طرحت أحداث السويداء و"الفزعات العشائرية" أسئلةً عن أدوار البُنى الاجتماعية السورية وعلاقاتها مع بعضها، وتأثيرها على العقد الاجتماعي ودور الدولة نفسها. تزداد أهمية هذه الأسئلة في وقتٍ تمر فيه البلاد في سياقٍ انتقاليٍ حسّاس في سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، إذ يبدو أن الروابط الوطنية تتفكك لصالح أمن الجماعات وتماسكها. فتتحوّل الطائفة والعشيرة إلى غطاء وإطار للعنف، فيما تغيب الدولة وتنخرط السلطة في دورات عنفٍ متعاقبة ضمن ظروف مختلفة، شهدت بروز فاعلين محليين في أطراف البلاد أثّروا على معادلات السياسة في المركز الناشئ.
مثَّلت حالة العبور العشائري على صورة "فزعات" وحشود عسكرية من مناطق سورية مختلفة باتجاه محافظة السويداء ظاهرةً استثنائية، ليس على مستوى تفاعل البُنى القبلية والعشائرية في الثورة فحسب، وإنما في التاريخ السوري المعاصر. إذ كسرت "الفزعات العشائرية" حدود الجغرافيا والاجتماع التقليدي للقبائل والعشائر السورية. وتحوّلت امتداداتها العابرة المناطق من طابعها الاجتماعي والثقافي إلى فعلٍ سياسي وعسكري.
يطرح هذا الاستثناء سؤالاً رئيساً عن المتغيرات التي طرأت على نمطٍ من الصراع طالما كان محصوراً في الجنوب السوري بين أطراف محلية، حتى ينفلت من هذه الحدود فجأة ويستدعي حشوداً عشائرية من مناطق بعيدة تعبر الحدود الإدارية والاجتماعية والسياسية التقليدية لهذا الصراع، لتتضامن مع طرف ضد طرف آخر.
كان المتغيّران الرئيسان اللذان أسهما في هذا التحول هما أداء الحكومة السورية، أو عجزها بالأحرى، والتدخل الإسرائيلي. وتفتَح لحظة صعود دور العشائر العسكري النقاش عن إمكانية أن تصنع هذه البنى الاجتماعية مشروعها السياسي استناداً إلى امتداداتها العابرة المناطق، إلى جانب تأثير علاقة هذه العشائر بالسلطة في احتمالات توظيف العصبية العشائرية في إعادة بناء الدولة أو مفاقمة الانقسام الأهلي.
قدّم الكتاب تعريفاً جديداً للبنى القبلية والعشائرية في سوريا بناءً على دراسة واقعها الاجتماعي عشية انطلاق الثورة السورية، ثم تفاعلها السياسي والعسكري خلالها. اعتبرها التعريف الجديد بُنىً عابرة المناطق اجتماعياً وثقافياً وليس سياسياً. تفتقد القبائل والعشائر المركزية التنظيمية، وتتفاعل مع الحدث بمعطيات محلية مناطقية وما تفرضه من أولويات وتحركات تفصيلية. ومع أن عبور المناطق الإدارية يعدُّ عبوراً اجتماعياً وثقافياً، إلا أنه قد يتحوّل أحياناً إلى فعلٍ سياسي، وفق متغيراتٍ وعواملَ وظروفٍ مختلفة.
تشكَّل واقع القبائل والعشائر في سوريا عبر مراحل تاريخية طويلة شهدت سلطات مختلفة، وطرأت فيها تحوّلات جوهرية على البُنى القبلية والعشائرية. كانت آثار هذه التحولات التراكمية واضحة على القبائل والعشائر، بدءاً بأنماطها الاقتصادية التي تعرَّضت للتفكيك، بعد دفعها طوعاً أو قسراً لتغيير نمط حياتها من التنقل والترحال إلى الاستقرار المعتمد على الاقتصاد الزراعي والرعوي بين نهاية القرن السابع عشر وأواسط القرن العشرين. استتبع استقرار القبائل والعشائر تغييراً في الأدوار التاريخية، التي خَسِرَت العشائر أغلبها لصالح الدولة القُطْرية. وتحوّلت بُناها الاجتماعية، بفعل متغيرات عدة متعلقة بكل مرحلة، ووفق دورة اجتماعية متكررة تنتقل ضمنها البنية البدوية إلى نصف حَضَرية. انتقل البدو الرحَّل إلى أناسٍ مستقرين يعملون في الرعي والزراعة وغيرها في الأرياف، بينما اندمجت القبائل نصف الحضرية التي استقرت في المدن وأطرافها وتحولت بنيتها لتصبح حَضَرية (متمدينة) كلّياً أو جزئياً.
انعكسَت آثار التحوّل في البنية والأدوار والأنماط الاقتصادية على شكل القيادة القبلية ومضمونها متمثلة بالشيوخ والأمراء. سواء لناحية أدوارهم السياسية وعلاقاتهم بالسلطات، أو مركزيتهم للبنية الاجتماعية القبلية التي أخذت تتحول تدريجياً إلى بُنىً ريفية مستقرة بأنماط اقتصادية مختلفة أو اندمجت في المدن بهويات هجينة مُركّبة، وأفرزت مجالات اجتماعية جديدة لم تعد المشيخة اللاعب الأوحد فيها.
تراجعت البداوة بصورتها التقليدية تدريجياً، إضافة إلى ثبات النطاق الجغرافي للقبائل والعشائر وطغيان المناطقية على تفاعلاتها الاجتماعية، لتظهر مشيخات المناطق والوجهاء العشائريون. وأثّر تَغيُّر أنماط العمران في تراجع تماسك الهياكل القبلية بأشكالها التقليدية. كل ذلك ساهم بالدفع بمفهوم القبيلة والعشيرة من الإطار السياسي التنظيمي إلى الاجتماعي الثقافي، وباتت امتداداتها على الأرض السورية امتدادات اجتماعية ثقافية، شهدت تحوّلات في أنماط العلاقات وأنساقها ومستويات العصبية التي ارتبطت بمتغيرات جغرافية واقتصادية وتنموية وسياسية.
منذ بدء الثورة السورية في مارس 2011، حالت الانقسامات السياسية دون قدرة القبائل والعشائر على تحويل امتداداتها الثقافية الاجتماعية إلى فعلٍ سياسي. فمع انطلاق الثورة، انقسمت القبائل فيما بينها على الموقف من الثورة، وشهدت انقسامات داخلية بين أفراد القبيلة الواحدة وبعضهم البعض على الأمر نفسه. ولا يعدُّ هذا الانقسام استثنائياً في تاريخ القبائل والعشائر السورية التي تفاعلت بالانقسامات ذاتها في حقبٍ وصراعاتٍ سابقة.
انعكست الانقسامات السياسية على أشكال الاجتماع العسكري. إذ انقسمت القبائل فاعلاً محلياً بين مختلف أطراف الصراع، ولم تستطع تشكيل حالة عسكرية مركزية عابرة المناطق. ظهر أثر ذلك الانقسام الداخلي لدى القبائل والعشائر المنخرطة في الثورة السورية خاصةً، والتي تشكلت مواقفها وتحركاتها تبعاً لأولويات محلية مناطقية وليست عشائرية. إذ ارتبطت عسكرة الحراك الشعبي ضد نظام الأسد بحالة مناطقية دفاعية، أخذت فيها كل منطقة تشكِّل كتائبها ومجموعاتها لحماية سكانها. نتيجة لذلك، انعكس تركيب المنطقة السكّاني في بنية أغلب الفصائل المحلية، وخاصة في المناطق ذات الثقل العشائري.
وتطلَّبَت مرحلة التسليح وطبيعة العمليات العسكرية مستوى معيناً من التضامن والعصبية أمام مركزية النظام وعنف عملياته العسكرية، هذا المستوى وفَّرته الحالة المناطقية والعشائرية أو العائلية في المناطق غير العشائرية. وغالباً ما تداخلت المناطقية والعشائرية في مراحل مختلفة، نتيجة أن قرابة 60 بالمئة من مناطق الثقل القبلي والعشائري في سوريا تسكنها القبيلة والعشيرة ذاتها، مقابل مناطق أخرى تسكنها عشائر متنوِّعة أو يتداخل فيها المكوِّن العشائري مع مكوِّنات أخرى عائلية. فظهرت نزعة مُركّبة، مناطقية عشائرية، أو مناطقية عائلية في المناطق غير العشائرية.
تطوّرت تلك النزعة أكثر مع توسُّع العمليات العسكرية وزيادة مستوى العنف، ثم مع انسحاب الدولة من تلك المناطق، ما وضع سكانها المدنيين وفصائلها أمام اختبار الإدارة المحلية للمرة الأولى وسط عمليات عسكرية عنيفة ومستمرة. فلجأت مختلف البُنى الاجتماعية التقليدية إلى بدائل، واستحضرت أشكال التنظيم التقليدية، وعلى رأسها القبيلة والعشيرة والعائلة. وفاقم التهجير القسري الذي أخرج عشائر عدة من مواقعها إلى أخرى من ضرورة استعادة التنظيم التقليدي غير المرتبط بالمناطقية. وازداد حضور نظم القبيلة والعشيرة والعائلة في بيئة التهجير الجديدة بعد خسارة المهجَّرين مناطقهم.
كان تفاعل القبائل والعشائر في مراحل الثورة السورية مناطقياً محلياً، لم يظهر فيه موقف أو تنظيم قبلي أو عشائري مركزي عابر المناطق. وهذا ما يؤكد أن القبيلة تفتقد المركزية التنظيمية بشكلها المُتخيّل لدى البعض. واستطاعت العشائر، وهي وحدات اجتماعية أصغر من القبائل التي تتشكل الواحدة منها من عشائر مختلفة، أن تبدي تماسكاً أعلى نسبياً من القبيلة، نتيجة انتشار أغلبها في المنطقة الجغرافية نفسها أو في قرى متقاربة، إلا أنها انقسمت أيضاً على فصائل مختلفة.
طرأ استثناء وحيد في أربع عشرة سنة من الثورة والحرب عند تحوّل العبور الاجتماعي الثقافي إلى عبور سياسي عسكري، وهي حادثة الحشود القبلية والعشائرية التي تحركت من غرب الفرات إلى شرقه أواخر شهر أغسطس 2023. شاركت تلك الحشود العشائرية في الهجوم على مواقع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في ريف حلب، على خلفية صدام بين تلك القوات وأنصار مشيخة قبيلة العقيدات في دير الزور المتمثلة بآل الهفل. فقد اندفع مقاتلون في شمال سوريا في "فزعاتٍ عشائرية" ليضغطوا عسكرياً على مناطق سيطرة قسد في ريف حلب، بهدف تخفيف الضغط عن المجموعات العشائرية المنتفضة ضد قوات قسد في دير الزور شرق سوريا.
شوهد آنذاك للمرة الأولى فعلٌ عشائريٌ متجاوزٌ الحدود الإدارية والمناطقية، تقوده دوافع سياسية واضحة، هي العداوة السابقة بين قوات قسد وأبناء هذه العشائر الذين هجّرت قوات قسد وقوات نظام الأسد كثيراً منهم. ظهر في هذا الهجوم نوع من العصبية الجامعة المبنيّة على الروابط القبلية والعشائرية، وعلى طبيعة الموقف السياسي المشترك من جهة أخرى. تقاطعت تلك الدوافع مع سياق سياسي كانت فيه السلطات المؤثرة في الشمال الغربي على اختلافها، الجيش الوطني السوري وهيئة تحرير الشام وتركيا، محفزاً كبيراً. إذ شاركت مجموعات من هذه القوى أو مدعومة منها في هذا الهجوم.
مثّلت هذه الحادثة استثناءً جزئياً لاحتمالية تحوّل الروابط والامتدادات القبلية والعشائرية إلى حوامل اجتماع سياسي عسكري مؤقت عابر المناطق. مثّلت تلك الواقعة مشهداً مصغراً مما بلغته الفزعات العشائرية لاحقاً في محافظة السويداء.
الاستثناء في مشهد السويداء يتمثل في شكل الاجتماع العسكري المؤقت "الفزعات"، بدوافعه وسياقه وخصمه والبُنى المهاجمة. فلم نشهد في تاريخ سوريا المعاصر عبوراً عسكرياً متزامناً لمجموعات عشائرية منطلقة من الشمال والوسط إلى الجنوب، تحت أسماء قبائل وعشائر سورية مختلفة في البُنية ومستويات العصبية. وهي مكونات متحدّرة من خلفيات وجذور حضرية متعددة تمتد من الجذور البدوية، مروراً بنصف الحضرية، وصولاً إلى المكوّنات المندمجة حضرياً.
لم تعد التصنيفات السابقة تصلح أكاديمياً وعملياً للتعبير عن واقع البُنى القبلية في سوريا حالياً، ولم تعد تحمل المعاني السياسية والقانونية والاجتماعية التي عكستها منذ العهد العثماني حتى أواخر الستينيات. إذ استثنى قانون الجندية الذي وضعه الاتحاديون سنة 1909 قبائل البدو الرحّل من التجنيد الإجباري. ثم وضع الانتداب الفرنسي نظاماً قانونياً لتمييز القبائل البدوية عن نصف الحضرية والحضرية، إذ استحدث إدارة خاصة لها مستندة إلى القانون 132 لتنظيم شؤون البدو سنة 1940، الذي خصَّ قبائل البدو الرُّحّل بمزايا في التجنيد وحمل السلاح والتقاضي.
تحوَّلت تلك المزايا والقوانين إلى إشكاليّة في البرلمان والسياسة السورية بعد الجلاء الفرنسي سنة 1946، إذ حاولت الدولة الوطنية تحجيم مزايا القبائل وخلق إطار قانوني جديد للتعامل معها، فأصدر مجلس النواب السوري "قانون العشائر" سنة 1956. وحسِمَت الإشكالية عقب الوحدة بين سوريا ومصر، إذ جاء قرار الرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان رئيساً للقُطرين الموحدين تحت مسمى الجمهورية العربية المتحدة في 28 أيلول 1958، بإلغاء قانون العشائر في الإقليم السوري، ليُخضِع أبناء القبائل والعشائر لجميع القوانين والأحكام المطبّقة على المواطنين الحضريين.
أنهى القرار هوية القبائل والعشائر القانونية والسياسية المنفصِلة، ما عنى أيضاً إنهاء سلطة الكتلة العشائرية في البرلمان، ليطوى صراع طويل بين الحكومات المركزية والقبائل البدوية وزعمائها. سبق هذا القانون بيوم واحد إقرار قانون الإصلاح الزراعي في الإقليم السوري ، والذي لم يكن أثره على زعماء القبائل أقلّ، إذ وضع حداً أعلى لملكيّات الأراضي ووزّع البقية على صغار الفلاحين. ما فتح باباً لتغييرات اجتماعية وسياسية مهمة في تكوين سوريا الحديث.
مع بداية الستينيات أنشأت الحكومة مديرية السهوب (البادية) ضمن وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي، ونقلت المسؤولية الرسمية عن البادية وقبائلها من وزارة الداخلية إلى وزارة الزراعة. بعد ذلك تراجعت مصطلحات مثل توطين البدو أو تحضير العشائر من لغة الدولة الرسمية، وحلَّ محلها مصطلحات أخرى مثل إنعاش الريف وتنميته. يشي هذا بأن الدولة باتت ترى القبائل بُنى ريفية مستقرة، عليها أن توجّهها نحو عملية التنظيم الفلاحي والزراعي. إلا أن تصنيفات البدو والحضر لا زالت تحمل تمايزات ثقافية يلحظها أبناء القبائل والعشائر ويلاحظها المختصون، سواء على مستوى أنماط الزراعة أو العصبية أو حتى بعض التقاليد الثقافية.
تاريخياً اتّسمت العلاقة بين هذه البُنى بصراعات متكررة، لاسيما بين العشائر نصف الحضرية والبدوية، وبين البدوية والمراكز الحضرية أو السلطات. وغالباً ما كانت التحالفات العشائرية تتشكَّل لاعتبارات محلية مناطقية لمواجهة قبائل أقوى. وظهور هذه العصبية الجامعة بين تلك البُنى المختلفة ليس مستحيلاً، خاصة في مواجهة التهديدات المشتركة. عملاً بالقاعدة القبلية التقليدية "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب".
كانت تلك العصبية الجامعة تظهر ضمن سياقات أو تحالفات ظرفية على مستوى منطقة أو قبيلة أو إقليم، أو على مستوى أشمل في حالة الثورات الوطنية أو مواجهة الاحتلال. فقد قاتلت تلك البُنى غالباً على أهداف واحدة وليس على جبهة أو منطقة واحدة، الأهداف التي جمعتهم ضد الاستعمار الفرنسي مثلاً مع مكوّنات وبنى اجتماعية مختلفة من ضمنهم الدروز، الذين تحولوا لأول مرة اليوم إلى خصم لبعض المجموعات القبلية والعشائرية السورية.
ومع أن قبائل الجنوب وعشائره لديها سجل تاريخيّ في التحالف مع الدروز أو الصدام معهم، إلا أن قبائل وعشائر وسط سوريا وشمالها، يكاد يكون اشتباك السويداء هو الأول في تاريخها مع مجموعات درزية. ولكنه ليس التواصل الأول لها معهم. فقد قاتلت القبائل العربية السُنية في بادية الشام في محطات تاريخية عدة مع أمراء الدروز، سواء على ذات الأرض أو الهدف. بدءاً من حوران التي انقسمت قبائلها في حروب فخر الدين المعني مع الدولة العثمانية والتي استمرت عشرين عاماً بعد أن بدأت سنة 1613، وصولاً إلى أمراء بعض القبائل في بادية الشام الذين كانوا يتواصلون مع الدروز أحياناً في الشمال والوسط للاستعانة بمقاتليهم في حروبهم مع قبائل أخرى. وكان هذا التواصل أوضح في الثورة السورية الكبرى سنة 1925 التي كان الزعيم الدرزي سلطان باشا الأطرش قائدها العام باختيار مجموعات المقاومة من مختلف المناطق السورية، ثم في انتفاضة مايو وحزيران 1945 إثر قصف الفرنسيين مبنى البرلمان السوري، وصولاً إلى الثورة السورية سنة 2011. قبل أن تتحوّل القبائل والعشائر خصوماً متحاربين مع الدروز على أرض السويداء لأول مرة.
لا تتعلق استثنائية هذا الحدث فقط بالقبائل والعشائر وتفاعلاتها عبر التاريخ والثورة السورية فحسب، وإنما تمتد إلى الطرف الدرزي أيضاً، إذ يكاد يكون هجوم القبائل والعشائر على السويداء بشكله وأطرافه الأولَ من نوعه في تاريخ الدروز وجبل العرب والجنوب السوري.
تصاعدت الأمور في يومين لتتحوّل إلى اشتباكات مسلّحة بين الطرفين، قبل أن تتدخل القوات الحكومية ممثلة بعناصر وزارتي الداخلية والدفاع.
اختلفت الروايات هنا، إذ تقول الحكومة إن قواتها دخلت لفض اشتباك وتعرَّضَت لكمائن في المنطقة على يد "مجموعات مسلحة خارجة عن القانون"، تقصد بها المجلس العسكري في السويداء، والمجموعات التابعة لشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز حكمت الهجري (للطائفة الدرزية في سوريا ثلاثة شيوخ عقل، وهم المراجع الدينية لها). بينما يقول الهجري وأتباعه إن ما حصل هو "هجوم ممنهج" من قوات الحكومة على السويداء وإن رد الدروز هو دفاع أهلي عن النفس.
نفَّذَت القوات الحكومية بالتعاون مع مجموعات عشائرية من بدو السويداء ودرعا عملية عسكرية بين الرابع عشر والسادس عشر من يوليو، سيطرت عبرها على الريف الغربي لمحافظة السويداء وأجزاء من المدينة رغم مقاومة بعض الفصائل المحلية المسلّحة ومجموعات أهلية درزية. تعرَّضت قوات الحكومة والعشائر لقصفٍ إسرائيلي في الرابع عشر والخامس عشر من يوليو بين قرية المزرعة ومدينة السويداء لمنع تقدمها، ما أدى إلى سقوط عددٍ من الجرحى والقتلى يقدّر بالمئات. أعلنت وزارة الدفاع السورية وقف إطلاق النار في السويداء ظهر يوم الثلاثاء الخامس عشر من يوليو، ولكن الاشتباكات استمرت داخل المدينة. أصدرت الأردن والسعودية بيانين أعربتا فيهما عن دعمهما إجراءات الحكومة السورية لبسط "الأمن والاستقرار" في السويداء.
أُعلن اتفاقٌ ثانٍ لوقف إطلاق النار في السويداء يوم الأربعاء السادس عشر من يوليو، ونشرت وزارة الداخلية بنوده وظهر شيخ العقل يوسف الجربوع في مقطعٍ مصورٍ يؤكد وقف إطلاق النار في اليوم نفسه. ولكن الهجري رفض الاتفاق ودعا إلى مقاومة قوات الحكومة، بعدما أرسل مناشدةً قبله إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس الأمريكي والعاهل الأردني وولي العهد السعودي للتدخل وإنقاذ السويداء. دمّر قصفٌ جوي إسرائيلي مبنى قيادة أركان الجيش السوري ووزارة الدفاع وسط العاصمة واستهدف محيط القصر الجمهوري في دمشق عصر ذلك اليوم.
مع عجز الحكومة عن احتواء أزمة السويداء داخلياً وارتداداتها دولياً، اضطرت إلى سحب قواتها من السويداء في مساء اليوم نفسه. وأكد الرئيس السوري أحمد الشرع في كلمة مصوّرة فجر السابع عشر من يوليو هذا الانسحاب، وأعلن "تفويض بعض الفصائل المحلية وشيوخ العقل بحفظ الأمن في السويداء"، وحمّل "الكيان الإسرائيلي مسؤولية التصعيد وخلق الفتن واستهداف الاستقرار، ودفع الأمور إلى تصعيد واسع النطاق، لولا تدخل فعّال للوساطة الأمريكية والعربية والتركية التي أنقذت المنطقة من مصير مجهول". أكد الشرع في كلمته رفض الخطاب الطائفي والانتهاكات ودعوات التقسيم، وقال إن الدروز "جزء أصيل من نسيج هذا الوطن"، وإن الدولة تتعهد بمحاسبة مرتكبي الانتهاكات بحقّهم.
وكما كان دخول القوات الحكومية إشكالياً وغير محسوب وتسبب بانتهاكات واسعة اعترفت بها السلطة بحق المدنيين الدروز، فقد كان انسحابها غير مدروس أيضاً. إذ تركت المدنيين من بدو السويداء في المناطق التي انسحبت منها بلا ترتيبات لضمان سلامتهم. فعادت بعض المجموعات الدرزية المسلّحة وارتكبت انتهاكات ضد المدنيين البدو في مناطق عدة، منها شهبا وسهوة بلاطة والمنصورة والحروبي، واحتجزت عشرات النساء والأطفال.
تصاعدت مناشدات مجموعات من بدو السويداء صباح السابع عشر من يوليو في ظل عجز قوات الحكومة المنسحبة، مطالبةً بإيقاف الانتهاكات وإطلاق سراح المحتجزين. هنا بدأت هذه المناشدات تكسر الحدود الإدارية لتخلق صدى خارجها، امتد بداية إلى ريف درعا المحاذي للسويداء، ثم إلى مناطق مختلفة من درعا والقنيطرة، قبل أن ينتقل بسرعة إلى بعض مناطق ريف دمشق ووسط البلاد في حمص وحماة، ثم إلى الشمال الشرقي في الرقة والحسكة ودير الزور والشمال الغربي في حلب وإدلب.
انطلقت أولى مجموعات "الفزعة" من الجنوب السوري، بداية من درعا وأريافها المحاذية للسويداء. وشاركت فيها شرائح مختلفة، منها مجموعات عشائرية من منطقة اللجاة، تربطها أواصر قرابة مع عشائر السويداء وبدوها. إضافة إلى أفراد ومجموعات من أبناء مدن درعا وبلداتها وقراها، سواء من المدنيين أو من مجموعات كانت سابقاً ضمن فصائل الثوار في المنطقة.
يغيب الهيكل العشائري التقليدي في أغلب مدن درعا وبلداتها، بخلاف ما هو الحال في اللجاة، أو شمال سوريا وشرقها ووسطها. في المقابل تظهر بُنىً اجتماعيةٌ ذات نزعة مركّبة عائلية عشائرية، تعتمد على العائلة الكبيرة أو الحمولة، وهو المصطلح المستعمل في منطقة حوران في وصف العشيرة أو العائلة الكبيرة. ولذلك فالأفراد والمجموعات المشاركة من تلك المناطق، لم تتجمع أو تتحرك تحت أسماء عوائلها وحمولاتها، بقدر ما احتشدت مناطقياً وعبر أدوات تجمع وحشد مختلفة.
لم تلبث نداءات "الفزعة" أن وجدت صداها في القنيطرة أيضاً، حيث انطلقت مجموعات وأفراد من مناطق مختلفة، بينهم أبناء عشائر المنطقة، مثل النعيم والفضل والهوادجة وعشائر أخرى. إضافة إلى مجموعات من أبناء المدن والبلدات، مثل مسحرة ونبع الصخر وكودنة وممتنة بعضهم مدنيون، وآخرين انخرطوا سابقاً ضمن الفصائل الثورية.
أمّن القرب الجغرافي وصولاً سريعاً للمشاركين، وشكّل سياق العلاقة مع الدروز في الجنوب دوافع غير مباشرة. إذ شهدت المنطقة سابقاً توترات متكررة، سواء بين البدو والدروز داخل السويداء، أو بين بعض فصائل درعا ومجموعات عسكرية في السويداء. ازداد التوتر في السنوات التي تلت اتفاق التسوية وسيطرة النظام وروسيا على المنطقة في يوليو 2018. إذ شهدت تلك الفترة تعديات على ريف درعا الشرقي من المجموعات العسكرية الدرزية المرتبطة بالأجهزة الأمنية التابعة للنظام السابق. وشملت عمليات خطف متبادلة واشتباكات أحياناً، استدعت تدخل وجهاء وقادة محليين لاحتواء التوتر.
أما في القنيطرة فقد ساهم تاريخ التوتر والاحتقان بين مجموعات ثورية من القنيطرة وقرية حضر الدرزية في تأمين بيئة قابلة للاشتعال. خاصة بعد أن شكّلت مجموعات من تلك القرية، ومعهم بعض أبناء القنيطرة، لجاناً شعبية رديفة لقوات النظام السابق منذ سنة 2013. أعاق مقاتلو حضر تقدم الجيش الحر في ريف القنيطرة الغربي، وكانت مركزاً لتجمع عناصر النظام، ونقطة انطلاق لشنّ هجمات على مواقع الثوار في القنيطرة.
لكن العامل الأكثر راهنية وتأثيراً في درعا والقنيطرة، منذ سقوط الأسد في الثامن من ديسمبر 2024، هو تصاعد المخاوف والتهديدات بالتوغل الإسرائيلي وتوسعه. فقد أنشأت إسرائيل في القنيطرة نقاط عسكرية عدة، ونفّذت القوات الإسرائيلية عمليات برية واعتقالات متكررة. وحاولت التوغل برياً في ريف درعا الغربي متجاوزة حدود اتفاقية فض الاشتباك سنة 1974. وشهدت قرية كويا في مارس 2025 ومنطقة تل الجموع في أبريل حادثتي اشتباك بين مجموعات محلية من أبناء المنطقة والقوات الإسرائيلية المتوغلة، أسفرت عن مقتل عدد من المدنيين والمقاتلين المحليين.
قابلت الفِراتْس عناصر من المجموعات المشاركة في الهجوم على السويداء بعد انسحاب الحكومة، وتؤكد تلك المقابلات تداخل الدوافع المباشرة. فمع انسحاب القوات الحكومية وتصاعد مناشدات البدو، تشكلت لدى المجموعات المهاجمة ردة فعل غاضبة من انسحاب الحكومة وعجزها عن حماية المدنيين البدو، وأبناء درعا ممن يعملون أو يقيمون في السويداء. ترافق ذلك مع مخاوف من احتمالية اجتياح إسرائيلي بري لمحافظتي درعا والقنيطرة، بعد قصف إسرائيل القوات التابعة للحكومة في السويداء والمباني الحكومية في دمشق. وزاد حدّة هذه المخاوف التحليق المكثَّف للمسيرات الإسرائيلية في سماء درعا والقنيطرة منذ بدء التوتر في السويداء.
وساهمت الصور الأولى التي نُسبت إلى انتهاكات بحق البدو، إلى جانب المناشدات المناطقية والعشائرية، في تحفيز عمليات الحشد والتعبئة. ودعمها نشاط مكثّف عبر غرف ومجموعات على وسائل التواصل الاجتماعي ومن بينها واتساب، وشهدت وسائل التواصل الاجتماعي انتشار خطابٍ تعبويٍ مشحونٍ بالمناطقية والطائفية. تعزّز هذا الخطاب بوصول جثث مدنيين إلى بعض مناطق درعا قضوا أثناء الفوضى وأعمال الانتقام في السويداء، أو كانوا عناصر تابعين للحكومة من أبناء درعا قضوا في الاشتباكات أو القصف الإسرائيلي. وأضيف إليها صورٌ بدأت تنتشر منذ السادس عشر من يوليو لعبور بعض الدروز من الجانب الإسرائيلي إلى الأراضي السورية للقتال إلى جانب أقاربهم، ما ساهم أكثر في تصعيد موجة "التعبئة التضامنية" مع بدو السويداء.
تشمل المنطقة الشرقية محافظات دير الزور والحسكة والرقة. في دير الزور خرجت مجموعات عشائرية من قبائل مختلفة، وأبرزها العقيدات التي شاركت منها مجموعات عدة تحت أسماء عشائرها البوسرايا والبوجامل والشعيطات. وتصدّر مشهد الحشد والتعبئة العشائرية أسماء من بيت المشيخة العام للقبيلة، آل الهفل، وآخرون شيوخ عشائر فرعية تتبع القبيلة، أو وجهاء عشائريون ضمنها.
انطلقت معظم الفزعات من مناطق سيطرة الحكومة السورية، ولكن خرجت مجموعات أخرى من مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وبلا إذنها كما أخبرنا مشاركون فيها. وشارك في تلك المجموعات مدنيون عشائريون، إضافة إلى عناصر سابقين في فصائل الثورة السورية، بعضهم منخرط في وزارة الدفاع، لكنهم تحركوا خلف رايات عشائرية.
شاركت أعداد أقل في الحسكة، نتيجة سيطرة قسد، بينما شاركت أكثر مجموعات عشائرية من أبناء الحسكة مهجّرة في الشمال. أبرز القبائل المشاركة كانت قبيلة الجبور، وكان لأحد بيوت المشيخة المعروف باسم الفاضل الملحم ظهورٌ واضح في الحشد الميداني.
وشاركت مجموعات عشائرية انطلقت من مناطق سيطرة قوات قسد في محافظة الرقة بلا إذنها. وأبرزها مجموعات من عشائر البوشعبان منهم الولدة والعفادلة. إضافة إلى مجموعات من قبائل وعشائر مختلفة مثل جيس (قيس) والنعيم والمرندية.
خرجت النسبة الأكبر من المجموعات العشائرية من منطقة الشمال الغربي في حلب وإدلب. فقد شاركت مجموعات بنسب متفاوتة من قبائل وعشائر مختلفة، أبرزها البوشعبان والموالي والنعيم والبقارة واللهيب والدليم والحديديين وشمّر وعشائر أخرى.
أما في المنطقة الوسطى في حمص وحماة، فشاركت مجموعات مسلحة تحت عناوين عشائرية أبرزها الموالي والنعيم وبني خالد وعنزة. ورُصِدَت مشاركة مجموعات من مناطق حضرية في حمص وريف دمشق.
ضمن هذا الكم من أسماء القبائل والعشائر والبُنى الُمختلطة اجتماعياً والمتمايزة جغرافياً، تنوَّعت الدوافع وتداخلت لتنتج فزعات عشائرية متزامنة باتجاه هدف واحد. ومع أن المقابلات مع عناصر تلك المجموعات، إضافة إلى تصريحات شيوخ العشائر والقبائل المشاركة، وبيانات الحشد والتعبئة، اعتبرت أن "فزعاتها" كانت "نخوة واستجابة لمناشدات المدنيين البدو"، إلا أن هناك دوافع ومحركات مختلفة يبدو أنها كانت أيضاً وراء هذا الموقف.
تبدأ هذه الدوافع من الشعور بعجز الحكومة بعد انسحابها، والغضب من انكسارها أمام "فصائل مسلحة مدعومة من إسرائيل"، كما وصفها عناصر من قوات العشائر. ولكن فوق ذلك نشأ شعور عام لدى بعض أبناء القبائل والعشائر أن الدولة الوليدة التي تتعرض للتهديد هي "دولتهم". وخاصة لدى أبناء القبائل والعشائر الذين شاركوا في الثورة ضد النظام السابق وشكّلوا فصائل لقتاله، أو انخرطوا في البُنى العسكرية الأخيرة في الشمال، وهي الجيش الوطني السوري وهيئة تحرير الشام.
ساهم في هذا الشعور بالانتماء للدولة وحمايتها سلوكيات السلطة الحالية، والتي يُشكّل أبناء القبائل والعشائر نسبة غير قليلة من بُنيتها السياسية والعسكرية وقياداتها الميدانية، إضافة إلى خطابها المُحتفي بالقبائل ولقاء مسؤوليها عشرات الوفود العشائرية من مناطق مختلفة. وساهمت الرواية "الأمويّة" التي راجت منذ سقوط النظام، والتي تعلي من شأن العرب السُنة على باقي المكونات السورية في إذكاء تلك الرغبة في حماية الدولة.
حصل التحول العميق بعد سقوط النظام السابق، إذ انتصر طرف عسكري على آخر، وانتصرت معه القبائل والعشائر المعارضة أو المتحالفة معه. وفي المقابل انهزمت عشائر وقيادات قبلية عدة تحالفت مع الطرف المهزوم، أي أبناء عمومتهم ممن حالفوا الأسد وإيران أو "داعش". وقد ساهمت العودة الجزئية لأبناء العشائر المشاركين في الثورة، من مناطق تهجيرهم إلى مواقعهم الأصلية التي كانت تحت سيطرة النظام أو قسد، بتغيير موازين القوى الاجتماعية والعلاقة مع السلطة الجديدة لصالح تلك العشائر التي قاتلت ضد النظام المهزوم. ولكن لم تخلُ الفزعات العشائرية من بعض القيادات القبلية التي كانت متحالفة مع النظام السابق أو إيران أو "داعش"، إذ وجدت فرصة لتبييض سجلِّها الماضي، أو فرصة لإثبات الولاء للسلطة الجديدة، أو حتى تسجيل موقف أمام أبناء عمومتهم من الثوار في العشيرة نفسها أو عشائر أخرى.
استُخدِمَت أدوات حشد وتعبئة عدة في تلك "الفزعات" على رأسها تداول مقاطع مصورة للانتهاكات ضد البدو والصيحات والنخوات العشائرية وخطابات الحشد على وسائل التواصل الاجتماعي التي لم تخْلُ من الشحن والكراهية والطائفية. انتشرت أيضاً أخبار مقتل بعض المنتسبين إلى وزارتي الداخلية والدفاع في السويداء، من أبناء عشائر إدلب وحلب ودير الزور، أثناء القصف الإسرائيلي للقوات الحكومية أو الاشتباكات.
لُوحِظَ في الشمال الغربي في حلب وإدلب دور "مجالس القبائل والعشائر" في الحشد والتعبئة. وبرز دور بعض شيوخ العشائر والقبائل في الشمال الشرقي والغربي وبعض مناطق الوسط، سواء بالتحشيد الميداني وقيادة مجموعات عشائرية تجاه السويداء، أو في الظهور الإعلامي والتعبئة عبر نشر مقاطع مصورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقد برزت أدوار القيادة القبلية من شيوخ وأمراء ووجهاء في الشمال والوسط بشكلٍ أوضح مما حصل في درعا والقنيطرة. يعود هذا إلى اختلاف بنية القبائل والعشائر، ووضوح المشيخة بشكلها التقليدي في البنى القبلية غير الجنوبية أكثر من تلك الجنوبية. وربما يعود ذلك أيضاً إلى طبيعة العلاقات المتداخلة بين وجهاء درعا ومشايخها مع وجهاء السويداء ومشايخها.
ساهم تراجع دور الدولة في خلق فرصة لبروز القيادة القبلية، واستعادة روح القبيلة والتعبير عن مخاوف ودوافع اختلفت بين تلك القبائل. فقد عبّر بعض شيوخ قبائل الجزيرة السورية في شرق سوريا، مثل شيخ قبيلة الجبور أحمد حماد الأسعد في مقابلته مع قناة "الحدث"، عن مخاوفهم من احتمالية التنسيق بين قوات قسد والمجموعات العسكرية التابعة للزعيم الدرزي في السويداء الشيخ الهجري، وبقايا من قوات النظام في الساحل. الأمر الذي قد يقود إلى احتمالية تقسيم البلاد بدعمٍ إسرائيلي، وبالتالي إضعاف ثقل بعض القبائل والعشائر وتقسيمها على أقاليم مختلفة وانحسار امتداداتها. تبدو الفيدرالية بالنسبة لهم في هذا السياق الانتقالي "نموذجاً يحكمه الآخر"، خاصة في مناطق سيطرة قسد.
ومع استخدام الطائفية في الحشد والتعبئة من قبل بعض الأطراف، إلا أنها لا تبدو عاملاً حاسماً في تشكيل موقف المجموعات العشائرية المهاجمة، خاصة من المجموعات المدنية غير العقدية، عند مقارنتها بالدوافع السابقة. ولعلَّ ذلك يعود أولاً إلى طبيعة أنماط التدين السائدة في البيئة العشائرية، والتي لا تضع الدروز في موقع الخصم العقدي الواضح، إذ غالباً ما تتشكّل النظرة إليهم في المخيال العشائري من المرويات الشعبية والخرافية، لا من معرفة دقيقة بمعتقداتهم غير المعلنة أصلاً. ولم ينشأ بين أغلب هذه العشائر في الوسط والشرق والشمال وبين الدروز احتكاك طائفي عقدي مباشر، ما يجعل التعبئة المذهبية محدودة الأثر. فضلاً عن أن التعايش بين العشائر العربية السُنية والدرزية، خصوصاً في الجنوب السوري، يستند إلى إرث طويل من العلاقات والتحالفات والمصالح العابرة الهويات المذهبية. وغالباً ما يستند إلى مرجعية عروبة مشتركة تُغلِّب هذا الانتماء وتُقدِّمه قاعدة تعامل أساسية في السياق المحلي.
يُؤكّد الدوافعَ السابقة أن الحشود العشائرية التي جاءت السويداء من خارج الجنوب، لم تلبث أن أعادت توجيه زخمها بعد وقف إطلاق النار إلى تهديدات مناطق شرق الفرات. إذ خرجت بيانات عدّة من تلك المجموعات العشائرية تهدد قسد، وتتوعد بحدوث "هبّة عشائرية" في حال لم تستجب للمفاوضات مع الدولة السورية. المفارقة هنا أن قسد تضم في بُنيتها العسكرية قرابة 60 بالمئة من العرب السنّة، وكثير منهم من أبناء عمومة العشائر الموقعة على تلك البيانات. فضلاً عن أن غالبية الكرد في المنطقة هم أيضاً من السنّة. وهو ما يُضعف فرضية الدافع الطائفي، ويُعزّز من تصور الصراع محصّلة تفاعلات سياسية اجتماعية، أكثر من كونه اندفاعاً مذهبياً صافياً، مع عدم نفي العامل الطائفي في التعبئة.
يُطرح أيضاً الدافع الاقتصادي للفزعات العشائرية، بعدما رُصدت على الأرض عمليات نهب واسعة للقرى الدرزية، والتي أدانها بعض شيوخ القبائل والعشائر والحكومة نفسها. ومع أهميته إلا أنه لا يحتلّ مكانة وازنة في الدوافع الرئيسة، فقد بدت تلك السلوكيات نتيجة للفوضى والانخراط في العنف أكثر من كونها دافعاً أصلياً له. خاصة أنها سلوكيات مألوفة في معظم مشاهد الاقتتال العسكري في سوريا، ورافقت أطرافاً متباينة الهوية والانتماء في مراحل الصراع.
ساهمت إدارة الحكومة أزمة السويداء في مآلاتها الأهلية العشائرية. بداية من حساباتها السياسية والأمنية والعسكرية في قرار دخول السويداء، مروراً بطبيعة التدخل العسكري وشكله الذي تسبب بانتهاكات واسعة اعترفت بها الحكومة نفسها، أو من انسحابها غير المدروس الذي قاد إلى انتهاكات بحق البدو، نهايةً بالنتائج الإقليمية المتمثلة في تدخل إسرائيل وتحوّلها إلى صاحبة قرار في ملف السويداء والجنوب.
قاد التدخل الإسرائيلي بطبيعته وشكله الانتهازي في سياق حسّاس، إلى انفجار احتقان عام يتراكم منذ تكثيف عملياتها العسكرية وقصفها مئات المواقع العسكرية السورية إثر سقوط الأسد. ومع أن إسرائيل تقصف مواقع النظام والإيرانيين منذ 2012، إلا أن التوغل البري والقصف الذي أعقب سقوط الأسد يبدو أنه أعطى أثراً مضاعفاً في الوجدان العام لشرائح واسعة، تملّكتها مشاعر الغضب والخوف من إعاقة استقرار البلاد وانهيار تجربة الدولة الجديدة. أدى ذلك إلى انفجار غضب شعبي لم يقتصر على القبائل التي تصدَّرت المشهد نتيجة وجود طرف عشائري في جذر الصراع، ولأنها بنىً قابلةٌ للتعبئة العسكرية السريعة. وانعكس هذا الغضب أيضاً في مظاهرات شعبية في مايو 2025 بمدن حمص وحماة ودمشق لرفض التدخل الإسرائيلي ودعم الحكومة.
ساهمت مواقف الحكومة وتغطية الإعلام الرسمي السوري في تأجيج هذا الغضب، إذ وفر الإعلام الرسمي تغطية ترويجية لتحركات قوات العشائر، ما أدى إلى خلق موجة تضامن نسبية مع التحركات العشائرية. ولعلّ ما ساهم في تصعيد التضامن تزامن حدث السويداء مع الكارثة الإنسانية المتفاقمة في غزة، ما عكس شعوراً تضامنياً ضد إسرائيل ناتجاً عن العجز، والعاجز قد يتعلق بفزعة.
أفضى انعزال السويداء إلى تدخل الحكومة منذ الحادي والعشرين من يوليو لنقل عائلات البدو المقيمين فيها إلى ريف درعا مؤقتاً لضمان عدم تجدد التوتر أو تعرضهم لانتهاكات جديدة، الأمر الذي أعاد مشاهد التهجير أثناء الثورة السورية. لكن الحكومة السورية سعت لهذا التحرك رغبة في تهدئة آلاف من مقاتلي العشائر على أبواب السويداء، الذين ربطوا انسحابهم بالإفراج عن الأسرى البدو المحتجزين لدى مجموعات مسلحة من أتباع الهجري. وهو ما حصل بعد وقف إطلاق النار، وعادت القوات العشائرية من مشارف السويداء إلى مناطقها، بينما ظلت مجموعات عشائرية محدودة من أبناء المنطقة وغيرهم إلى جانب القوات الحكومية.
في المقابل، أعلنت القوى المحلية في السويداء المحافظة منكوبة، بعد النزوح الواسع وخراب بعض المناطق إلى جانب وقوع ضحايا من جميع الأطراف، ما خلّف شرخاً اجتماعياً وسياسياً كبيراً بين السوريين، وجرحاً لا يزال مفتوحاً على المستوى الوطني.
اتُّهمت حكومة الشرع بتحريك "فزعات العشائر" التي زحفت نحو السويداء، إلا أن قيادات ميدانية وشيوخ عشائر ممن شاركوا في الهجوم نفوا للفِراتْس وجود أي تنسيق مباشر بينهم وبين الحكومة. ومع ذلك، لا يصعب رصد صلات مباشرة أو غير مباشرة بين الطرفين، سواء عبر قيادات عسكرية عشائرية موجودة ضمن الحكومة، أو عبر المجالس العامة للقبائل والعشائر في الشمال ذات الصلات السابقة مع شخصيات الحكومة. وقد أشاد الإعلام الرسمي بتحرك العشائر و"نخوتهم"، وخصّهم الرئيس الشرع بالشكر في خطابه بعد إعلان وقف إطلاق النار في التاسع عشر من يوليو. بدا هذا انحيازاً حكومياً لطرف في صراع داخلي، ولكن يمكن قراءته أيضاً رسالة سياسية موجّهة إلى إسرائيل، عبر التلويح بمشهد الفوضى التي يصعب ضبطها.
أخرج الحشدُ العشائري الحكومةَ السورية من ثنائية الصدام بين سلطة وطرف أهلي، إلى الصدام بين مجموعات مسلحة من طرفين أهليّين، ما أتاح لها الظهور وسيطاً بينهما بدلاً من طرف في النزاع. في ذروة الحشود العشائرية فرضت القوات الحكومية طوقاً عسكرياً على أبواب محافظة السويداء، حيث احتشد آلاف المقاتلين العشائريين. وقد مُنعت بالقوة أغلب المجموعات العشائرية من الدخول إلى المحافظة، مع دخول آلاف آخرين. وحسب مقابلاتنا مع عناصر مجموعات من مناطق مختلفة، لم تدعمهم الحكومة بل تولّى مجتمع درعا المحلي مهمّات الإعاشة من إطعام وتسهيل مبيت، بينما اعتمدت أغلب المجموعات على ذخائر موجودة لديها أو على مساعدة بعض عشائر المنطقة.
لا إحصائية رسمية لأعداد المقاتلين العشائريين، ولكن مشاهدة المقاطع المصورة وتقديرات متقاطعة قدّرت الأعداد التي تدفقت إلى السويداء بأكثر من مئة ألف مسلّح، لم يدخل منهم سوى عُشْرهم نتيجة الحواجز التي فرضتها الحكومة أثناء محاولات التهدئة ووقف إطلاق النار التي تلت انسحابها.
ومع ضخامة تلك الأعداد، إلا أن المجموعات المشاركة لا تشكّل غالبية أبناء العشائر والقبائل المنتسبة لها. فعلى سبيل المثال قد يبلغ عدد المقاتلين المشاركين من قبيلة البوشعبان الآلاف، ولكنها لا تُشكّل نِسبَة تذكر من قبيلة تكاد عشائرها تشكل غالبية محافظة الرقة، أو أجزاء من أرياف محافظات أخرى مثل حلب.
كان لأحداث السويداء صدى إقليمي ودولي. فمع انسحاب القوات الحكومية في السابع عشر من يوليو أصدرت إحدى عشرة دولة – معظمها عربية إضافة إلى تركيا – بياناً مشتركاً رحبت فيه باتفاق "إنهاء الأزمة في محافظة السويداء"، والتزام الرئيس الشرع بمحاسبة كل المسؤولين عن التجاوزات، وأدانت "الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة" على سوريا.
توسطت الولايات المتحدة والأردن بين الحكومة السورية والمجموعات الدرزية لتحقيق وقف إطلاق النار في التاسع عشر من يوليو. ولكن تصريحات المبعوث الأمريكي إلى سوريا توماس براك أثناء الحدث عكست حالة من اهتزاز الثقة الغربية بالسُلطة السورية الجديدة، إذ قال في الحادي والعشرين من يوليو إن الحكومة السورية يجب أن تتحمل المسؤولية وأن تحاسب منفذي الانتهاكات، وإن من المهم دمج الأقليات بالسلطة. في حين بدت المواقف الإقليمية لتركيا والسعودية والأردن وقطر أكثر دعماً. إذ شارك رجال أعمال سعوديون في مؤتمر استثماري عقد في دمشق بتاريخ الثالث والعشرين من يوليو. وأعقبتْ خطواتِ الاستثمار السعودي استثماراتٌ اقتصادية قطرية مشابهة، ووُقعت اثنتي عشرة اتفاقية اقتصادية في دمشق بتاريخ السادس من أغسطس.
ولكن مع هذا الدعم الإقليمي والدولي المعلن لموقف الحكومة في تلك اللحظة، فإن نتائجها السلبية الداخلية والخارجية استمرت حتى بعد وقف إطلاق النار.
كانت القبائل والعشائر عنصراً حاضراً ومتفاعلاً في الصراع عسكرياً وسياسياً ومدنياً. وقد زاد هذا البروز والحضور مع انسحاب الدولة المركزية، وتحوّل النظام السابق إلى طرف من أطراف الصراع الموزَّعين ضمن مناطق نفوذ متمايزة بلاعبين محليين وإقليميين ودوليين مختلفين.
اعتمد النظام السابق منذ بداية الثورة سنة 2011 على بعض شيوخ القبائل والعشائر ووجهائها ليكونوا أدوات حشد وتعبئة ضد الثورة، في مقابل آخرين أيدوها. ثم شكّل مع بداية عملياته العسكرية ما يزيد على ثلاثٍ وعشرين مجموعة مسلحة عشائرية. ومنذ سقوط حلب في ديسمبر 2016 حتى اتفاق سوتشي لوقف إطلاق النار في إدلب في مارس 2020، بدأ النظام دمج بعض تلك المجموعات في صفوف الجيش وربطها بالأجهزة الأمنية. بينما ظلت بعضها مدعومة من إيران وقائمة إلى تاريخ سقوط النظام، وكان أبرزها لواء الباقر المعتمد على أبناء قبيلة البقارة الممتدة عشائرُها من حلب إلى دير الزور.
مع تتويج انتصاراتهم إلى جانب النظام السابق، تحوَّل أغلب قادة المجموعات المسلحة العشائرية منذ نهاية 2016 إلى أعضاء في مجلس الشعب ومجالس المحافظات، إضافة لتوليهم مناصب في حزب البعث. كان من هؤلاء رجل الأعمال حسام قاطرجي الذي قاد مجموعة مسلحة عشائرية موالية للنظام السابق وأصبح عضو مجلس الشعب سنة 2016، وكذلك عمر الحسن، شقيق قائد مجموعة لواء الباقر المسلحة، الذي كان عضو المجلس للدورة نفسها. وتوسطت هذه الفئة في عمليات التسوية المحلية مع أبناء عشائرهم المنخرطين في الثورة والفصائل، وأبرز هذه الملفات عودة المهجّرين إلى مناطقهم.
أما في الجيش الوطني السوري، الذي توسعت مناطقه منذ سنة 2017 في ريفي حلب الشمالي والشرقي على الحدود التركية، فقد بلغت نسبة أبناء العشائر في تشكيلاته نحو 65 بالمئة وفق مسح مفصل في كتاب "القبيلة والسلطة في سوريا". كان بعض قادة الجيش الوطني قادة فصائل عشائرية سابقاً في ريفي إدلب وحماة، قبل أن يهجّروا من مناطقهم أو تُفكّك فصائلهم بالعمليات العسكرية للنظام وحلفائه أو الاقتتال مع هيئة تحرير الشام سابقاً.
إلى جانب الفصائل كانت القبائل والعشائر حاضرة مدنياً في مناطق الجيش الوطني، عبر مجالس القبائل والعشائر. وهي تجربة أسستها القبائل والعشائر في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بعد سنة 2016، لتكون قنوات للتعبير والتمثيل المطلبي والخدمي، خاصة القبائل والعشائر المُهجَّرة. وفي سياق احتواء تلك التجربة، بدأت السُلطات في تلك المناطق تأسيس مظلّات قَبَلية وعشائرية عامة. فقد رعتْ هيئة تحرير الشام تشكيل "مجلس شورى القبائل والعشائر" سنة 2018، لتنظيم العشائر التي دعتها سابقاً للمشاركة في المؤتمر السوري العام الذي انبثقت عنه حكومة الإنقاذ سنة 2017، وأصبح اسمه لاحقاً "مجلس القبائل والعشائر السورية". وبعد قرابة ستة أشهر، تأسس في ديسمبر 2018 "مجلس القبائل والعشائر السورية" في مدينة إعزاز شمال محافظة حلب، برعاية الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة ومن ورائه الجيش الوطني السوري (وخاصة فصيل الجبهة الشامية). وكان لهذه المجالس تمثيل سياسي في الائتلاف الوطني، إذ خُصّص لكتلة القبائل والعشائر خمسة مقاعد فيه، اقتصرت على المجلس المشكّل في إعزاز.
كانت العشائر حاضرة في مناطق هيئة تحرير الشام بريف إدلب وبعض ريف حلب. إذ شكّل العنصر العشائري نسبة وازنة في بنية الهيئة تصل إلى قرابة 70 بالمئة قبل سقوط النظام، حسب كتاب "القبيلة والسلطة في سوريا". ولكن هذا المكوّن العشائري لم يكن بتنظيم مركزي واضح، بقدر ما ذاب في بنية الفصيل التنظيمية. وأنشأت الهيئة سنة 2019 جناحاً عسكرياً رديفاً باسم "سرايا المقاومة الشعبية"، كانت الفئة الأبرز فيه مجموعات عشائرية مسلّحة في مناطقها.
وكان لهذه القبائل والعشائر حضور مدني أيضاً في مناطق الهيئة. فمجلس شورى القبائل والعشائر المذكور سابقاً يوازي مجالس القبائل والأعيان التي تشكّلت في المدن. تركَّزت فاعلية العشائر أيضاً في الوساطة المحلية، إذ انتشرت في مناطقها مكاتب الصلح المتعاونة مع قضاء حكومة الإنقاذ. ومنحت الهيئة العشائر تمثيلاً سياسياً بثمانية مقاعد في "مجلس الشورى" الذي تتبع له حكومة الإنقاذ.
لم يختلف الأمر كثيراً في مناطق سيطرة قسد، خاصة مدينتي عين العرب ومنبج بريف حلب الشرقي. إذ تشكّل العشائر غالبية مقاتلي المجالس العسكرية التي تتبع لها في مناطق الغالبية العربية، مثل مجلس منبج العسكري الذي شكّلته سنة 2016. أما التمثيل المدني فقد فرضه المجتمع المحلي بعد احتجاجات وصدامات عدة مع قسد، كان أبرزها الاحتجاجات ضد التجنيد الإجباري سنة 2021 التي انتهت باتفاق بين قسد ووجهاء العشائر ومجلس منبج العسكري على إلغاء التجنيد. إضافة إلى أدوار الوساطة المحلية والقضاء العشائري ومكاتب الصلح ضمن محاكم قسد الخاصة، والتي اعتمدت على بعض الشيوخ والوجهاء وسيطاً بينها وبين المجتمع المحلي. امتدت أدوار الوساطة إلى ملف معتقلي تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، إذ تفرج "وحدات حماية الشعب" منذ سنة 2018 عن أبناء العشائر المتهمين بالتبعية للتنظيم بواسطة "الكفالات العشائرية". ما عزّز أدوار وجهاء العشائر وشيوخها الذين تحالفت معهم قسد أو عيّنتهم.
كانت هذه البنى القبلية والعشائرية أكثر البنى الاجتماعية العابرة حدودَ الصراع ومناطق النفوذ، ولكنه ظل امتداداً اجتماعياً وثقافياً فقط، فالقبيلة والعشيرة ظلت منقسمة في الموقف السياسي تبعاً للأطراف المختلفة التي تعيش تحت سيطرتها، سواء كانت في مناطق نفوذ الأسد أو قسد أو الجيش الوطني أو هيئة تحرير الشام. لذلك كانت أداة ضمن مشروع كل طرف ولكنها لم تحمل في أي وقت مشروعها السياسي الخاص.
وعلى العكس، فإن طبيعة الانقسامات السياسية الحادة التي أحدثها الصراع السوري، هدّدت أحلافاً قبلية بالانهيار، وهي ظاهرة غير مسبوقة في سوريا للأحلاف القبلية المؤسّسة في حقب زمنية سابقة. فقد تأثَّرت بعض تلك الأحلاف منذ سنة 2016 مع التهجير وتفتت مناطق الحلف بين أطراف سيطرة مختلفة، ونشوء مجالس القبائل والعشائر الجديدة. إذ خرجت بعض العشائر عن الأحلاف القديمة وعادت إلى قبائلها الأم، من هذه الأمثلة حلف الحديديين الذي تضعضع بخروج عشائر مثل البوشمس التي ساهمت في تشكيل مجلس قبيلة البقارة في الشمال. بينما أظهر حلف العقيدات والموالي تماسكاً أكبر. وبعد سقوط النظام وتصدر العامل العشائري المشهد في أزمة السويداء، قد نشهد تشكيل تحالفات قبلية وعشائرية جديدة.
ارتبط حضور القبائل والعشائر العسكري مع مختلف أطراف الصراع، بكونها بنية اجتماعية ضخمة احتاجتها الأطراف المتصارعة. ولذلك فإن انتهاء مرحلة العمليات العسكرية لا يعني نهاية الأدوار القبلية والعشائرية، فقد كان للمجالس القبلية في المرحلة السابقة مساهمات مدنية وسياسية وقضائية، وخاصة في دور الوساطة المحلية المقترن تاريخياً بالقيادة القبلية والعشائرية في سوريا.
انخرط كثير من أبناء القبائل والعشائر في حرب مفتوحة مع النظام السابق، وشكّلوا نسبة كبيرة من الفصائل العسكرية. ولكن هذه الفصائل لم تكن تابعة لتنظيم عشائري مركزي، أو محكومة بأهداف وسياسات عشائرية أو قبلية. إذ إن التعبيرات العشائرية تتراجع خاصة في الفصائل ذات التنظيم العسكري المنضبط أو ذات التوجه العقدي، مثل حالة هيئة تحرير الشام سابقاً.
وبناء على دراسة التداخل العشائري مع القوى العسكرية في المرحلة السابقة، فإن عمليات الدمج العسكري والأمني المستقبلية يرجّح أن يكون للعامل العشائري نسبة وازنة فيها. ولكن مسألة التنظيم أو التعبير العشائري داخل الأجهزة العسكرية والأمنية الجديدة مرتبطة بعقيدتها وطبيعة تنظيمها ومستوى انضباطها.
ومع تراجع معظم العصبيات القبلية والعشائرية بفعل الزمن، كانت العصبيات المشكِّلة لبنية النظام تزداد أكثر، حتى اتخذَت بعد سنة 2011 مستويات أعلى من العنف. فقد استخدم النظام مختلف العصبيات ووظفها لتخدم السلطة ولا تهددها، وحوَّل أغلب قيادات البنى الاجتماعية التقليدية كالقبيلة والطائفة والعائلة إلى وسيط بين السلطة والمجتمع. في المقابل ظل محافظاً على بنيته العصبوية التي أنتجت حالة سلطوية ما دون الدولة وعطّلت تطور مؤسسات الدولة، وبالتالي أعاقت تطور المجتمع وقادت بشكل أو بآخر إلى الدفع بجزء كبير من بناه إلى الانتفاض في العام 2011.
وبينما كان معظم شيوخ القبائل والعشائر ووجهائها يسيرون في السكة الإلزامية التي رسمتها سياسة نظام الأسد، كانت البنى القبلية والعشائرية الريفية تتأثر بالسياسات الحكومية الاقتصادية والقانونية والأمنية. الأمر الذي ترك أثراً تراكمياً، تجلى سنة 2011 بانتفاض أبناء تلك العشائر متجاوزين مرجعياتهم التقليدية.
قد تشكل العصبية العشائرية عامل جذب لأي سلطة تسعى إلى تأمين ركائزها الاجتماعية. ما قد يقود إلى إعادة إنتاج أنماط سابقة من التعامل القائم على ربط مصالح السلطة بالطبقة التقليدية من المشيخة، وإبقاء مناطقها على هامش التنمية، مع الدفع بأبنائها نحو مؤسسات الجيش والأمن.
في المقابل، تكشف تفاعلات هذه البنى عن عامل اجتماعي وازن لا يمكن اختصاره بطبقة المشيخة فقط، تعرَّض لتهميش ممنهج سياسياً واقتصادياً لسنوات، إلى جانب ما لحق مناطقه من دمار واسع ونزوح وتهجير بعد 2011. سلطت التفاعلات المناطقية لتلك البنى أثناء الثورة الضوءَ على دور العامل المناطقي ومستوى الإدارة المحلية والتنمية في دوافع انتفاض هذه المناطق.
تقف البنى القبلية والعشائرية السورية اليوم ضمن مرحلة انتقالية لإعادة تشكيل السلطة وبناء دولة جديدة، تعيد فيها مكوّنات اجتماعية عدة رسم أدوارها وعلاقتها بالمجتمع أو السلطة وتعريف موقعها في الدولة الجديدة. كانت أحداث السويداء مظهراً عنيفاً لإعادة تعريف دور الطائفة والعشيرة في هذا الزمن الجديد.
