولايات المتحدة الأمريكية. تقول بيكي إن من أبرز الفوارق بين الولايات المتحدة وغيرها من الدول طريقة تعريف العنف الأسري والتعامل معه. ففي الولايات المتحدة يُعَدّ قضيةً خاصةً تعالَج ضمن القضاء المدني والجنائي، في حين تعدّه كثيرٌ من الدول الأخرى انتهاكاً لحقوق الإنسان. أيضاً من التحديات الكبرى التي لفتت إليها بيكي اختلاف تعريف العنف الأسري والعنف عامةً ضد المرأة بين القوانين الفيدرالية وقوانين الولايات. فكلّ ولايةٍ لها قواعد وتعريفاتٌ خاصةٌ بها، ما يجعل المتابعة القانونية والحصول على الحماية صعباً عند انتقال الضحية من ولايةٍ إلى أخرى، كما في حالة سمر. وترى بيكي أن أهمّ العقبات في معالجة العنف الأسري ضعف التواصل والتنسيق بين الأنظمة المختلفة مثل الشرطة والمعالجين النفسيين والمناصرين. ما يؤدّي إلى جهودٍ متفرقةٍ بدلاً من نهجٍ مساءلةٍ موحّدٍ، وهذا يحدّ من فعالية التدخلات والدعم المقدم للناجيات.

لم تقتصر الفجوات على البنية القانونية فحسب، بل امتدت لتشمل واقع الناجيات ومعاناتهن اليومية. عدّدت بيكي الأسباب التي تدفع الناجيات إلى البقاء رهن علاقاتٍ عنيفةٍ، ومن ذلك نقص المساكن الآمنة أو أماكن الإيواء، خاصةً لمن لديهن أطفال. ولفتت إلى ظاهرة العنف بعد الانفصال، إذ تضطر الأمهات إلى التواصل مع المعتدين بشأن حضانة الأطفال. وغالباً ما يكون وقت تسليم الأطفال هو الأخطر، إذ ترتفع احتمالات القتل أو اختطاف الأطفال. ويعزّز من احتمالات استمرار التعرض للعنف ضرورة إثباته أمام المحكمة. ويتطلب هذا أدلّةً مادّيةً، ما يصعب مناله في حالات العنف النفسي أو العاطفي. فيما لا تستمع المحاكم للطرق البديلة لإثبات الأثر، مثل فواتير العلاج النفسي أو زيادة النفقات المعيشية بعد مغادرة العلاقة العنيفة لتوضيح التكلفة العاطفية والمادية التي تتحملها الناجية، بدلاً من الاقتصار على الأدلة الجسدية.

لا يمكن إنكار أن قانون العنف ضد المرأة الصادر في 1994 يعدّ انتصاراً للنساء بحسب بيكي، لكنها في المقابل أوضحت أن أولوية الحكومة في التصدي للعنف القائم على النوع الاجتماعي تتغير تبعاً للإدارة السياسية. مشيرةً إلى أن الأيام الحاليّة التي يقودها الرئيس دونالد ترامب، "تمثل واحدةً من أسوأ الفترات التي تحمل ثقافةً أبويةً وتراجعاً في حقوق النساء". إذ شهدت بعض النصوص تراجعاً غير مباشرٍ ظهر في تقليص برامج الرعاية الصحية وبرامج الدعم الغذائي، وهي من أكثر البرامج التي تعتمد عليها النساء في المجتمعات محدودة الدخل، إذ يصل أثرها لحماية الأطفال، خاصةً عندما تكون الأمّ هي عائلهم الوحيد. كذلك توسعت صلاحيات سلطات إنفاذ الهجرة والتوقيف، ما قد ينعكس على النساء المهاجرات، خصوصاً اللاتي يطالهنّ العنف أو يعتمدن على هذه الخدمات الاجتماعية في الحماية والدعم. 

يضاف إلى هذا نقص تمويل البرامج والمنح الموجهة للنساء، ما يبعث رسالةً غير مباشرةً بأن قضايا النساء ليست أولوية. أشارت بيكي إلى أن التمويل يمثل تحدياً كبيراً في مكافحة العنف الأسري، فأثناء جائحة كورونا، ارتفعت معدلات العنف في حين خُفّض تمويل البرامج الفيدرالية والمنظمات الصغيرة كالملاجئ وخطوط اتصالات الطوارئ. في حين أن الخدمات الأساسية لا يمكن أن تعمل بفاعليةٍ من دون تمويلٍ كاف.

من المزايا التي يروّج لها البعض في قانون العنف ضد المرأة تأشيرات الإقامة للمهاجرات اللاتي يطالهنّ العنف. إذ تتيح لهن الحصول على إقامةٍ قانونيةٍ في الولايات المتحدة بشرط تعاونهن مع الشرطة والجهات التنفيذية. لكن بيكي ترى أن هذه الميزة تحمل وجهاً آخَر من التعقيد. تقول: "ربما يبدو الأمر إيجابياً، لكن يمكننا النظر في عدد المتقدمات لهذه التأشيرة ومقارنته بعدد من يحصلن عليها فعلياً كلّ عام". وتشير إلى أن هذا يحدث في حين تشتدّ سياسات ملاحقة المهاجرين داخل الولايات المتحدة الأمريكية، قائلةً: "كيف يُطلب من شخصٍ تعرّض للعنف أن يتعاون مع جهاتٍ لا يثق بها من الأساس، وقد تكون هي نفسها أول الجهات التي تسعى إلى ترحيله خارج البلاد؟".

يحدد القانون الأمريكي سقفاً سنوياً لا يتجاوز عشرة آلاف تأشيرة. وهو رقمٌ ثابتٌ منذ إقرار البرنامج سنة 2000 ولم يُرفع رغم تضاعف الطلبات. وفقاً لبيانات مصلحة خدمات الهجرة والجنسية الأمريكية، بلغ عدد المتقدمين الجدد في سنة 2023 نحو 16315 شخصاً، بينما لم يبتّ سوى في 8432 طلباً بالموافقة، في حين وصل عدد الملفات المعلّقة إلى 195000 حالة.


تكشف التجربة الممتدة على مدى ثلاثة عقودٍ من تطبيق قانون مكافحة العنف ضد المرأة في الولايات المتحدة أن كلا طرفي النقاش مُحقّ. القانون كان خطوةً فارقةً في الاعتراف بالعنف جريمةً عامةً لا تنحصر في المجال الخاص، لكنه في الوقت نفسه ظلّ أداةً محدودة الأثر حين طُبّق في إطارٍ حكوميٍ معقّدٍ أو جنائيٍ ضيّقٍ لا يراعي الفروق الاجتماعية والاقتصادية والعرقية بين النساء.

ما أثبتته الممارسة أن القانون يمكن أن يكون فعّالاً فقط حين يرتبط بتنفيذٍ عادلٍ وشامل. فيضمن المساواة في الوصول إلى الخدمات القانونية والاجتماعية، ويوسّع مفهوم الحماية ليشمل أشكال العنف غير الجسدي والنفسي والاقتصادي. كذلك لا بدّ من إغلاق الثغرات التي تُستغلّ ضدّ الضحايا، سواءً في المحاكم أو في أجهزة إنفاذ القانون.

أثبتت التجارب أن القانون وحده لا يكفي إن لم يصاحبه وعيٌ مجتمعيٌ ومؤسسات دعمٍ حقيقية. وتبقى المبادرات المجتمعية محدودةَ التأثير بلا سندٍ قانونيٍ واضحٍ يُلزِم الدولة وأجهزتها بالحماية. مواجهة العنف ضد النساء لا يمكن أن تتحقق من نصوصٍ تشريعيةٍ فقط أو حملات توعيةٍ مؤقتةٍ، بل بالتفاعل بين الإطار القانوني والواقع الاجتماعي، حتى يصبح القانون انعكاساً لوعي المجتمع.

اشترك في نشرتنا البريدية