الحرب تغيّر الأعراف.. مساراتٌ جديدةٌ لقيادةٍ نسائيةٍ في غزة

من قلب مخيمات النزوح في غزة، حيث تلتقي الحاجة بالواقع الاجتماعي المعقد، تظهر النساء قوةً فاعلةً في قيادة المجتمعات الصغيرة وإدارة تفاصيل الحياة اليومية.

Share
الحرب تغيّر الأعراف.. مساراتٌ جديدةٌ لقيادةٍ نسائيةٍ في غزة
القيادة النسائية استجابةٌ لغياب الرجل القسريّ | خدمة غيتي للصور

على ضوءٍ خافتٍ من مصباحٍ متدلٍّ من حبلٍ مشدودٍ بين خيمتين، وصوت الريح الذي يختلط ببكاء الصغار وارتطام أوانٍ معدنيةٍ ببعضها، جلستْ أُمّ أيهم الأربعينية وأختها الأكبر أُمّ توفيق. إنهما القائمتان على إدارة شؤون مخيم "الكتاب والسنة" في جنوب منطقة مواصي خان يونس، بقطاع غزة. اجتمعتا لفضِّ نزاعٍ اشتدّ بين عائلتين تراكمت عليهما مرارة النزوح وقسوة التعامل مع واقع الخيمة في ظرف الشتاء والمطر. لا سبيل لأيٍّ منهما في النجاة من سيل الأمطار الجارفة إلّا بحفر قناةٍ تؤدّي لخيمة الأخرى.

يشتدّ الخلاف وتتصاعد أصوات المنكوبين رجالاً ونساءً، غير قادرين على تهدئة الأزمة، إلى أن تأتي الأُختان لتقولا كلمتهما بثباتِ من اعتاد الفقد والخسارة وقلّدته الحرب مسؤوليةَ الإدارة والقرار. يتقدّم صوت أم أيهم يتبعه صوت أم توفيق، إلى أن ينتهي الإشكال بحلٍّ وديٍّ بصوتٍ نسائيٍّ لم يكن مألوفاً في المجتمع الغزي قبل الحرب. لكنه صار الآن جزءاً من يوميات الداخلين والخارجين بين الخيام.

مع اشتعال حرب السابع من أكتوبر 2023، تبدّل الواقع الاجتماعي بسرعةٍ في قطاع غزة وعادت المجالس العرفية لتكون الناظم الأساس لشؤون أهالي القطاع، في ظلِّ غياب دور السلطات الرسمية ومؤسساتها. لكنها تعود هذه المرة مع بروز دور النساء في هذه المجالس التي كانت حكراً على الرجال. جاءت تجربة النساء في إدارة المجالس العرفية ولجان الطوارئ في غزة نتيجةَ تراكماتٍ اجتماعيةٍ وصراعاتٍ حياتيةٍ فرضتها الحرب. فالأزمات المتتالية وقتل أعدادٍ كبيرةٍ من الرجال أو اعتقالهم أو نزوحهم خلق فراغاً قيادياً لم يكن النظام التقليدي قادراً على ملئه بسرعة. فرض هذا الفراغ على النساء التحرّك لتولّي أدوارٍ لم تكن مسموحةً أو متاحةً لهن سابقاً. هذه المشاركة لا تعكس موجةَ تحررٍّ نسويٍّ أكثر من كونها استجابةً عمليةً للضرورة. إذ باتت القدرة على اتخاذ القرار وإدارة النزاعات اليومية شرطاً للبقاء الاجتماعي.


لطالما كانت المجالس العرفية جزءاً من البنية الضاربة في عمق المجتمع الغزّي. فهي من أقدم مؤسسات العدالة الاجتماعية في القطاع، وساهمت كثيراً في حلّ النزاعات بين العائلات والعشائر. لكنها ظلّت حكراً على الرجال إذ يجلس مختارٌ أو كبير عائلةٍ أو وجيهٌ في ديوانٍ ليحسم نزاعاً حول أرضٍ أو ميراثٍ أو حدود.

يذكر تقريرٌ من المجلس النرويجي للّاجئين نشر سنة 2012 بعنوان "كَستُمري دِسبيوت ريزولوشِن ميكانيزمز إن ذا غزة ستريب" (الآليات العرفية لفضّ النزاعات في قطاع غزة)، أنّ ما بين 70 و90 في المئة من النزاعات في القطاع لا تصل أبداً إلى نظام العدالة الرسمي. لكنها تُحلّ باللجوء إلى الآليات العرفية لتسوية النزاعات، التي يتوسّط فيها قادةٌ مجتمعيون معروفون على أساس التقاليد والأعراف. غالباً ما تكون هذه الإجراءات أسهل وصولاً للفئات الفقيرة والمهمّشة، مقارنةً بالأنظمة القضائية الرسمية. وتوفّر حلولاً أسرع وأقلّ كلفةً، مع أنّها قد تكون غير قادرةٍ على ضمان سيادة القانون أو إجراءات التقاضي السليمة.

ووفق التقرير نفسه، فإن من أبرز التحديات في النظام العرفي الغزّي غياب المعايير الموحَّدة وعدم إدراج منظور النوع الاجتماعي. فالنساء مستبعداتٌ من الأدوار القيادية في الوساطة أو التفاوض. وقد تُمنع المرأة من اللجوء إلى القضاء العرفي طرفاً متضرراً من دون إذن عائلتها.

لكن الحرب الإسرائيلية على غزة خلخت هذه البنية. فقدان الأزواج والأشقاء والآباء ممن قتلتهم إسرائيل أو اعتقلتهم، وانقطاع خطوط التواصل بين العائلات والتهجير الجماعي، كلّها عوامل أوجدت فراغاً مباغتاً لا يشبه أيّ ظرفٍ سابقٍ منذ النكبة سنة 1948. وجدت النساء أنفسهن أمام مهامّ لم يعدّ هناك من يكفي لأدائها. فثمّ إدارة الخصومات اليومية وتنظيم الخصوصية داخل الخيام وإرساء قواعد بسيطةٍ للعيش المشترك، ثم التدرّج من ذلك إلى حلّ خلافاتٍ أعمق تشبه ما كان الرجال يتولّونه سابقاً.

في بعض المناطق، خاصةً جنوب غزة، نشأ ما يمكن تصنيفه لجاناً نسويةً عرفيةً مصغّرةً، يُستعان بنسائها للفصل في المنازعات أو التواصل مع العائلات حين تغيب المرجعيات التقليدية. فصارت النساء حارساتٍ للنظام الاجتماعي الطارئ، يساهمن بحفظ ما تبقّى من تماسك الحياة الاجتماعية بعدما كسرت الحرب كلّ قواعدها.

وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة في تقريرٍ نشر في نوفمبر 2025 بعنوان "نساء غزة خط الحماية الأخير لأسرهنّ في ظل الهجمات والجوع وشتاء قاسٍ"، فإن أكثر من خمسةٍ وسبعين ألف امرأةٍ في القطاع يُدِرن شؤون أسرهنّ، ويكافحن وحدهنّ في ظروفٍ قاسية. وهو ما يجعل التحرّك النسائي في نطاق المجالس العرفية أو اللجان الشعبية ليس خياراً فحسب، بل مساراً طبيعياً.


عبير الصوالحة، المكنّاة أمّ عبيدة، وجدت نفسها تدير مخيم الأيتام رقم أربعة في مواصي خان يونس جنوب القطاع صدفةً وبلا قصد. فكان لها دورٌ إداريٌ ضمن مجلسٍ عرفيٍّ محليٍّ نشأ داخل بيئةِ نزوحٍ مضطربةٍ، وفق ما تقوله للفراتس. ومخيم الأيتام هذا ضمن أربعة مخيماتٍ في المواصي لرعاية أيتام الحرب، أُنشئت بمبادرةٍ من مؤسساتٍ خيريةٍ محليةٍ، مثل "مبادرة كفالة الأيتام" وتعتمد على التبرعات من الأفراد والمؤسسات الإغاثية. تضيف أمّ عبيدة أنه مع تآكل دور المؤسسات الرسمية أصبحت الحاجة إلى سلطةٍ تنظيميةٍ بديلةٍ مسألةً ضرورية.

أم عبيدة، التي فقدت زوجها في الحرب وأصبحت المعيلة الوحيدة لأبنائها الأربعة، تحمل شهادة بكالوريوس في الرياضيات. وبسبب التحوّلات التي فرضتها ظروف النزوح من مدينة رفح جنوب غزة، التي صارت اليوم أثراً بعد عينٍ، باتت تضطلع بمسؤوليةٍ قياديةٍ داخل المخيّم. انتقلت من مهامّ إداريةٍ محدودةٍ إلى إدارة المخيم بأكمله. وذلك بتوافقٍ مجتمعيٍّ وترشيحٍ من الرجال والنساء معاً، إذ كانت قادرةً على متابعة شؤون النساء اللواتي يتحمّلن مسؤولية أسرهنّ منفرداتٍ، وفق ما تقول.

وتوضح أنّ المخيّم "يضمّ عائلات زوجات شهداء مع أطفالهن، ما يصعّد الخلافات اليومية نتيجة تداخل المساحات وضيق الخصوصية". تبعاً لذلك، أسّست أم عبيدة نظاماً إدارياً بطابعٍ عرفيٍّ يقوم على تقسيم المخيم إلى ستّ بقعٍ لتسهيل الرقابة وتوزيع المهام. وتتجول يومياً داخله لمتابعة توزيع المساعدات والمياه، وحلّ المشكلات بين العائلات.

تقول أمّ عبيدة إنّ غالبية القرارات التي تتخذها في التعامل مع قضايا النازحين تحمل طابعاً اجتماعياً وأخلاقياً. وربما يعجز الرجال عن التعامل معها بذات الحساسية، خاصةً قضايا النساء والأطفال. ووفقاً لها، "وجود امرأةٍ على رأس مجلسٍ شعبيٍّ يُدار وفق العرف لا القانون، في بيئة نزوحٍ مضطربةٍ، لم يعد مجرّد خيارٍ بل أصبح ضرورة". ومع وجود رجلٍ يساعدها في متابعة قضايا محددة، إلّا أنّها تحلّ غالبية القضايا، حتى تلك التي كانت تُعدّ حكراً على الرجال كالوساطة في حلّ النزاعات. وتعلّق: "اكتشف الناس أنّ بعض القرارات تحتاج إلى امرأةٍ تفهم البيوت وما يدور داخلها، وتملك القدرة على تهدئة النفوس".

لا يقتصر نشاط أمّ عبيدة على معالجة المشكلات الصغيرة. تتحدّث للفراتس عن موقفٍ واجهته تَمثّل في نزاعٍ بين عائلتين وصل حدّ استخدام السلاح. وتخبرنا كيف قادت وساطةً ميدانيةً لاحتواء الموقف وتهدئة التوتر في حين كانت السلطة الرسمية غائبة. ترى أنها تأكدت بهذا الدور من قدرتها على إدارة نزاعٍ معقّدٍ داخل بيئة معسكرٍ مغلقٍ تجعلها مؤتمنةً عرفياً على السلم الأهلي داخل المخيم. وترى أنّ هذا النوع من الإدارة "ليس إدارة خدمات فقط، بل إدارة مجتمعٍ قائمٍ على الأعراف والقبول الشعبي". وتضيف أن أصعب ما تواجهه هو "فهم مزاج الناس واختلاف العقليّات [. . .] لكننا هنا نتعلّم القيادة ونحن نعيشها، ونتحمّل المسؤولية لأن لا أحد غيرنا سيفهم متطلبات هذا الدور".

تحظى أمّ عبيدة بقبولٍ في مجتمع المخيم الداخليّ، خصوصاً أن جزءاً من النساء وجدنَ فيها نموذجاً "للقوة غير المتعالية"، وفق ما تقول إحدى النازحات للفراتس. غير أن أمّ عبيدة واحدةٌ من وجوهٍ نسائيةٍ أخرى على امتداد المخيمات دفعتها ظروف الحرب والنزوح لتولّي أدوارٍ جديدةٍ وغير تقليدية.


مع تصاعد الحاجة للقيادة اليومية، اضطرت رشا الشاعر المعروفة بِاسم أمّ عايش لتولّي دورٍ غير متوقّعٍ بعد نزوحها مع أسرتها من وسط خان يونس إلى مخيّمٍ في مواصي خان يونس، وفق ما تقول للفراتس. ترأَس أمّ عايش لجنةً نسائيةً تشرف على مخزن توزيع المساعدات الغذائية والصحية في منطقة "بئر 19" في المواصي، وهو المصدر الرئيس لاحتياجات مئات العائلات هناك. لم تتوقع أن تصبح وجهاً للقيادة الشعبية، غير أنّ الضرورة "دفعت النساء ليكنّ في الصف الأول، حتى من دون أن يطلبن ذلك". وتلفت كذلك إلى أنّ غياب المؤسسات الرسمية دفعهنّ لأدوارٍ لم تكن من ضمن مهمّات النساء سابقاً.

تقول أمّ عايش: "إحنا كنا ناس عاديين. فجأةً صرنا مسؤولين عن حياة ناس غيرنا وصرنا المرجع". وتوضح أنّه، بسبب الظروف القاسية التي عاشتها الأسر النازحة وخصوصاً النساء اللواتي فقدن أزواجهن أو من يعولهن، "صار القرار لازم يطلع من مكانٍ يسمح للنساء بالشعور بالأمان".

لا يقتصر نشاط أمّ عايش على استلام المساعدات وتوزيعها، بل تنظّم العلاقات اليومية داخل منطقة عملها. فتضع القواعد وتتابع الالتزام بها، وتحلّ المشكلات بين العائلات، سواءً الخلافات على أدوار التوزيع أو سوء الفهم الناتج عن الازدحام وضيق المساحة. وبحكم احتكاكها اليومي بالنساء والأطفال أصبحت مرجعاً في فهم طبائعهم واحتياجاتهم. تقول: "القرار هون [هنا] بدّه عقل واقعي وقلب أمّ. لازم أسمع وأقدّر وأحكم". تشير بيدها إلى صفٍّ طويلٍ من النساء الواقفات خارج المخزن، قائلةً: "هدول زيّي [مثلي]، كلّ وحدة مستحية تطلب، بس الحاجة بتكسرنا كلنا".

تعتبر أم عايش أنّ أصعب المهمّات إدارة التوترات التي تنشأ نتيجة الضغوط القاسية على الجميع. تقول: "مرّات النساء بتنقهر وبتنفجر، والأطفال بيكونوا تحت ضغط نفسيّ كبير، ودوري إنّي أهدّي النفوس وأذكّرهم إنو كلنا بالهمّ نفسه". وتضيف أنّ وجود امرأةٍ في موقع القرار جعل النساء أقدر على البوح بمشكلاتهن الشخصية التي لا يستطعن مناقشتها مع الرجال، بما فيها مشكلات الخصوصية والكرامة.

لم يكن حضور اللجنة النسائية التي تقودها أمّ عايش قويّاً منذ البداية، إذ استقبل بعض السكان دورها الجديد هذا ببعض الريبة. تقول أمّ عايش إنهم تساءلوا عمّا إذا كان للمرأة مكانٌ في تولّي هذا النوع من المسؤولية. لكن مع الوقت، "التجربة أثبتت نفسها والناس شافت النتائج. شافوا إن أمور المخيم صارت منظّمة، وإن الأمان يزيد لما يكون القرار قريب من مشاعرهم".

ومثلما انتقلت أمّ عايش إلى موقعٍ قياديٍّ لم يكن محسوباً لها، وجدت خديجة أبو لبدة نفسها في موقعٍ خدماتيٍّ محوريٍّ، وهي النازحة من رفح. تقول للفراتس إن الظروف الاستثنائية دفعتها لتصبح مديرة "لجنة صحة المرأة والطفل" في جنوب قطاع غزة. هذا الدور لم يأتِ عبر تكليفٍ رسميٍّ أو قرارٍ تنظيميٍّ، بل انطلق من مبادرةٍ شخصية. إذ كانت بدايةً تجوب الخيام لجمع البيانات وتوثيق احتياجات النساء والأطفال، مستشعرةً أثر غياب الرجال عن المشهد التنظيمي والإداري.

مثل أمّ عبيدة وأمّ عايش، تؤكد خديجة أنّ نشوء اللجان النسائية جاء استجابةً لحاجةٍ مجتمعيةٍ مُلحّةٍ، وحمايةٍ لخصوصية النساء، خصوصاً في طلب المساعدات الصحية والشخصية. فوجود مندوبٍ ذكرٍ يشكّل حاجزاً وإحراجاً لنساءٍ كثيرات. وتضيف: "المرأة تحب أن تصغي إليها امرأةٌ مثلها، وتطمئّن أكثر حين تعلن احتياجاتها في مساحةٍ آمنة".

تتعامل خديجة أبو لبدة يومياً مع مجموعةٍ واسعةٍ من القضايا المجتمعية، بين خلافاتٍ أسريةٍ ونزاعاتٍ بين الجيران ومشكلات السلم الأهلي داخل المخيم. وعلى صِغر سنّها، تقابل هذه التحديات بحزم: "كَوني امرأةً لا يعني أنني غير قادرةٍ [. . .] نحن نواجه أزمةً غير اعتياديةٍ ومسؤولياتٍ لم تمرّ على إداريين قبلنا، رجالاً كانوا أم نساء". 

وفق أبو لبدة: "الرجال الذين اعترضوا عليّ في البداية يشكّلون اليوم شبكة مساندة". وتصف عملها بأنه مزيجٌ بين العرفي والتنسيق مع جهاتٍ رسميةٍ عند الحاجة. فهي تستعين بوجهاء المنطقة عند تفاقم بعض الخلافات، وتتواصل مع مؤسساتٍ أهليةٍ حين يتطلب الأمر خبراتٍ متخصصة. وقد وضعت صندوقاً للشكاوى يراعي خصوصية المبلّغين تراجِع محتوياته أسبوعياً، ويتضمن أحياناً قضايا حساسةً، مثل التحرّش أو الإيذاء.

ولا تقتصر مهامّ "لجنة صحة المرأة والطفل" على متابعة الاحتياجات الصحية، فالحرب أطلقت أزماتٍ نفسيةً ضاغطةً خلقت احتياجاً كبيراً لبرامج الدعم النفسي. فغزة قبل الحرب سجلت واحدةً من أعلى معدلات الاكتئاب والاضطراب النفسي عالمياً، غير أن هذه الأزمة تفاقمت أضعافاً بعد السابع من أكتوبر 2023 بسبب التدمير والتهجير الذي طال غالبية السكان. فقد ارتفع معدَّل البالغين الذين يعانون من نسبٍ عاليةٍ من الضغوط النفسية، من 20 بالمئة سنتَي 2020 و 202 لنحو 67 بالمئة في أوائل 2025. معطوفاً على ذلك انهيار منظومة العلاج النفسي في القطاع، التي كانت محدودةً قبل الحرب بمعدّل طبيبٍ نفسيٍّ واحدٍ لكلّ مئة ألف شخصٍ جرّاء القصف أو باستهداف الكوادر المتخصصة. لذلك تشرف خديجة على فعاليات تفريغٍ نفسيٍّ للنساء والرجال والمراهقين، إضافةً إلى رعاية فئاتٍ مهمّشةٍ مثل ذوي الاحتياجات الخاصة. كلّ ذلك وفق الإمكانيات المتاحة.

تبرز أيضاً في هذا السياق تجربة أمّ فارس، إحدى المشرفات في مخيم "الكتاب والسنة" المستحدث جنوب خان يونس. في حديثها للفراتس عن التحوّل في أدوار النساء داخل المخيم، تقول أمّ فارس: "كنا نراقب ونساعد من بعيد. أما الآن، فنحن نتولى حلّ النزاعات مباشرةً، ونحدد آليات توزيع المساعدات. الرجال ليسوا هنا لقيادتنا، بل لنعمل معهم ونتشارك في إدارة الأزمات". تقود أمّ فارس عدّة مهامّ، مثل تنظيم أدوار توزيع مياه الشرب والإشراف على عمليات جمع القمامة.

وتشير عدّة نساءٍ تحدثت معهن الفراتس إلى أنهن يعتمدن غالباً على شبكاتٍ غير رسميةٍ للمعلومات والتنسيق، تتيح لهن معرفة الاحتياجات الفعلية لكلّ عائلةٍ وإيجاد حلولٍ عاجلة. كذلك، صارت بعض النساء جزءاً من لجانٍ متفرعةٍ عن المجالس العرفية، يقدمن توصياتٍ مباشرةً لفضّ النزاعات.

ويبدو أن ما يجمع كثيراً من أولئك النساء، على اختلاف أنشطتهن وتوجهاتهن الاجتماعية، قدرتهن على التكيّف وفقاً لما يحمله ظرف الحرب الاستثنائي.


تقول منظمة "أكشن إيد" في تقريرٍ بعنوان "إجيتنس أوف تشينج [. . .]" (حاملات التغيير: دور المنظمات النسائية الفلسطينية في الأزمات)، نشر في سبتمبر 2024، إن النساء في غزة "أظهرن قدرةً استثنائيةً على الصمود وتولّي أدوارٍ قياديةٍ، ودفع جهود تعافي المجتمعات في ظلّ ظروفٍ شديدة الصعوبة". ويلفت التقرير إلى أن لأولئك النساء سماتٍ صقلتها خبرات تولّي أدوارٍ متعددةٍ في بيئاتٍ تظهر فيها المرأة بموقعٍ أضعف من الرجل، ومكّنتهن هذه الخبرات من التكيّف بفعاليةٍ مع المواقف الضاغطة. تعاطف النساء وقدرتهنّ على بناء الثقة داخل المجتمعات يساهم بالحفاظ على التماسك الاجتماعي والمساعدة بضمان عدم تخلّي أحدٍ عن الفئات الأضعف، وفق التقرير.

هذه المرونة بدت بيّنةً لدى الشابة سماهر النجار، الناجية الوحيدة من مجزرةٍ أطاحت بكلّ أفراد عائلتها في مارس 2024 في منطقة النصيرات، وتركتها في مواجهة قسوة الحرب دون معيل. غير أنّها استطاعت تخطي مأساتها وكسر قيود المجتمع وعاداته عبر مساهمتها في تنظيم "تكية طعام" في خان يونس، وهو النشاط الذي يقتصر بغالبه على الذكور.

تبرز أيضاً رئيسة حسنين النازحة من رفح مساهمةً في أدوارٍ تنظيميةٍ لمساعدة النازحين، مع أنها فقدت زوجها في الحرب وتعيل وحيدةً أربعة أطفال. تقول للفراتس: "في البداية كان المجتمع متردداً، بعض الرجال لم يصدقوا أن النساء قادراتٌ على إدارة النزاعات. لكن عندما رأت العائلات النتائج، بدؤوا يأتون إلينا طلباً للنصيحة". وتضيف أن هذا يعكس جانباً من الصراع بين التقاليد والضرورة العملية.

تقول أمّ أيهم، إحدى المشرفات في مخيم الصمود في خان يونس، عن مصاعب تولّي منصبٍ لإدارة شؤون الحياة في ظرف الحرب والمجاعة: "أقف في مكانٍ كان لرجلٍ وقد استشهد، وأدير تنظيم أمورِ أكثر من ستمئة عائلةٍ، كلّها فقدت رجالها ومعيليها الذكور. أحياناً أشعر وكأنه اختبارٌ إلهيٌّ أتمنى النجاح فيه وإثبات القدرة النسائية على تولّي مهامّ الرجال، حتى وإن لم تكن شائعة". ذلك وإن بدا الأمر في ظاهره مؤقتاً ومحكوماً بالظروف الاستثنائية التي خلقتها الحرب.


في الأيام الأولى من النزوح بدا حضور النساء في إدارة الأزمات اليومية وضعاً مؤقتاً، أو مجرّد محاولةٍ لسدّ بعض الفجوات، ريثما يعود الرجال لزمام الأمور. لكن مع استمرار الحرب وفقدان الكثير من الرجال أو اعتقالهم، بدأت المواقف تتغيّر.

في بعض مناطق النزوح استقبلت العائلات هذا التحوّل ضرورةً جديدة. "مين بدّو ينظّم غيرهم؟"، يقول للفراتس أحد الرجال في مكان نزوحه بمدرسةٍ حكوميةٍ في منطقة خان يونس، وهو يشير إلى متطوعةٍ تتولى فضّ نزاعٍ بين عائلتين حول مساحة نومٍ مشتركة. يرى أنه لم يكن هناك وقتٌ لترف اعتراض هذه الفئة. فالحياة اليومية في النزوح تحتاج إلى من يمسك بخيوطها، والنساء اللواتي تقدّمن لذلك كنّ الأكثر حضوراً.

لكن في أماكن أخرى، واجهت النساء نظراتٍ متحفّظةً، وفق ما تخبر المشرفات اللواتي تحدثن للفراتس. بعض الرجال شعروا بأن هذا الدور يهدّد مكانتهم. لم يكن الاعتراض دائماً مباشراً، بل على شكل تعليقاتٍ جانبيةٍ أو انسحابٍ صامتٍ من الاجتماعات، أو رفض تلقّي التوجيه من امرأةٍ حتى لو كان الأمر لا يتجاوز تنظيم الدور على دورة مياه.

ومع استمرار الحرب وطول مدّة النزوح، حسب المشرفات، بدا أن ردود الفعل التي كانت حادّةً في البداية خفّت تدريجياً. الناس اعتادوا على الصوت الذي يتدخل لحلّ الخلاف، بغضّ النظر عن جنس صاحبه. وبدأت بعض الأسر، التي كانت ترفض التعامل مع أيّ امرأةٍ مسؤولةٍ، تعود إليها لاحقاً طالبةً حلّاً لمشكلةٍ ما. لم يكن ذلك اعترافاً رسمياً بالدور الجديد، لكنه بدا على الأقلّ قبولاً عملياً بأن الواقع تغيّر، وأن تنظيم واقع الحرب أصبح مهمةً يتشارك فيها الجميع حتى لو اصطدمت بتحفظاتٍ قديمةٍ حول من يجلس في صدر المجلس.

يقول للفراتس محمد عويضة، أحد العاملين في مخيم آل شبانة بخان يونس، إن عمل النساء في اللجان داخل المخيمات غيّر كثيراً من نظرة الرجال إلى دورهنّ. ويضيف أنهنّ أثبتن قدرةً على الحزم والتنظيم تفوق التوقعات. وكان لتدخلهنّ في حلّ النزاعات اليومية أثرٌ واضحٌ في تهدئة الأوضاع. ويوضح أنّ كثيراً من الرجال باتوا يعتمدون على إشراف النساء في الأمور المجتمعية، بعدما لمسوا جدواهنّ في التعامل مع الأزمات.

وهذا ما يشير إليه تقريرٌ لمؤسسة "بال ثينك" للدراسات الاستراتيجية نشر في مارس 2025 بعنوان "بالسيتنيتن وومِن: بتويين وور آند ريزلينس [. . .]" (النساء الفلسطينيات: بين الحرب والمرونة). جاء في التقرير أن المجتمع الغزيّ بدأ يقيّم فعالية النساء على أساس النتائج العملية، لا العمر أو المكانة التقليدية. فالحكمة لم تعد محصورةً في كبار السنّ أو الرجال ذوي النفوذ، بل صارت تقاس بالقدرة على حلّ النزاعات وتوزيع الموارد وضمان الأمن الغذائي والمائي للعائلات.

يركّز التقرير كذلك على دور النساء المستقبلي انطلاقاً من هذا التغيير. فيذكر أن "الأدوار التي قامت بها النساء خلال الحرب لم تكن مجرّد استجابةٍ ظرفيةٍ، بل تعبيراً عن قدرةٍ حقيقيةٍ على القيادة والتغيير". ويضيف أن "تمكين النساء ودعم مشاركتهن في بناء مجتمعٍ ما بعد الحرب ليس مجرّد خطوةٍ نحو تحقيق العدالة والمساواة، بل شرطاً أساسياً لبناء مجتمعٍ أكثر استدامةً وتماسكاً تكون فيه النساء محركاتٍ رئيسياتٍ للتنمية والصمود المجتمعي".

لذا إن رأى بعض الرجال أنّ أدوارَ المرأةِ القياديةَ حاليّاً مؤقتةٌ ومحصورةٌ بالظرف الاستثنائي، فإن مثل هذه التجارب — إذا ما استمرت — يمكن أن تؤسّس لبنيةِ سلطةٍ محليةٍ أكثر تنوعاً ومرونةً، وفق رئيسة حسنين.

يختلف تقييم النساء اللواتي تحدثن للفراتس بشأن مستقبل دورهن ومدى تجذّره. وعلى ثقل المسؤولية وضغطها النفسي المستمر، تشعر أمّ عايش أنّ ما تعمله ليس مجرّد دورٍ مؤقتٍ، بل تحوّلاً اجتماعياً لا ينبغي أن يزول بانتهاء الحرب. وتقول: "إذا المرأة قدرت تدير حياة مخيم كامل بظلّ الحرب، فهي قادرة تدير مؤسسات ومجتمع لمّا ترجع الحياة". لكنها تتوقف قليلاً قبل أن تستطرد: "مش طموحي منصب. طموحي يرجع الأمان ويتقسّم الحمل، وما نرجع خطوة لورا وكأنه هالمرحلة ما صارت".

تعتقد أم عايش أنّ القيادة النسائية داخل هذه المخيمات ليست "حركةً نسويةً معلَنة"، بل ضرورةً اجتماعيةً أَمْلَتْها الصدمة الجماعية، وتحوّلت مع الوقت إلى مصدر قوةٍ ومكانة. تعلّق: "لا أحبّ وصف ما أقوم به بأنه تحرّرٌ أو قيادةٌ نسوية". فعندها بدأ كلّ شيءٍ "لأن الرجال إما استشهدوا أو أُصيبوا أو يقاتلون في مكانٍ بعيدٍ، فكان لا بدّ لأحدٍ أن ينهض".

هذا المنظور لا يقتصر على أمّ عايش. فبعد عامٍ ونصفٍ من التجربة، ترى أمّ عبيدة أن المرأة في غزة لم تُدفع إلى القيادة طوعاً، بل نهضت لحماية ما يمكن إنقاذه. وقدّمت نموذجاً حيّاً لمساهمة المرأة في بنى السلطة المحلية المؤقتة وممارسة صلاحياتٍ فعليةٍ من فضّ النزاعات وتمثيل المجتمع وتنظيم الحياة اليومية. وهو ما يجعلها تقدّم دوراً عرفياً بامتيازٍ، واحداً من أبرز تجلّيات تحوّل وظائف النساء القسريّ أثناء الحرب. وتؤكّد ذلك بعبارةٍ ختامية: "نحن لسنا بديلاً عن الرجال، نحن استمرارٌ للحياة بغيابهم".

ترى خديجة أبو لبدة أن القيادة النسائية في هذه المرحلة استجابةٌ تاريخيةٌ لغياب الرجل القسريّ، وليست انقلاباً على الأعراف. ومع ذلك تشعر بقدرٍ من الفخر لأنها ساهمت في حماية مجتمعها داخل المخيم قائلةً: "النساء يقفن معي [. . .] وهذا يكفيني للاستمرار حتى بعد انتهاء الحرب".


تظهر تجربة المرأة الغزّية في الحرب تحوّلاً بنيوياً لا يمكن قراءته ضمن أطرٍ نمطيةٍ أو افتراضاتٍ مسبقةٍ عن النسوية ودورها. لم تخرج المرأة إلى ساحات الفعل العامّ طلباً للحرية أو صداماً مع منظومةٍ اجتماعيةٍ قائمةٍ، بل دفعاً بضرورات الحياة وبحثاً عن أدنى مقوّمات البقاء.

غير أنّ هذا الفعل الاضطراري اتّخذ معنى جديداً مع الوقت. فقد تحوّل إلى إثباتٍ عمليٍّ لقدرة المرأة على إدارة الشؤون المحلية، وملء فراغ السلطة، وبناء شبكات دعمٍ وصمودٍ داخل المجتمع.

قد تقدّم هذه التجربة نموذجاً لفهم قدرة الأزمات على دفع المجتمعات لإعادة تعريف الأدوار الاجتماعية، وتفتح آفاقاً جديدةً للنساء باتجاه مشاركةٍ فعليةٍ في صناعة القرار المحليّ.

اشترك في نشرتنا البريدية