من 20 فبراير إلى "جيل زد 212".. نضال شباب المغرب من الشارع إلى العالم الرقمي

ترتبط احتجاجات جيل زد بتاريخ احتجاجي مغربي، فصله الأهم مظاهرات 20 فبراير، متزامناً مع احتجاجات مشابهة لنفس الجيل في شتى أركان العالم

Share
من 20 فبراير إلى "جيل زد 212".. نضال شباب المغرب من الشارع إلى العالم الرقمي
لا يتجاوز عمر أكبر معتقلٍ ثلاثين سنة | خدمة غيتي للصور

مساء السبت، السابع والعشرين من سبتمبر 2025، وصلتُ إلى ساحة "باب الأحد" وسط العاصمة الرباط قبل ساعةٍ كاملةٍ من الموعد الذي حددته حركة "جيل زد 212" لانطلاق احتجاجاتها. كانت الساحة هادئةً على غير عادتها، والشباب متفرقين حولها. أعمارهم بين ثماني عشرة وخمسٍ وعشرين سنة تقريباً. كانوا في مجموعاتٍ صغيرةٍ لا يتجاوز عدد أفرادها ثلاثةً أو أربعة. بدت وجوههم متعارفةً، لكنهم تجنّبوا الاختلاط في مجموعةٍ واحدة. كانوا يتحسسون خطواتهم الأولى في العلن بعد تعبئةٍ رقميةٍ طويلة. انتشرت آلات تصوير وسائل الإعلام على أطراف الساحة، فيما دفع الفضول بعض المواطنين للتجمهر في المكان.
يومئذٍ فاقت أعداد عناصر الأمن عددَ المتظاهرين. كأنهم يستعدّون لحدثٍ أكبر من احتجاجٍ شبابيٍ أعلن منظّموه أنّه سلميٌ يطالب بالحق في التعليم والصحة المجانيَّيْن ومحاسبة الفاسدين. لم يكن في الساحة حينها تجمهرٌ حقيقيٌ ولا شعاراتٌ مرفوعةٌ ولا هتافات. ومع ذلك بدأت الاعتقالات بسرعةٍ لافتةٍ وبلا سابق إنذارٍ، مستندةً إلى المظهر والعمر وطريقة اللباس لا إلى أفعالٍ مخالفةٍ القانونَ، وأحياناً لمجرّد التحدث إلى الصحافة. رأيتُ بعينيَّ مواطنين يُعتقلون وهم يمرّون بالشارع لا علاقة لهم بالاحتجاج. لم يكن ما حدث تدخلاً لتفريق مظاهرةٍ، بل منعاً لولادتها. فقبل أن تتشكل أيّ وقفةٍ، غادرت سيارات الشرطة ممتلئةً بالموقوفين، وشهدت مراكز الأمن اكتظاظاً غير مسبوقٍ، وهو ما عاينتُه مباشرةً بحكم عملي محاميةً.
لم تكن الرباط استثناءً. في اليوم نفسه انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صورٌ ومقاطع مصورةٌ مشابهةٌ من عدّة مدنٍ مغربيةٍ مختلفة، من الشمال إلى الجنوب. كان المشهد واحداً، الردع قبل التجمهر، والاشتباه قبل الفعل. وبدا واضحاً أن المقاربة الأمنية موحدةٌ، وأنّ ثمّة قراراً مركزياً للتعامل مع احتجاجات حركة "جيل زد 212" بالتدخل المسبق لا بالمراقبة أو الحوار. لم تمنح هذه التحركات حتى فرصةً لتبيّن إن كانت ستتحول إلى فعلٍ احتجاجيٍ حقيقيٍ أم ستنتهي كما بدأت.
ترتبط مظاهرات "جيل زد" أفقياً ورأسياً بحركاتٍ احتجاجيةٍ أخرى أثَّرت عليها. أما أفقياً، فلا يمكن فصل الحركة في المغرب عن حركاتٍ احتجاجيةٍ حول العالم يقودها شبابٌ من نفس الجيل، تتشابه وسائلهم في التعبئة والتنظيم، وإن اختلفت أسبابهم. وأما رأسياً فتأثرت الحركة بتاريخٍ احتجاجيٍ طويلٍ في المغرب، أهمّ حلقاته احتجاجات 20 فبراير سنة 2011 وحراك الريف سنة 2016. حاولت مظاهرات جيل زد تجنّب أخطاء من سبقهم والاستفادة من خبراتهم، فتحركت بلا قيادةٍ واضحةٍ، بخطابٍ اجتماعيٍ مباشرٍ يركّز على الحق في التعليم والصحة وتحسين البنية التحتية والخدمات الأساسية. وينتقد خطابهم في الوقت نفسه الأولوياتِ الحكوميةَ التي ترصد مليارات الدراهم لدعم مشروعات كرة القدم والاستعداد لتنظيم كأس الأمم الإفريقية سنة 2025 وكأس العالم سنة 2030.


ينتمي جيل زد في المغرب إلى فئةٍ عمريةٍ بين ثلاث عشرة وثمانٍ وعشرين سنة. نشأ هذا الجيل في ظلّ أزماتٍ اقتصاديةٍ متفاقمةٍ، ووعودٍ رسميةٍ متكررةٍ بالإصلاحات مرتبطة بما سُمِّي "العهد الجديد" وآفاقه السياسية. لكن هذه الوعود لم تفضِ إلى أيّ تحوّلٍ ملموسٍ في مؤشرات العدالة الاجتماعية والإنصاف المجالي، أي المساواة بين المواطنين على اختلاف مكان سكنهم. بل عايش هذا الجيل تراجعاً مستمراً للخدمات الاجتماعية الأساسية، خاصةً الصحة والتعليم، وشهد مظاهر التفاوت والظلم.
نشأ شباب هذا الجيل في المغرب مثل أقرانهم حول العالم، في زمن الإنترنت والهواتف الذكية، ما جعلهم أكثر اتصالاً بالعالم وأقل خضوعاً للأنماط الاجتماعية والسياسية التقليدية. ومع تأكيد انشغالهم بالقضايا التي تشغل أقرانهم حول العالم، حرصوا على تأكيد خصوصية خبرتهم المغربية على النحو الذي يظهر في تسمية حركتهم "جيل زد 212" نسبةً إلى رمز الاتصال في المغرب. قدّمت الحركة نفسَها فاعلاً اجتماعياً جديداً يمثّل هذا الجيل الرقمي الغاضب. وتصدّرت المشهدَ العموميَّ أثناء احتجاجات الخامس والعشرين من سبتمبر 2025، لتعلن ولادة موجةٍ احتجاجيةٍ مختلفةٍ في لغتها وأدواتها ورؤيتها العلاقةَ بين المواطن والدولة.
وشكَّل حادث وفاة ثماني نساءٍ أثناء الولادة نقطة تحوّلٍ مفصليةً فجّرت الغضب الشعبي بين الشباب. توفّيت النساء إثر عمليات توليدٍ في مستشفى الحسن الثاني بمدينة أكادير. تحوّل الحدث رمزاً لانهيار الخدمات الصحية، وأجج غضباً في صفوف الشباب. إذ جاء تتويجاً لتراكماتٍ طويلةٍ من الإخفاقات المؤسساتية والانتهاكات غير المباشرة للحقّ في الصحة، الذي يكفله الدستور المغربي.
الحادث الذي وقع بسبب غياب الحدّ الأدنى من الرعاية الصحية في مستشفى الحسن الثاني بأكادير لم يكن واقعةً معزولة. ففي الرابع والعشرين من سبتمبر 2025، توفّي شابٌّ في مدينة فاس إثر نزيفٍ حادٍّ بعدما رفض مستشفى الحسن الثاني الجامعي استقباله. وقبلها بأيامٍ، في الخامس من سبتمبر، فقدت سيدةٌ حاملٌ حياتَها في زاكورة بسبب تعطل قسم الإنعاش وغياب طبيب التخدير، ما حرمها من معالجة نزيفٍ حادٍّ أودى بها وبجنينها. وبعدها بأيامٍ معدودةٍ، في الخامس عشر من سبتمبر لفظت طفلةٌ حديثة الولادة أنفاسَها في مستشفى الأطفال عبد الرحيم الهاروشي بالدار البيضاء، بعدما عجزت أسرتها عن إيجاد حاضنةٍ تنقذها من الموت. وهذه أمثلةٌ لحالاتٍ تتصدر الأخبار كلّ يومٍ تقريباً في المغرب.
أمّا حسن أوريد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس والمتحدث الرسمي السابق بِاسم القصر الملكي، فيعزو الاحتجاجات إلى تردّي الخدمات العامة. وفي مقاله "لماذا غضب جيل زد في المغرب" المنشور في أكتوبر 2025، يحاجج بأن الاحتجاجات لم تكن حدثاً عابراً، بل نتيجة تراكمٍ طويلٍ من الإخفاقات الاجتماعية والاقتصادية، أدّت لاتساع الفوارق الطبقية والمجالية وازدياد شعور الشباب بالتهميش بسبب الهوّة بين مغربَيْن: "مغرب الواجهة البراقة" و"مغرب الواقع اليومي الصعب".
ومن الصفات التي تميز حركة جيل زد 212، على رقمية أدواتها وتنظيمها وعالميتها، واقعية مطالبها ومحليّتها. إذ تتمحور هذه المطالب حول الكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية، كما يظهر في شعاراتها التي رفعتها في الاحتجاجات، وأشهرها "كرامة، حرية، عدالة إجتماعية". يعيد الجيل بهذه المطالب صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن. في مقاله "محمد العيادي يحلل ثنائية البيعة والولاء" المنشور سنة 2013، ينقل مصطفى النحال، أستاذ التعليم العالي بالدار البيضاء، محاجّةَ الصحفي محمد العيادي بتأسيس علاقة المواطن بالدولة على "الولاء المتجدد" للملك، قبل أن يعيد دستور 2011 تأسيسها على مفاهيم مثل احترام المواثيق الدولية وحماية الحقوق والحريات ومساءلة المسؤولين.
وتميزت دعوات حركة جيل زد 212 بغياب القيادة المركزية وغياب التنظيم الحزبي الذي يمكن أن يقدّم أيّ إسناد. فقد اعتمدت الحركة على أشكالٍ جديدةٍ من التعبئة الجماعية الأفقية. مثلاً، اعتمدت التعبئة على التصويت الرقمي لاختيار زمان التجمع ومكانه، ولم تنفرد قيادةٌ ما بالقرار. وقادت الحركةَ حساباتٌ بأسماءٍ رمزيةٍ، وشبابٌ غير منتمين تنظيمياً، لا يجمعهم إلا وضوح خطابهم ومباشرته.
ساهمَ في ذلك غياب الوساطة السياسية التقليدية بين المواطن والمؤسسات الدستورية. يقول حسن أوريد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس، الذي خَبِرَ دواليبَ الحكم داخل المغرب إن "البلاد أصبحت بلا طبقةٍ سياسيةٍ حقيقيةٍ، ولا نخبةٍ فكريةٍ يعتدّ بها. وزراؤه، في الغالب، بلا نكهةٍ ولا كاريزما [جاذبية]. لا يجيدون الحديث ولا يتقنون فنّ التواصل، وهو من أبجديات الفعل السياسي وأساس شرعيته".
اعتمد شباب حركة جيل زد 212 على الهوية الرقمية أداةً محوريةً للتنظيم والتعبئة. بدأت التعبئة في "ديسكورد"، وهي منصة تواصلٍ نصّيٍّ وصوتيٍّ ومرئيٍّ، ظهرت سنة 2015 واستُخدِمت أول مرّةٍ في عالم الألعاب، قبل أن تتسع استخداماتها بين أفراد جيل زد وتتحول نقطةَ التقاءٍ سياسيٍ عند بعضهم. تفاعل شباب الحركة على هذه المنصة مع الأحداث الاجتماعية والاحتجاجات الهامشية التي خرجت في عددٍ من المدن والمناطق المغربية لأسبابٍ مختلفة. من أبرز صور التفاعل كانت مسيرة "آيت بومكراز" التي قادها مواطنو المنطقة نحو بلدية مدينة بني ملال في يوليو 2025 للمطالبة بتحسين الأوضاع التنموية، واحتجاجات مستشفى الحسن الثاني في أكادير.
واختارت حركة جيل زد 212 أن تساير الثورة الرقمية التي عاشتها في مظاهر الاحتجاج. فاستخدمت الملصقات الساخرة والمقاطع المصورة القصيرة لنقل رسائل سياسيةٍ تدين اختلالات السياسات العامة. وطالبت بإصلاحاتٍ هيكليةٍ أهمّها تأسيس وفاء الدولة بالتزامها الدستوري بمجانيَّة التعليم والرعاية الصحية، وكلّ هذا كان غائباً في الحركات الاحتجاجية السابقة.
وإبّان التعبئة وقبل بدء الاحتجاجات، عرض شباب الحركة بعضَ المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، وقدَّموها واقعاً معاشاً لا مجرد معطياتٍ إحصائية. وتتجسد هذه الأرقام في صفوف الانتظار داخل المستشفيات العامة وفي اكتظاظ الأقسام الدراسية وفي البطالة المزمنة وفي الشعور الجماعي بانسداد الأفق الاجتماعي والاقتصادي. فمعدل البطالة مرتفعٌ وسط الشباب رغم التوسع الكمّي في التعليم العالي. ووصل في الربع الثاني من سنة 2025 إلى 12 بالمئة، بحسب المندوبية السامية للتخطيط. هذا بالإضافة إلى نظامٍ تعليميٍ يعاني من أعطابٍ هيكلية. فحسب تقرير البرنامج الدولي لتقييم الطلبة لسنة 2022 وصل حوالي 18 بالمئة من الطلبة المغاربة إلى المستوى الثاني في الرياضيات والعلوم والقراءة، وهو أقلّ بكثيرٍ من المتوسط الدولي. ومنظومة الصحة عاجزةٌ عن ضمان التغطية والرعاية، فأصبح المواطن يلتجئ إلى المصحّات الخاصة والمستشفيات شبه العامة مع عدم القدرة على الدفع.
ومما أجّج وتيرةَ الاحتجاجات المفارقة الصادمة بين مسارات التنمية في البلاد. فالمغرب كما صرّح الملك في خطاب العرش لسنة 2025 يسير بسرعتين. وبينما يطالب مواطنون بتوفير الحدّ الأدنى من الخدمات العامة الأساس من تعليمٍ وصحةٍ وبنيةٍ تحتيةٍ، تعلن الدولة توجيهَ استثماراتٍ ضخمةٍ لتنظيم كأس الأمم الإفريقية لكرة القدم سنة 2025 وكأس العالم لكرة القدم سنة 2030. وهو ما فسّره شباب الحركة في النقاشات التي احتضنها تطبيق ديسكورد على أنه تحييدٌ لحقوقهم لصالح أولوياتٍ لا تعكس احتياجاتهم الملحّة.
ومما ميّز احتجاجاتِ حركة الشباب طبيعتها السلمية، رغم بعض الانفلاتات التي عرفتها عدّة مدنٍ وتبرّأت منها الحركة. بالإضافة إلى المطالب الواضحة والمشروعة التي ترتكز على الحقوق الأساسية المنصوص عليها في المرجعيات الدستورية والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان.


بداية فبراير 2011 بدأت التعبئة الأولى لخروج مظاهراتٍ رفعت شعاراتٍ سياسيةً واقتصاديةً وثقافيةً في عددٍ من المدن المغربية. كانت ثمار الربيع العربي تُجنى في تونس ومصر. وبعدها وصلت اللحظة التاريخية. رفع شباب حركة 20 فبراير السقفَ وطالبوا بتغيير نظام الحكم إلى ملكيةٍ برلمانيةٍ عوض الملكية المطلقة. أي إن المؤسسة الملكية تسود ولا تحكم. كان الناس حديثي العهد بمنصة فيسبوك، لكنه سرعان ما أصبح المنصة الرسمية للتنظيم ومختبراً مفتوحاً لطرح الأفكار ونقاش الاختلافات وصياغة مطالب لم تُملِها لا الأحزاب ولا النقابات.
صباح 20 فبراير 2011، كانت الأمطار تتساقط على "ساحة الحمام" في الدار البيضاء حين تجمّع مواطنون يتشابهون في الحلم والارتباك. لم يكن أحدٌ يعلم كيف ستتعامل السلطات مع هذه الاحتجاجات. تجمهر الناس شيئاً فشيئاً، بدايةً بالعشرات ثم بالمئات. ارتفعت الشعارات من كلّ صوبٍ، وامتزجت الأصوات ببرودة المطر. كان بين الحضور شبابٌ وشيوخٌ ونساءٌ وطلبةٌ وعاطلون وفنانون وحقوقيون. لم تكن الدار البيضاء وحدها حينئذٍ، فالمغاربة خرجوا من المدن الكبرى ومن المقاطعات والقرى النائية.
لكنّ الفرحة لم تدم طويلاً. في الحسيمة، قُتل خمسة شبابٍ في ظروفٍ غامضةٍ ومؤلمةٍ، وكانت تلك أولى الكدمات التي أصابت الحركة، ومع ذلك لم تتراجع. وبعد عشرين يوماً بالتمام، جاء خطاب الملك في 9 مارس سريعاً، استجابةً تهدف إلى امتصاص الغضب الشعبي، معلناً تعديل الدستور. إلّا أن الخطاب بدا دون سقف تطلعات الثوار، إذ اقتصر على وعودٍ بإصلاحاتٍ دستوريةٍ شكليةٍ، في حين كانت المطالب بتغييرٍ عميقٍ في طبيعة الحكم. لذلك قرر الثوار العودة إلى الشارع، لكن هذه المرة بتنظيمٍ أوضح وهيكلةٍ أفقيةٍ جديدةٍ بجموعٍ عامةٍ ولجان إعلامٍ وخدمات تنسيقٍ ديمقراطيٍ بلا تأطيرٍ حزبيٍ أو نقابيٍ تقليدي.
عادت حركة 20 فبراير للاحتجاج مجدداً في الثالث عشر من مارس، فكان ردّ السلطة قاسياً. قمعٌ عنيفٌ واعتداءاتٌ في وضح النهار، وهجومٌ على مقرّ الحزب الاشتراكي الموحد الذي ضمّ اجتماعاً للحركة، ومطارداتٌ في ساحة الحمام والأزقّة الجانبية. حينها انتقلت الدولة من المراقبة إلى الاحتواء، ومن الاحتواء إلى الردع، فصار كلُّ من رفع سقفاً أعلى من المسموح به هدفاً مباشراً. ويومئذٍ اعتُقِل أكثر من مئة شخصٍ وأصيب عشرون متظاهراً بجروحٍ وكسورٍ وكدماتٍ في الرأس، بحسب بيانٍ نشرته منظمة هيومان رايتس ووتش.
ومع القمع، استمرت حركة 20 فبراير أكثر من سنةٍ حاملةً شعاراتها الثلاثة، الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. لكنها بدأت تفقد زخمها تدريجياً مع الاستفتاء الدستوري الذي نظِّم في يوليو 2011، وصعود حزب العدالة والتنمية في سياقٍ إقليميٍ تميّز بتنامي الإسلام السياسي، ومعه تزايدت الاعتقالات وحملات التشويه الإعلامي والانقسامات الداخلية.
وكما في حركة جيل زد 212، لم تعرف حركة 20 فبراير قيادةً مركزيةً واضحةً في البداية. لكنّ تكرار الظهور في الوقفات الاحتجاجية والظهور الإعلامي أفرز وجوهاً، بعضها من خلفياتٍ نقابيةٍ وحزبيةٍ، أصبحت معروفةً للرأي العام. أمّا قيادات احتجاجات جيل زد، فلم يصدر عنها إلى نهاية أكتوبر 2025 أيّ تصريحٍ بالصوت والصورة للإعلام. ووجوههم غير معروفةٍ، إذ يفضّلون العمل في الظلّ والاكتفاء بالتعبئة الرقمية الجماعية بلا رموزٍ فردية.
أثناء الوقفات التي شهدتها مدينة الرباط رفع شباب جيل زد الشعارات نفسها التي صدحت بها حركة 20 فبراير، حرية وكرامة وعدالة اجتماعية. غير أنّهم أضافوا إليها شعاراتٍ جديدةً تعبّر عن أولوياتهم الراهنة، أبرزها تلك التي تناهض توجيه الاستثمارات إلى كرة القدم على حساب القطاعات الاجتماعية. ومن أبرز الشعارات التي رفعت "ما بغيناش المونديال.. بغينا الصحة والتعليم" (لا نريد كأس العالم.. نريد الصحة والتعليم). وبرزت إبداعاتٌ لغويةٌ جديدةٌ في صياغة الشعارات إيقاعاً أو سخريةً، إلى جانب استخدامٍ لافتٍ للّغة الإنجليزية بدلاً من العربية أو الفرنسية، سواءً في اللافتات الميدانية أو في المقاطع القصيرة التي ظهرت على وسائل الإعلام، في تعبيرٍ عن جيلٍ يريد أن يخاطب العالم باللغة السائدة فيه.
أغلب الشباب الموقوفين من شباب الحركة يتميزون بمساراتٍ دراسيةٍ جيدةٍ ومؤهلاتٍ عالية. فبينهم طلبةٌ في كليات الطب والهندسة، وآخرون في مدارس الإدارة والاقتصاد والتقنية، إلى جانب قلةٍ من المنتمين إلى الفئات الاجتماعية المهمشة. ولا يتجاوز عمر أكبر معتقلٍ ثلاثين سنة.
أما محمد سعيد السعدي، الوزير السابق للدولة للحماية الاجتماعية والأسرة والطفولة، فيرى في مقابلةٍ على موقع "فبراير.كوم" أن حركة 20 فبراير لم تلبِّ جميع طموحات الشباب مع بعض التقدم الذي أحرزه دستور 2011، لأن جوهر النظام السياسي بعد 2011 لم يتغير كما كان مأمولاً. فاستمر تركّز السلطة في قمة هرم الحكم، واستمر تدهور الأوضاع الاجتماعية وسياسة التقشف في القطاع الصحي ما أبقى أسباب الغضب نفسها التي فجّرت احتجاجات 20 فبراير حاضرةً حتى اليوم في حراك جيل زد.
فالسعيدي يرى أن احتجاجات الحركة سياسيةٌ في جوهرها. فهي مع عدم رفعها شعاراتٍ سياسيةً مباشرةً عن الديمقراطية أو بنية النظام، إلا أنها تطالب بإعادة النظر في أولويات الإنفاق في الدولة. فتطالب بتقديم الصحة والرعاية للمواطنين على المناسبات الاحتفالية للدولة، وهو نقدٌ سياسيٌ لأولويات الحكم في المغرب. ويضيف أن خطط بناء أربعة ملاعب جديدةٍ استعداداً لاستضافة كأس العالم 2030 ستفيد المجموعات المالية والصناعية الكبرى وليس المواطن البسيط. حتى لو حقق تنظيم كأس العالم طفرةً اقتصاديةً ونمواً، فإن تأثيره على عيش المواطن العادي سيكون محدوداً كما أظهرت تجارب دولٍ أخرى مثل البرازيل وجنوب إفريقيا وألمانيا.
ولأن الوعود التي سطرها الدستور الجديد لم تفلح في فرض تحولٍ عميقٍ كان منتظراً منذ 20 فبراير 2011، بدأت بذور الاحتقان تتشكّل من جديد. وفي مناطق ريف المغرب تحديداً حيث شعر الناس طويلاً أنهم خارج خريطة التنمية، خرجت مظاهراتٌ بدايةً في مدينة الحسيمة أواخر أكتوبر 2016 واستمرت إلى يوليو 2017 منتهيةً باعتقال قيادات الحراك وصدور أحكامٍ قاسيةٍ وصلت إلى السجن عشرين عاماً.
ولم يكن حراك الريف معزولاً. فالمطالب السياسية لحركة 20 فبراير تحولت إلى مطالب اجتماعيةٍ مجاليةٍ مع الحراك، نتيجة تراكماتٍ تاريخيةٍ من التهميش والعزلة التي عرفتها المنطقة منذ الاستقلال. بدأ الحراك أفقياً بدون قيادةٍ، لكن سرعان ما برزت قياداتٌ ميدانيةٌ أبرزها ناصر الزفزافي أحد قيادات حراك الريف، الذي وجهت له تهمة "التآمر على أمن الدولة" وحكم عليه بالسجن عشرين عاماً.
غيّرت الدولة طريقةَ تعاملها مع مظاهرات حراك الريف مقارنةً مع حركة 20 فبراير. في البداية تجاهلت الدولة الاحتجاجاتِ التي اندلعت في الحسيمة في ريف المغرب بعد وفاة بائع السمك محسن فكري سَحْقاً تحت شاحنة نفايات. ثم تحولت المقاربة إلى الاحتواء عبر زيارات بعض الوزراء إلى المنطقة لإطلاق مشاريع استثماريةٍ وتقديم وعودٍ بتأهيل البنية التحتية من مستشفياتٍ ومدارس. بعدها انتقلت الدولة إلى المقاربة الأمنية التي انتهت بحملة اعتقالاتٍ شرسةٍ ثم محاكمةٍ وأحكامٍ بالسجن عشرات السنوات.
الدكتور عمر إحرشان، أستاذ القانون العام والعلوم السياسية بجامعة القاضي عياض بمراكش، نشر سنة 2018 وثيقةً بحثيةً بعنوان "حراك الريف: السياق والتفاعل والخصائص"، قال فيها إن حراك الريف دشّن جيلاً جديداً من الحركات الاجتماعية التي تجمع بين الخبرة الميدانية والتعبئة الرقمية، وهو ما مهّد لاحقاً لظهور أشكالٍ احتجاجيةٍ جديدةٍ مثل حركة جيل زد 212.
وبعد مرور أربعة عشر عاماً على حركة 20 فبراير، ظهرت فوارق بين جيل زد وجيل 2011 . إذ كان جيل 2011 في بدايات شبابه ووجد عجلة الإصلاح متوقفةً في البلاد، والمواطنون يعانون صعوبةً في الوصول إلى الخدمات الأساسية، فاختار النزول إلى الشارع بما توفّر له من وسائل بسيطةٍ، في زمنٍ لم يعرف فيه المغرب بعد أيّ حراكٍ اجتماعيٍ واسعٍ منذ تولّي الملك محمد السادس الحكم. أما اليوم فجيل زد ولد من رحم التجارب السابقة، وخَبِرَ حركاتٍ احتجاجيةً متعدّدةً عرفها العقد الأخير عالمياً ومحلياً، وفي مقدمتها حراك الريف الذي خلّف أحكاماً ثقيلةً لا تزال آثارها قائمةً إلى اليوم.


لم يكن سبتمبر 2025 شهراً استثنائياً في المغرب فقط. فعديدٌ من دول العالم عرفت نوعاً جديداً من الاحتجاجات أو نوعاً جديداً من المحتجين. من جبال الهمالايا شرقاً إلى جبال الأنديز غرباً مروراً بجبال الأطلس وفي جنوب القارة الإفريقية، خرج شباب جيل زد في مظاهراتٍ في كلٍّ من نيبال وبيرو والمغرب ومدغشقر، سمّيت احتجاجات جيل زد. سبق أن اندلعت احتجاجاتٌ مماثلةٌ سنة 2024 في كلٍّ من كينيا وبنغلاديش لكنها لم تحظَ بنفس الزخم الإعلامي والجماهيري مثل ما وقع في سبتمبر وأكتوبر 2025.
وعلى بعد المسافة بين البلدان التي شهدت احتجاجات جيل زد، ثمّة قواسم مشتركةٌ بينهم دفعتهم للاحتجاج. المحتجون في هذه البلدان يشتركون في استخدام المنصات الرقمية أداةً للتعبئة، ولهم مطالب متنوّعةٌ تجمع بين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وتوفير الوظائف والخدمات الأساسية من صحةٍ وتعليمٍ، والمطالبة بالكرامة والمساءلة السياسية ومحاسبة المفسدين. غير أن مآلات كلّ احتجاجٍ اختلفت من بلدٍ إلى آخَر حسب طبيعة تعامل كلّ نظامٍ حاكمٍ مع تلك الاحتجاجات التي ما زالت مستمرةً في بعض البلدان بما في ذلك المغرب، وإنْ بوتيرةٍ أقلّ.
في جزيرة مدغشقر، المستعمرة الفرنسية السابقة، اندلعت المظاهرات في الخامس والعشرين من سبتمبر 2025 بسبب نقص المياه والكهرباء. سرعان ما تصاعدت إلى انتفاضةٍ بسبب مظالم أوسع نطاقاً، بما في ذلك الفساد وسوء الإدارة ونقص الخدمات الأساسية التي أدّت لحرمان غالبية السكان من انتظام الخدمات الأساسية ومنها الكهرباء. تحولت المظاهرات السلمية إلى أعمال عنفٍ أسفرت عن مقتل ما لا يقلّ عن اثنين وعشرين شخصاً حتى يوم الثلاثين من سبتمبر 2025. هذا العنف الذي قوبلت به الاحتجاجات في مدغشقر لم يمنع شباب جيل زد في البلاد من المواصلة، خاصةً مع انضمام قياداتٍ من الجيش لهم. انتهى الأمر منتصف أكتوبر وأُجبر رئيس مدغشقر أندري راجولينا على الخروج من السلطة ومغادرة البلاد بعد انقلابٍ عسكريٍ، تتويجاً لأسابيع من المظاهرات التي قادها متظاهرون شبابٌ يشيرون إلى أنفسهم بِاسم "الجيل زد مدغشقر".
كانت الحركة الأشهر التي أطلق عليها اسم احتجاج جيل زد هي انتفاضة نيبال التي انتهت باستقالة رئيس الوزراء كيه بي شارما أولي في التاسع من سبتمبر 2025، وكان قرار الحكومة حظرَ منصّات التواصل وفرضَ قيودٍ عليها هو ما أطلق شرارة احتجاجاتٍ رقميةٍ وتحشيدٍ في الشوارع.
في بيرو بدأت الاحتجاجات للمطالبة بتحسين المعاشات والأجور للشباب، وتوسعت لتشمل مشاكل البيروفيين الذين سئموا من الجريمة والفساد وعقودٍ من خيبة الأمل من حكومتهم. ودعا المحتجون إلى تنحي الرئيس الجديد وبعض نواب البرلمان. وكانت احتجاجات جيل زد في البيرو على موعدٍ مع سقوط أول ضحيةٍ عندما أُعلن يوم السادس عشر من أكتوبر 2025 عن مقتل بول فلوريس، وهو مغنّي راب بيروفي، برصاص شرطيٍّ بزيٍّ مدنيٍّ كان مع المتظاهرين.
وفي المغرب نزلت مجموعةٌ بلا قيادةٍ، تدعى جيل زد 212، إلى الشوارع للمطالبة بخدماتٍ عامةٍ أفضل وزيادة الإنفاق على الصحة والتعليم. ومع الطابع السلمي لتلك الاحتجاجات التي شهدها المغرب، إلا أن قوات الأمن واجهتها في البداية بالاعتقالات والعنف. غير أن بعض الاحتجاجات تحولت إلى أعمال شغبٍ ومواجهاتٍ بين قوات الأمن والمتظاهرين وأدّت إلى مقتل متظاهرين اثنين، وشهدت بعض المدن أعمال عنفٍ وتخريبٍ استهدفت سيارات الشرطة وممتلكاتٍ ومبانيَ خاصةً وعامة.
وبعد توقف الاحتجاجات مؤقتاً استأنف جيل زد مظاهراته بوقفاتٍ سلميةٍ، في حين أعلنت الحكومة المغربية تفهمها للمطالب الاجتماعية بمحاربة الفساد وتحسين خدمات الصحة والتعليم وتوفير فرص العمل، مؤكدةً استعدادها للحوار لأنه السبيل الأمثل لمعالجة الأزمات. فيما كانت حصيلة الاحتجاجات والمواجهات مع رجال الشرطة مقتل ثلاثة أشخاصٍ واعتقال المئات بين متظاهرين سلميين ومخربين.
تشابهت الوسائل والأسباب التي دعت لاندلاع احتجاجات جيل زد في بعض البلدان، لكن النتائج لم تكن متشابهة. في مدغشقر كانت النتيجة دراميةً بعد سيطرة الجيش على السلطة وهروب الرئيس إلى الخارج، وسط تساؤلاتٍ عن مستقبل الديمقراطية في البلاد تحت حكم العسكر. بينما شهدت نيبال خسائر بشريةً كبيرةً قبل إسقاط رئيس الوزراء، لكن مع تعميقٍ أكبر في أزمة الثقة مع السلطة.
فيما يتواصل الضغط الشعبي على السلطة في المغرب التي قد تضطر إلى اتخاذ بعض الإصلاحات الجزئية، لكن دون أثرٍ طويل الأمد، إن استمرت الاحتجاجات. وهو نفس الاتجاه الذي قد تأخذه احتجاجات جيل زد في بيرو في ظلّ تشبّث الرئيس البيروفي بالسلطة وغياب أيّ إشاراتٍ إيجابيةٍ للاستجابة لمطالب المتظاهرين.


بعد ثلاثة أسابيع على خروج حركة جيل زد 212 إلى الشارع، اختار القصر الملكي المغربي أن يردّ بقراراتٍ رسميةٍ لا بخطابٍ سياسيٍ كما حدث مع حركة 20 فبراير. فقد أعلن المجلس الوزاري برئاسة الملك عن رفع ميزانية الصحة والتعليم وإنشاء مستشفياتٍ جامعيةٍ جديدةٍ وتأهيل البنية التحتية لهذين القطاعين. كذلك تقديم 75 بالمئة من تكلفة الحملات الانتخابية للمرشحين ممّن أعمارهم أقلّ من خمسٍ وثلاثين سنةً، وتخصيص لوائح جهويةٍ لدعم النساء، وكلّها إجراءاتٌ لتشجيع الشباب على دخول البرلمان. تلك القرارات عكست أن نبض الشارع لم يخمد، وأن الاحتجاج سيظلّ جزءاً من المشهد المغربي ما دامت التفاوتات الاجتماعية والانتهاكات قائمة. إلا أن السؤال الجوهري يبقى مطروحاً، هل تكفي الاستثمارات المعلنة لتحسين حياة المواطنين، دون إصلاحٍ حقيقيٍ في إدارة الموارد البشرية ومحاسبة المفسدين وتفكيك منظومة الريع التي تعيد إنتاج الأزمة نفسها.

اشترك في نشرتنا البريدية