رحلة الوشم في مصر.. من قداسة الطقس إلى وصمة التحريم

تحولت رمزية الوشم عند المصريين من طقس عبادةٍ فرعونية إلى رمز للهوية القبطية، حتى أصبح اليوم عنواناً للحرية الفردية.

Share
رحلة الوشم في مصر.. من قداسة الطقس إلى وصمة التحريم
مر الوشم عند المصريين بعدة مراحل ليصل في صورته الحالية لكنه يظل شاهداً حياً على رحلة طويلة من التحولات | تصميم خاص بالفراتس

أمام كنيسة العذراء مريم على ضفاف ترعة الإسماعيلية بمدينة مسطرد بمحافظة القليوبية شمال شرق القاهرة، ووسط عشرات الباعة المعروفين في الموالد، يجلس أمير عزيز الذي ورث مهنة دقّ الوشم ويراها جزءاً من هويته وحكاية عمرها أجيال في عائلته. يقول لي: "أنا وأولاد عمتي ورثناها زي ما اتعلمناها من اللي قبلنا".
ألِفَ أمير كغيره من المصريين في القرى عادة دقِّ الوشم (علامة دائمة أو رسم يُطبع على الجلد باستخدام حبر الوشم) المرتبط بالمناسبات الدينية الإسلامية والمسيحية، وخاصة في احتفاليات موالد الأولياء والقديسين. إذ تكثر طلبات وشم الصليب في الموالدِ المسيحية، وذلك رغم محاولات تحريمه من بعضِ قادةِ الكنيسة القبطية.
ومع أنّ عادة الوشمِ تراجعت، لاسيما عند المسلمين، ظل للوشمِ في مصر مكانةٌ خاصةٌ وتاريخ طويل يمتد إلى عهدِ الفراعنةِ، وارتبط بالعبادة والابتهال. وحفظت الجدّات الوشوم ورموزها المرتبطة بالحماية من الشرور أو الحالة والمكانة الاجتماعيتين أو حتى علامات الحسن والجمال، وورَّثنها كما يورّثن الحكايات. لكن مع تغيّر الزمن، وصعود التحديث الذي حاول جمال عبد الناصر تطبيقه، هجرت النساء دايات المنازل إلى غرف المستشفيات، وذابت طقوس النذر التي ارتبطت لديهن بالوشم، وتكاثرت أصوات التحريم والتحذير من الأمراض، حتى صار الوشم في عيون كثيرين خرافة أو خطيئة. ومع ذلك ظل الوشم يختبئ في أجسام زوار مواسم الموالد، وعلى سواعد رجال ونساء احتفظوا بملامح الماضي، قبل أن يعود إلى النور على أيدي جيلٍ جديدٍ يرى فيه فناً وهويّة.


في سنة 2014، أجرى باحثون من المعهد الفرنسي للآثار الشرقية وجامعة ستانفورد تصويراً بالأشعة تحت الحمراء لسبع جثث فرعونية محنطة وجدت في وادي الملكات بالأقصر. وكشف تصويرهم عن وشوم غطاها تغير لون الجلد ومواد التحنيط التي حفظتها عبر القرون. حملت أجساد النساء السبع رموزاً مقدسة، ارتبطت بربات الحماية والخصوبة والجمال، منها عين وادجيت المعروفة أيضاً باسم عين حورس، وهي الرمز المقدس المرتبط بالآلهة التي تحمل الاسم نفسه وحامية الوجه القبلي. هذا الرمز تحول من وشم على الجسد إلى عين حارسة تعلقها المصريات على صدورهن تعويذة للحماية ودرءاً للشر والحسد.
يؤكّد هذا الكشف العلمي إلى ما يذهب إليه كثير من علماء المصريات من قدمِ عادة دق الوشم عند المصريين. إذ يروي عالم المصريات زاهي حواس في حديثِه مع الفِراتْس أنّ عادة دقِّ الوشم تعود إلى عصرِ الدولة الوسطى، التي امتدت من سنة 2040 إلى سنة 1782 قبل الميلاد، وأنّ عين حورس كانت أشهر الرسومات التي وضعتها النساء على قفا الرقبة للتقرب من الآلهة.
تنوعت استخدامات الوشوم عند المصريين القدماء بين طلاسم حماية أو رموز خصوبة. وارتبط الوشم ارتباطاً وثيقاً بدياناتهم القديمة، فكان يُدَق ليميز راقصات المعابد وخادماته اللائي يكرّسن أنفسهن لخدمة إله المعبد. وبلغ من أهمية الوشم عندهم أن أدواته كانت توضع في توابيت الموتى كي يستخدمونها بعد البعث، حسبما يذكر راجي طلعات حلمي في دراسته المقدمة لجامعة حلوان "الوشم ورموزه الشعبية في الفن القبطي"، المنشورة سنة 2008.
وتجاوزَ استخدام الوشم في الطقوسِ والرموز الدينية إلى استخدامهِ للعلاج. تقول إيمان متولي عبدالعاطي، الباحثة في جامعة حلوان، في دراستِها "العلامات والرموز في الوشم المصري والوشم الأمازيغي" المنشورة سنة 2023، إنّ المصريين كانوا يزعمون أنّ الوشم يبعد عنهم الحسد والأرواح الشريرة. وبهذا أصبح لهم تعويذة ترسَم لحمايتهم من السحر وأضراره، أو طلباً للخصوبة والنماء كما في وشم زهرة اللوتس التي يقول زاهي حواس إن قدماء المصريين اعتقدوا أنها "غذاء للآلهة"، فرسمت على المقابر والمنازل وجدران المعابد ووشمت على أجساد النساء.
إلى الآن، لا توجد أدلة فيما اكتشف من آثار وجثث محنطة على أن عادة الوشم في مصر القديمة خرجت عن النساء. يقول حواس: "لم نرَ في الاكتشافات التاريخية للفراعنة وشماً على أجسادِ الرجال، وكل ما وجِد كان على جلد النساء". ويضيف إنّ من هؤلاءِ النسوة كاهنة معبد دندرة المكرس لعبادة الإلهة حتحور، ربة إلهةِ الحب والأمومة.
يشير عالم المصريات لويس كيمر في كتابه "مذكرات المعهد المصري" الصادر سنة 1948، إلى أنه اكتشف آثاراً للوشم في جثث راقصات فرعونيات، على صدورهن وعلى أجزاء أخرى من أجسامهن. ويقول كيمر إنّ هذه الوشوم ارتبطت بعقائد الدين والأساطير، منها أسطورة أوزوريس وإيزيس التي تعد مرجعاً لكل الأساطير المصرية القديمة. وتورد الكاتبة سوسن عامر في كتابِها "الرسوم التعبيرية في الفن الشعبي" الصادر سنة 1981، أنّ علماء آثار كانوا يُنَقبون داخل الأهرامات قد اكتشفوا علامات للوشم في القبور، وكان يغلب عليها اللونان الأسود والأزرق. وهما اللونان اللذان ما زالا يستخدمان في الوشم في مصر، وإن غلبَ اللون الأزرق على وشوم النساء في الصعيد.
لم تقتصر دلالات الوشم على الحمولة الدينية والاعتقاد بقدراته العلاجية، إنّما تعداها لتمتزجَ به عادات التجميل. كانت المرأة المصرية في العصر الفرعوني تزيّن ظهر يدها ورسغها برسوم ووشوم لتضفي على جسدها لمسة زينة، وفي الوقت نفسه تؤمن أنها تحمي جسدها من السحر والأعداء والحسد والشرور. وتشير سوسن عامر إلى أنّ الوشم عند الرجال اقتصر على صورة طائرٍ ما غير محدد لحماية الرأس من الصداع. وكان منهم من يضع نقطة فوق الذقن ونقطة أخرى على الناحية اليمنى من الأنف من أجل الحماية من آلام الضروس، ونقطة ثالثة عند الجبين لكي تحميه من الأمراض ومن الحسد والعين. وهو ما توارثه أهالي الصعيد، ولاسيما الأقباط، حتى العصر الحديث.


عرف المصريون الأديان الكتابية مبكراً من العبرانيين المتنقلين بين أرض مصر وأرض كنعان (فلسطين وجنوب لبنان الحاليتين). وبينما كان العبرانيون يعافون الوشوم لتحريمها في عقيدتهم، استمر الوشم في مصر على حاله دون تبديل، ولم يثبت تأثر المصريين في تلك الحقبة بعادات الشعوب المجاورة. استمر الحال هكذا حتى عرف أبناء وادي النيل المسيحية التي تأثرت في نشأتها باليهودية التي حرَّمت الوشم كما جاء في سفر اللاويين "وَلاَ تَجْرَحُوا أَجْسَادَكُمْ لِمَيْتٍ. وَكِتَابَةَ وَسْمٍ لاَ تَجْعَلُوا فِيكُمْ. أَنَا الرَّبُّ". لكن ذلك التأثر لم يستمر طويلاً.
تقول الباحثة في علم الإناسة مروة عبدالمنعم في حوارٍ مع الفِراتْس إنّ الرموز والتقاليد الفرعونية انتقلتْ إلى الأجيال اللاحقة من المصريين "من دون وعي مباشر بالأصل الفرعوني[. . .] لأن الوشم صار جزءاً من هوية المكان". وأوضحت أنه مع تطور الثقافات وتغير الأنظمة العقائدية، أصبح الجسم ساحة للصراع بين السلطة والدين والمجتمع. فقد نظرت العديد من الأديان الكتابية إلى الوشم "تدخّلاً غير مشروع في خلق الله أو تشويهاً للجسد المقدّس".
بظهور المسيحية تغيَّرَ فكر العالم تجاه وشم الجسم وتغيرت الأهداف. رأتْ المسيحية في البداية أنّ الوشم متعلق بالوثنية فحُرّم الوشم على الأقباط. إذ كانت الوشوم في بداية العصر الروماني، منذ سنة 31 قبل الميلاد، ترسم على الوجه أو اليد عقوبةً أو علامةً للعبودية. لكن بعد اعتراف الإمبراطور قسطنطين بالديانة المسيحية إحدى الديانات الشرعية داخل الإمبراطورية الرومانية بداية القرن الرابع الميلادي، أصدر قراراً بتحريم عمل الوشم على أوجه المجرمين كون الإنسان صورة الله ومثاله.
ربطت الأديان الوشم بالخروج عن الطاعة. واشتد الرفض حين ارتبطت ممارسات الوشم بطقوس وثنية أو هويَّات ثقافية محلية خارجة عن سلطة الدين الرسمي، مثل طقوس قبائل أو مجموعات لم تكن تتبع الدين السائد. هذا ما جعل الوشم علامة على الانحراف أو التمرد على النظام الديني والاجتماعي أحياناً.
رفضت المسيحية الاستمرار في دق الوشوم عملاً بما هو مذكور في العهد القديم. ولكن لم يستمر هذا الرفض طويلاً. فقد جاء الإمبراطور قسطنطين الثاني وفرض الوشم على جباه جميع الأساقفة الأرثوذكس في مملكته، إذ يحكي المؤرخ الكنسي ثيودوريتس القورشي في كتابه "ذا غريك إكليسياستيكال هيستوريانز أوف ذا فيرست سينشريز أوف ذا كريستيان إيرا" (المؤرخون الكنسيون اليونانيون في القرون الستة الأولى من العصر المسيحي)، في طبعة سنة 1948، أنّ داماسوس، أسقف روما، حُكم عليه مع ثلاثة وعشرين راهباً بالعمل الشاق في مناجم الفحم في فاوون (وادي فينان) بفلسطين، لأنه يدعم المؤمنين بقوانين ومجمع نيقية.
أُرْسِلَ داماسوس ورفاقه إلى مصر على متن سفينة، حيث عُذِّبوا بالضرب على الرأس. ووضع داماسوس علامة الصليب على جبهته ورفاقه، ليتهرب من وشمِ العقابِ الذي كان الرومان يضعونه على المجرمين. لتصبح هذه الحادثة البذرة الأولى لوشم الصليب الذي اتخذه الأسقف والرهبان في مصر، ليستبدل الوشم على الجبهة والمعروف لدى المحكوم عليهم وقتئذ. جعل هذا العديد من المؤمنين بالمسيحية يدقون الوشم على جلودهم بعلامة الصليب أو برموز للمسيح شهادةَ إثبات على مسيحيتهم، ولا يزال وشم الصليب باقياً حتى الآن بعد أن انتقل موضعه من الجبهة للرسغ.
لم تكن حادثة الأسقف والرهبان مع الوشم الأولى، لكنها كانت الدافع للعديد من الحكام أن يسلكوا المسلك نفسه. يذكر ساويرس ابن المقفّع، أحد علماء الكنيسة القبطية في القرن العاشر، في كتاب "تاريخ البطاركة" أن الأقباط واجهوا الاضطهاد في أحداثٍ كثيرةٍ باستخدام الوشم، ومنها في عهد البابا ألكسندروس الثاني البطريرك الثالث والأربعين للكنيسة الأرثوذكسية المصرية بين سنتيْ 704 و729. ألزم الوالي الأموي لمصر قرة بن شريك، بوشم كل راهب بحلقة حديد في يده بها اسمه واسم دیره، ومَن يرفض الوشم كانت تقطع يده. وكان الأقباط يتحدَّون ذلك بوشم الصليب.
لم تكن تلك الحادثة الوحيدة في العهدِ الأموي لاضطهادِ الأقباط، إذ ينقل ساويرس أنّ الوالي الأموي عبدالله بن عبدالملك بن مروان أمر أن يرسم المسيحيون على أيديهم وشم الأسد بدلاً من علامة الصليب، وكل من يعترض تقطع يده. وذهب عبدالله إلى البطريرك وطلب منه أن يدقّ وشم الأسد على جسده فرفض البطريرك وطلب مهلة ثلاثة أيام، لكنه توفى قبل تنفيذ الوشم. ويشير المؤرخ القبطي الأسقف يوحنا النيقوسي، المولود في نهايات القرن السابع، في كتابه "تاريخ مصر" إلى ضغوط كبيرة مورست على الأقباط في مصر في تلك الفترة في العصر الأموي، وكان الهدف منها إظهار خضوع المسيحيين وتمييزهم عن المسلمين بعلامات مميزة مثل الوشم أو الملابس الخاصة.
تراجعت سياسة فرض الوشم القسري مع بدايات الدولة العباسية في القرن الثامن. لكن الأثر الذي تركه الاضطهاد في مراحل من العهد الأموي جعل الأقباط يرسِّخون عادة وشم الصليب على اليد اليمنى دليلَ هوية دينية دائم. أصبح الوشم علامة تمييز ذاتية يختارها الأقباط طوعاً لضمان إثبات انتمائهم أثناء دخول الكنائس أو في مواجهة أي محاولات إنكار لهم، واستمرت عادة الوشم جزءاً من الزينة القبلية، لاسيما بين البدو والنساء.
استمر هذا التسامح في فترة الدولة الفاطمية منذ القرن العاشر. وازداد وشم الأقباط الصليبَ شعاراً للهوية الدينية والتمييز الذاتي، في ظل نظام اجتماعي متعدد الأديان. وأشار القس منسي يوحنا، راعي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بملوي، في كتابه "تاريخ مصر والكنيسة القبطية" الصادر سنة 2023، إلى أنّ ابرآم البطريرك الثاني والستين سنة 975 صادقَ الخليفة الفاطمي المعز لدين الله، فأعاد له الخليفة إحدى الكنائس التي أخذها المسلمون. وسمحت هذه العلاقة بترقي الأقباط في مناصب كان لا يسمح لهم بها. وساعد سماح الفاطميين باستمرار تقليد الوشم القبطي في أن أصبح وشم الصليب جزءاً من طقوس الهوية والذاكرة الجمعية لدى المسيحيين المصريين.
وعلى تميّز الفاطميين بسياسة التسامح الديني طوال تاريخهم في مصر، إلا أن البلد شهد في حكم الحاكم بأمر الله في القرن الحادي عشر مرحلة استثنائية من القسوة والتشدد تجاه الأقباط واليهود والمصريين جميعاً. فرض الحاكم بأمر الله على الأقباط إجراءات تمييز شملت تعليمات لِبس رموز خاصة ووشم علامات جسدية، من بينها الصليب الحديدي الذي كان يُلزَم المسيحيون بارتدائه. وقد تحوّل هذا الإجراء القسري على المدى الطويل إلى عادة قبطية طوعية، وصار الوشم رمزاً للهوية المسيحية لعدة قرون لاحقة. وظهر اعتقاد بأنّ رسم الوشوم يحمي من الأمراض وأعمال السحر.


انتقلتْ رمزية الوشم ليصبح جزءاً من العبادات والاحتفالات الدينية المسيحية. برز الوشم مع رحلة الحج إلى الأراضي المقدسة في فلسطين، وهي أهم الرحلات التي يرحلها أي مسيحي على وجه الأرض. انعكس ذلك على العادات، فنجد أن القبطي اهتم بتسجيل الرحلة على يده بالوشم.

الوشم في مولد دير الأنبا برسوم العريان، تصوير ميلاد حنا

يوضح المؤرخ البريطاني جون كارزويل في كتابِه "كوبتِك تاتّو ديزاينز" (تصاميم الأوشامِ القبطية) المنشور سنة 1958، أن وشم الصليب على اليد اليمنى ارتبطَ بالانتماء إلى المسيحية القبطية، حتى صار علامة فارقة تميز الأقباط عن غيرهم حتى من الطوائف المسيحية الأخرى، ووسيلة لإعلان إيمانهم في مجتمع متعدد الأديان. وأشار كارزويل إلى أن الحج إلى الأديرة أو إلى القدس يرتبط غالباً بطقس الوشم ختماً روحياً يسجَّل على الجسم. وكان الصليب هو الشكل الأكثر شيوعاً، تليه رموز مسيحية أخرى مثل السمكة، التي تعني "يسوع المسيح ابن الله المخلص"، والملاك ميكائيل وصور القديسين. حملت هذه التصاميم أبعاداً دينية وروحية، واعتبرها الأقباط شهادة حية على هويتهم.
تسجّل كتابات المؤرخين والرحّالة بعضاً من هذا الفخرِ القبطي بالأوشامِ. إذ تحكي المؤرخة وينفريد بلاكمان في كتابها "الناس في صعيد مصر.. العادات والتقاليد"، المنشور سنة 1927 وترجمته دار الشروق سنة 2010، أنّ أحدّ أعيانِ الصعيد من الأقباط أراها بعض الأوشامِ على ذراعه، ولمحت إلى أنّه وشم يسجل رحلتي حجه إلى القدس سنتيْ 1911 و 1914. وتضيف بلاكمان: "وقال لي أحد الأقباط كذلك إن أخته الصغرى تحمل وشماً بتاريخ زيارتها القدسَ على إحدى ذراعيها، وأن أي زيارة لها في المستقبل لتلك المدينة المقدسة ستسجلها بالطريقة نفسها. والدته التي أدت الحج عدة مرات كانت كل تواريخ زياراتها مكتوبة على ذراعيها بالوشم"، وبذلك يكون الوشم وسيلة للتسجيل استمرت عدةَ قرون.
يقول جون كارزويل إن الأقباط بهذا العمل حافظوا على تقليد يربط الجسم بالإيمان. ويمنح الفرد شعوراً بالانتماء لجماعة أوسع. واعتبر كارزويل الوشم جزءاً من "الذاكرة الجماعية" للأقباط يلتقي فيه البعد الديني بالبعد الاجتماعي، ويصبح الجلد بمثابة سجل معلن للانتماء. وأشار الرجل إلى أنّ أقدم عائلة في العالم امتهنت رسم الوشم هي عائلة "رزّوق" القبطية التي هاجرت إلى فلسطين منذ خمسمئة عام. وعملت العائلة على وشم الحجاج في المناسبات المختلفة، وأهم هذه المناسبات أعياد القيامة والميلاد والغطاس، وهو عيد ذكرى تعميد المسيح في نهر الأردن.
اكتشف كارزويل 168 قطعةً من الخشب في متجر رزوق عند زيارته. ويقول إنّ القطع توثّق قروناً من رسوم الوشم المسيحي مستوحاة من الفن القبطي والمصري. ووضّح الكاتب أن الوشوم كانت من الصلبان والمشاهد التوراتية ورموز الأمل مثل أغصان الزيتون. ولا يزال صليب القدس من أكثر التصاميم رواجاً، إذ يجسّد روح الحج والتقوى.

عائلة رزوق أقدم عائلة امتهنت رسم الوشم في مصر | المصدر: عائلة رزوق

تواصل فريق الفِراتْس مع أحفاد رزوق وكان الرد إن "وسيم رزوق" هو المكلف بالحديث مع الإعلام. ولكنه لم يستجب لكل الاتصالات والرسائل حتى وقت كتابة المقال. إلا أنّ العائلة سمحتْ باستخدام معلوماتها والصور التي تنشرها في موقعها على الانترنت. يقول موقع "رزوق تاتو" الإلكتروني الذي دشنته العائلة إنّ قصة المتجر بدأت منذ أكثر من سبعمئة سنة في مصر، إذ "كان أجدادنا يوشمون الأقباط المسيحيين بصلبان صغيرة على معصمهم ليتمكنوا من دخول الكنائس، حتى أصبحت هذه الوشوم التي تُرسم منذ الصغر رمزاً للإيمان والهوية"، كما يقول القائمون على الموقع.


لا تزال عادة وشم الصليب على اليد اليمنى واسعة الانتشار بين الأقباط، لاسيما أقباط الصعيد، وإن تراجعت قليلاً بين الأقباط المنتمين للطبقة الوسطى وما يعلوها. أما بين المسلمين، فيكاد الوشم المصري التقليدي يختفي تماماً. يسوق تلك التغيرات التي حدثت في عقود قليلة، صعود تيارات دينية تنتهج التحريم على الجانبين، القبطي والمسلم، وتغيرات اقتصادية واجتماعية تراجعت معها أفكارٌ وتصوراتٌ ومعتقداتٌ شعبية كانت تغذي الإقبال على الوشم.
ارتبط الوشم بالموالد المسيحية مثل احتفالات القديسين والاحتفالات الإسلامية مثل موالد الأولياء وآل البيت. فأما الموالد المسيحية فتجد فيها الوشّامين في الأعياد مثل مولد الشهيد مارجرجس بميت دمسيس بمحافظة الدقهلية، ومولد السيدة العذراء مريم بدير جبل الطير بمحافظة المنيا، ومولد السيدة العذراء بدرنكة بأسيوط، ومولد السيدة العذراء بمسطرد بمحافظة القليوبية. وكان الوشّامون أو الدقّاقون كما تشيع تسميتهم شعبياً، ينتشرون في مولد السيّد الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة بالقاهرة، ومولد السيد البدوي بطنطا وإبراهيم الدسوقي في دسوق وأبو الحجاج الأقصري بالأقصر. فيدقّ الدَّقاق الوشوم شكل صلبان أو قديسين للأقباط، وأشكال وأسماء المخطوبين والأحباب. فيما انتشرت بين المسلمين وشوم الحماية والوقاية من الحسد والمرض، وتسمى وشوم الحمايل، وكذا الوشوم العلاجية التي كانت ترسم على مواضع المرض والألم بالجسد طلباً للشفاء.
في حديث مع أمير وحيد عزيز، أشار إلى أنّ حكايته بدأت وهو طفل صغير، عندما كان أخوه الأكبر يأخذه معه إلى الموالد مثل مولد الشهيدة دميانة والعذراء مريم. ووسط زحام الموالد والتراتيل وأجواء الفرح الشعبي، رأى أمير أول وشم يُرسم على يد شخص. يتذكر أمير أوائل الوشوم التي رسمها بنفسه على جلود زبائن أخيه: "كنت ببدأ على قدّي. صلبان صغيرة بس. واحدة واحدة اتعلمت لحد ما كبرت". لكن النقلة الحقيقية في حياة أمير في عالم الوشم جاءت من الإنترنت عندما تعرّف على فنانة وشم إيطالية اعتادت زيارة مصر. أخبرني أنّه طلب منها أن تعلّمه. قال لي: "ومن ساعتها بدأت أتعلم الوشم الاحترافي.. وبقيت أعمل كل الرسومات، مش بس الصليب".

يشير أمير أيضاً إلى أنّه لا يترك مولداً لا يحضره، لاسيما الموالد المسيحية، فهي حسب قولهِ: "فيها شغل كتير، بخلاف الإسلامية بيبقى الشغل عبارة عن رسم حنة بس، والبعض الآخر ممكن يهاجم وجودك". وأشار إلى أن أكثر زبائنه من الأطفال الذين تأتي بهم أسرهم لدق الصليب. لكنّ أمير يواجه تحدياً في عملِه مع ازديادِ اعتقادِ المسيحيين بعدم جدوى الوشم، عملاً بآراءِ بعض بطاركة الكنيسة مثل قولِ الأب بولس جورج، الكاهن بكنيسة مارمرقس في مصر الجديدة في أحد اجتماعاته بالكنيسة سنة 2018 إن رأيه الشخصي "أن الوشم ليس أساسه الإيمان، والصليب ليس مظهراً أمام الناس، بل المهم هو القلب وأعمال كل شخص".
تطور الوشم عند الأقباط إلى أشكال مختلفة من صلبان ورسم قديسين. ومع تراجع التأثر بالمعتقدات والعادات المصرية القديمة منذ بدايات القرن التاسع عشر، تراجع وشم الصليب وأصبح تراثاً مصرياً مرتبطاً بالمسيحيين المتدينين، لاسيما في الصعيد والأرياف. وكان الراحل البابا شنودة الثالث بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية حتى سنة 2012، أول بابا معروف عنه أنه لم يحمل وشم الصليب الشائع بين رعايا كنيسته. وأصبح الإعلام القبطي ينبهُ الأقباط في فترة جلوسه على كرسي مار مرقس الرسول، بأن وشم الصليب أو صور القديسين قد ينقل الأمراض. مثلما جاء في خبر بإذاعة قناة الكنيسة "سي تي" في برنامجها المسائي "في النور" في مايو 2012، إذ تحدث الإعلامي إيهاب صبحي عن خطورة دق وشم الصليب والقديسين، لأنّها قد تنقل الأمراض ومنها "التهاب الكبد". ونبه صبحي إلى عدم دق الوشم بقولِه إنّ الإيمان مكانه القلب وليس المنظر أو الشكل. وقال الراحل الأنبا بيشوى، مطران دمياط وكفر الشيخ، في أحد اجتماعاته بكنيسته في ديسمبر 2017: "دق الصلبان خطر على الصحة، ممكن يجيب فيروس سي وبي [الوباء الكبدي] والإيدز… وإحنا ككنيسية كنا مانعين في مولد الشهيدة دميانة تواجد الذين يدقون الصلبان، لأنه يعرّض الإنسان لفيروسات كثيرة. وإحنا بقالنا أكثر من سنة مانعينهم، وربنا يستر على اللي دقوا… يمكنكم ارتداء صلبان كما تريدون".
اليوم تطوّر الوشم عند المسيحيين ليحمل معه الفلسفة الشخصية الممزوجة بالإيمان والعادات والموروث الشعبي. وأصبح ينتشر وسط الأجيال الشابة، ولاسيما الفتيات، بعد أن برزت أشكال معاصرة ومبتكرة من الوشم تحمل رموزاً دينية وغير دينية ولكن بأسلوب فني جديد، وبأدوات متطورة تحميهم من نقل الأمراض. وهو ما يشرحه أمير بقولِه إنّ الفرق بين الوشم الشعبي وما يفعله الوشّامون اليوم أنّ "زمان كانوا بيدقوا بإبرة واحدة [للجميع] وأحبار بدائية، وممكن ما يعرفوش بيدقوا على أنهي (أي) طبقة في الجلد، وساعات يقطعوا وتر من غير قصد، لكن إحنا اتعلمنا دلوقت إن الوشم لازم يكون في أول طبقة من الجلد بالإضافة إلى النظافة.. علشان كده بقينا بنغير الإبرة مع كل زبون، وبحسبها ضمن التكلفة". ويضيف إنّ عنايته هذه بصحةِ وسلامةِ زبائنه جعل الأسعار تزداد، إذ أنّ "الصليب الصغير بخمسين جنيه [تقريباً دولار واحد]، ورسم أي قديس يبدأ من 200 جنيه، والأسعار غليت عشان الإبر والبنج والقطن وإيجار المكان".
تجاوزَ تحريم الوشمِ عند المسلمين أمرَ السلامة والنظافة الشخصية إلى كونِه مناقضاً للمعتقد. إذ يقول شوقي علام، مفتي الديار المصرية السابق، للفراتسْ إن المحَرّم في الإسلام هو ما كان فيه غرز مادة معينة تختلط بالدم، وبالتالي ينجس مكانه. وأوضحَ أن الوشم غير الدائم مثل الرسم بالحنة أو الطبع على الجلد، بأي طريقة دون خلط بالدم، يجوز شرعاً طالما كان زينة للزوج ولا يتعارض مع الآداب الإسلامية ولا يحتوي على صور محرمة.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن فعل الوشم حرام آثم فاعله، رجوعاً للنصوص الواردة في تحريمه، وحملوها على الوشم المستحكم على الجلد. واتفق الفقهاء على أن الوشم نجس لانحباس الدم في الجلد بما ذر عليه، ثم اختلفوا في كيفية إزالته. فذهب الحنفية إلى أن حكم الوشم حكم الاختضاب أو الصبغ بالمتنجس يَطهُر بالغُسل ولا يضر بقاء أثره. "فإذا غُسِل طَهُر ولا يلزم سلخه لأنه أثرٌ يشق زواله"، حسبما ذكر في كتاب "رد المحتار على الدر المختار" لابن عابدين، أحد كبار علماء الحنفية في القرن التاسع عشر.
ورغم تحريمه في الإسلام، استمر الوشم مع بداية الفتح الإسلامي لمصر في المناطق الريفية والقبلية جزءاً من الزينة أو الحماية من الحسد. وظهرت مع الدولة العثمانية أشكالٌ جديدة للوشم مثل العقرب والهلال والأشكال الهندسية البدوية، وبعض الرموز القديمة التي فقد الناس معناها الأصلي. إذ ما زلنا نجد عادة الوشم حتى بين المسلمين في الصعيد. وقد وثّق الرحالة والمستكشفون انتشار الوشم بين الفلاحين في مصر، لاسيما النساء في محافظات الصعيد، بأشكال قريبة من الزخارف النوبية والفرعونية القديمة. ويذكر المستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين في كتابه "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم"، المترجم للعربية سنة 1950، أنّ الصعيديين استخدموا الوشم علامةً قبلية أو هوية عشائرية.
ورثت بعض الأسر في الصعيد تقنيات الوشم من الأجداد، مستخدمين أدوات بدائية وأحباراً طبيعية شبيهة بما كان يستخدم في العصور القديمة. ففي قلب الريف وصعيد مصر ولد الوشم القبطي، بوشم صليب صغير يُرسم على اليد اليمنى في الطفولة، ليكون إثباتاً للمسيحية. وحكت لي والدتي، وهي ابنة محافظة المنيا بالصعيد، أنها كانت تدق هي وجيلها من الفتيات في خمسينيات القرن العشرين الوشم لأنفسهن بغرز الإبر بشكل نقط في المعصم ثم وضع رماد أو هباء الفرن عليه. ويحكي لي هيثم نوّار، الأستاذ بقسم الفنون بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، إلى أنّ والده "كان لديه [وشم] أبو زيد الهلالي راكب على أسد وماسك في إيده سيف مثل الفلكور الشعبي وكان معمول جميل جداً وضخم جداً".
كانت تجربة والدتي وجيلها من فتيات الصعيد في الخمسينيات، جزءاً من سياق اجتماعي أوسع جعل من الوشم ممارسة يومية ذات حضور طبيعي في الحياة الريفية. ويجمع بين الديني والتعبدي والجمالي. غير أنّ هذا الإرث الشعبي لم يظل على حاله، إذ سرعان ما بدأت ملامحه تتراجع مع تشكّل الدولة الحديثة وما رافقها من تحولات اجتماعية وثقافية ومنظومة صحيّة غيّرت من ثقافة الوشم في حياة الناس.

النقلة الحقيقية في حياة أمير في عالم الوشم جاءت من الإنترنت


قبل أن ينتصف القرن العشرين، كانت ملامح التمدين قد ترسخت. وامتدت المدارس إلى المراكز الكبرى لتخدم القادرين والمتفوقين من غير القادرين من أبناء الريف. وانتشر التعليم المدني موازياً للتعليم الديني. لكن فترة الخمسينيات التي تبنت فيها الدولة مشروع تحديث يستهدف مدَّ شبكات التعليم والصحة لجميع مواطنيها، كان هو المعول الأكبر في هدم الأسس التي قام عليها الوشم الشعبي.
بانت ملامح الدولة الحديثة في مصر منذ الخمسينيات وطرأت تغيّرات اهتمام الناس بالوشم، وارتباطه بالعادات والمعتقدات، لاسيما في الصعيد. فمثلاً، مع التوسع العمراني والهجرة من الريف إلى المدينة، والتوسع في مشروع نشر الوحدات الصحية الذي بدأ قبل ثورة يوليو، انتقلت الولادات من البيوت على أيدي القابلات إلى المستشفيات والوحدات الصحية على يد الحكيمات (الممرضات ولاحقاً الطبيبات) والأطباء. كل ذلك أدى لاختفاء الطقوس المرتبطة بالولادة، ومنها وشم النذر أو الحماية من العين. وصار يُنظر للممارسات الشعبية على أنها خرافة أو غير علمية، لاسيما في المدن الكبرى.
في حديثٍ مع نهلة إمام، مستشارة وزير الثقافة لشؤون التراث غير المادي، أشارت إلى أنّه مع صعود التيارات الإسلامية المحافظة، بدأت تنتشر فتاوى تعتبر الوشم حراماً، وأن النظرة الدينية الرافضة للوشم برزت "نتيجة موجات الهجرة الكثيفة إلى دول الخليج، وما حملته من ثقافة مغايرة ذات مفردات تُحرم كثيراً من العناصر الشعبية مثل الوشم والمولد الشعبي وبعض طقوس العزاء".
أوضحت نهلة أمام أن فكرة حرمانية الوشم باتت منتشرة على نطاق واسع. وذكرت أنّها شاهدت عبر أحد المجموعات طلباً من شخص لإزالة وشم عن جسد سيدة متوفاة أثناء الغسل قبل الدفن، اعتقاداً منهم بأن ترك الوشم على جسدها يحرم عليها دخول الجنة. وأشارت إلى أن الوشم تراجع تدريجياً في مدن كثيرة، ومع ذلك فقد استمر في بعض المجتمعات نتيجة ثلاثة أسباب رئيسة. ارتباطه بالمعتقدات الدينية خصوصاً لدى المسيحيين، وبقاء بعض الممارسات العلاجية المرتبطة به، وانتشار موضة الوشم الحديث بين الشباب التي أعادت إحياء العنصر التراثي المهدد بالاندثار. وقالت: "تحول الرسم الحديث إلى أشكال شبابية برموز جديدة تواكب الجيل الحالي وبعض القرى في الصعيد ما زالت تستخدمه لأغراض علاجية، إلا أن دوره كمظهر جمالي تراجع بشدة في العديد من المدن والمحافظات المصرية [. . .] لم يعد الفلاحون هم من يدقون الوشم، بل أصبح يرتبط أكثر بالأجانب ورواد المنتجعات من الطبقات العليا والشباب، وهو ما يعكس تحوّل هذا العنصر من تراث شعبي إلى موضة عصرية بمضامين جديدة".


انقلبتْ علاقة الأجيال الشابة بالوشمِ على تحفظاتِ التيارات الإسلامية المحافظة في السبعينيات وما تلاها، والتي تشاركت مع تغير العادات في التسبب بتراجع كبير في مهنة دقاقي الوشوم. الآن، صار الوشم عند الشباب رمزاً فردياً للحرية والتمرد أو إعلان هوية شخصية بعيداً عن معناه التقليدي.
تؤكد مروة عبدالمنعم في حديثها إلى الفِراتْس أن الوشم أصبحَ أداة لإعادة امتلاك الجسم، خاصة في المجتمعات التي تُقصي أو تُسكت فئات بعينها. إذ تشير إلى أنّ الوشم لم يَعُد مجرد عادة تعبدية أو جمالية، بل تحوّل إلى فعل رمزي يجسّد علاقة الإنسان بجسمه وهويته وذاكرته. وتضيف: "قد يكون أداة للشفاء، أو وسيلة لتوثيق الألم والحب والخسارة والانتصار. فقد يشم البعض أجسامهم تكريماً لأشخاص فقدوهم، أو لاستعادة سيطرة فقدوها، أو لتسجيل مرحلة وجودية فاصلة في حياتهم". وتقول إنّه في المجتمعات التي تُمارَس فيها رقابة متزايدة على الأجسام، يتحوّل الوشم إلى فعل استرجاع للسلطة الشخصية على الجسد. هذا الفعل على بساطته الظاهرة، برأي مروة: "هو فعل ثوري في جوهره، لأنه يواجه أنظمة سابقة اعتبرت الجسم ملكاً للجماعة أو الأسرة أو غيرهما. وهكذا، يتحوّل الوشم من تابو [محرّم] إلى شهادة على البقاء والمصالحة مع الذات".
في إحدى زوايا سوق مدينة دهب بمحافظة جنوب سيناء التقيتُ بكريم أحمد، الرجل الذي تجاوز الخامسة والأربعين. كان كريم يجلس ممسكاً بآلة صغيرة تحدث وشوشات. يقول كريم بابتسامة هادئة: "أنا بشتغل في الجرافيك وتصميم الشخصيات والألعاب من عشرين سنة. وكان نفسي أدخل فنون جميلة وأتعلم رسم الوشم، لكن الظروف خلتني أتعلم بنفسي، من اليوتيوب ومن فنانين أجانب، ومن وقتها الفن بقى جزء من حياتي مش بس شغل".
شُغِفَ كريم بالوشم قبل سبعة عشر عاماً عندما جرّب للمرة الأولى أن يشم جسده. لم يكن القرار سهلاً، تردّد كثيراً بسبب الجدل الديني، لكنه حسبما قال: "بحثت وقرأت النصوص، وخرجت بقناعة شخصية دفعتني للاستمرار فيما أحب ولا أملي على حد رأي، كل شخص حر". واليوم يزين جسده تسعة أوشام كل واحد منها يحمل قصة. يضيف كريم بالقول: "في الأول كنت مجرد هاوي وبحب التاتو [الوشم] وعندي فضول ومع الوقت تعرفت على فنانين تاتو وشجعوني وكانوا يقولوا لي: ليه ما تشتغلش؟ إيدك كويسة في الرسم وأخدت وقت طويل أتدرب، واشتريت الماكينة والأدوات الخاصة، ومن سنة ونص قررت أفتح ستوديو في دهب".
كان المشهد في مدينة دهب في جنوب سيناء مختلفاً. السائحون الأجانب يطلبون رسوماً مستوحاة من البحر والأسماك والشعاب المرجانية. أما المصريون فغالباً ما يسعون وراء وشم يحمل ذكرى حب أو رسالة شخصية يريدون تخليدها. لكن طبيعة المكان لم تخدم المشروع، فالشمس والبحر أعداء للوشم المصمم حديثاً، وعندها حسم كريم قراره: "لازم أرجع للقاهرة، فيها ملايين وتنوع أكبر في الناس وفي أفكارهم".
يقول كريم إنّه يتعامل مع الوشم "نافذةً لروح صاحبه". قبل أن يبدأ الحبر في اختراق الجلد، يحاور زبونه ويسأله عن ما يحب وأي موسيقى يسمعها والأفلام والمسلسلات التي يشاهدها. ويشرح: "مرة جالي واحد بيحب المغامرة والموتسيكلات بشكل جنوني، وقعدت اتكلم معاه وأرسم أفكاره ونمزجها لحد ما طلعت له حاجة عمره ما يشوفها في أي مكان تاني غير على جسمه". في هذه اللحظات ينسى كريم كل الجدل المحيط بالوشم، ويراه فناً شخصياً "أقرب إلى عملية جراحية نفسية". يقول لي: "اللي بييجي يعمل تاتو بيبقى عارف كويس هو جاي ليه ومش محتاج مناقشات دينية. وأنا دوري فنان أرسم وأسيب القناعة للإنسان نفسه بل أطلب من أي عميل متردد أن يذهب ويبحث في كل السبل الدينية والعلمية قبل أن يوافق على دق التاتو وهو في الآخر حر".
بهذا انتزع الوشم من تاريخِه الديني منذ المصريين القدماء وسياقاته الثقافية المرتبطة بالمعتقدات الشعبية، ليصبح تعبيراً عن الهوية الفردية. نجد مثلاً أنّ بعض الفنانين التشكيليين أقاموا مهرجانات للوشم مثل مهرجان الوشم الذي أطلقته استوديوهات "نووير لاند تاتو" سنة 2014 بالقاهرة، وهو حدث جمع فناني الوشم من مختلف أنحاء العاصمة المصرية وفتح أبوابه للجمهور إما لتجربة الرسم أو لمجرّد التعرف على الوشوم والجديد في عالمها. وأسست أورن جيل، وهي فنانة إيطالية فنزويلية وصاحبة "استوديو نووير لاند تاتو"، المهرجان بهدف "كسر قيود الوشم بسبب الأعراف والتقاليد الثقافية". كتبت أورن في بيان صادر عن المهرجان: "إقامة هذه الفعاليات [معارض الوشم]، ونشر منشورات على فيسبوك حول الوشم وثقافته، وتزويد الناس بمعلومات وافية، ساهم في تغيير عقلية ما زالت تعارض رسم الوشم". وعلى جهودِ المهرجان إلا أن هذا التقليد لم يدم طويلاً. إذ تلاشى المهرجان بعد عامين من انطلاقه الأول، بسبب الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالممارسة.
يمكن أيضاً لتجربة شخصية مع الوشم أن تتحوّل إلى مشروع أكاديمي. إذ تقدمت الطالبة ساندرين السلكاوي، بالجامعة الأمريكية، بمشروع تخرجها "وِذ ذا نديل آند ذا إنك" (بالإبرة والحبر) سنة 2019، لإعادة قراءة رموز الوشم الشعبي ضمن رؤية بصرية معاصرة تحاول إنقاذ هذا التراث من الاندثار. هدفَ المشروع إلى إحياء ثقافة الوشم المصرية التقليدية "التي عانت من وصمة العار لفترة طويلة، مما أدى إلى انقراضها تقريباً"، بحسب دراسة ساندرين. تشرح ساندرين على الموقع الإلكتروني الذي أسسته لتوثيق مشروع تخرجها: "في الوقت الحاضر، يبدو أن الجمهور المصري يشعر بالعداء والرهبة من ممارسة الوشم، لذلك يركز المشروع على خلق تجربة جذابة لإثارة اهتمامهم بالوشم، وبالتالي استعادة جزء مهم من تراثنا الثقافي وفتح آفاق جديدة لإبداعات ثقافة الوشم المصرية".
حاولتُ الحديث مع ساندرين، لكن لم أتلق رداً منها. ولهذا توجهت إلى هيثم نوّار، الأستاذ المشرف على مشروعها. يقول لي نوّار إنّ ساندرين عملتْ على المشروعٍ بدافعٍ شخصيٍ، إذ أنّها شابة مسلمة وتملك وشماً على جسدها. وأشار إلى إن الطالبة "عملت تصنيف لأنواع الأوشام سواء كانت دينية أو تقاليد ورسوماتها ودقيق جداً ورصدت كل تاريخ الوشم".


مر الوشم في مصر بعدة مراحل ليصل في صورته الحالية. لكنه يظل شاهداً حياً على رحلة طويلة من التحولات من رمز للعبادة والطقوس الدينية عند المصريين القدماء، إلى علامة إيمانية واجتماعية ارتبطت بالهوية القبطية والشعبية. قبل أن يواجه موجات من الرفض والتحريم. ومع ذلك لم يختفِ الوشم، بل عاد اليوم فعلَ تمرد وحرية شخصية يحمل مع كل إبرة وغرز حبر ذاكرة متراكمة لآلاف السنين. تكشف كيف ظل الجسد المصري مساحةً لإعلان الإيمان أو الهوية أو الجمال أو الاختلاف.

اشترك في نشرتنا البريدية