من الربيع العربي إلى 7 أكتوبر.. "هاكتفيزم" تعبيراً عن الاحتجاج 

تطوّرت حركة "الهاكتفيزم" في العالم العربي من احتجاجاتٍ شبكيةٍ واختراقاتٍ رمزيةٍ مع الربيع العربي إلى حركةٍ رقميةٍ عابرةٍ الحدودَ وأكثر تنظيماً وتأثيراً

Share
من الربيع العربي إلى 7 أكتوبر.. "هاكتفيزم" تعبيراً عن الاحتجاج 
الهاكتفيزم يمثل ساحة صراعٍ جديدةً تتقاطع فيها مجموعة أبعاد | تصميم خاص بالفراتس

في مشهدٍ من المسلسل التلفزيوني "مستر روبوت" (السيد روبوت) الذي بُثّت أولى حلقاته في سنة 2015، يُطرح تساؤل: "هل أنت واحدٌ أم صِفر؟ هل ستتحرك أم ستتوقف؟". في إشارةٍ إلى أن الانسحاب يجعلك صفراً بلا تأثيرٍ، في حين تجعلك المشاركة واحداً قادراً على الإسهام والتغيير. يأتي هذا التساؤل في سياق حركة "الهاكتفيزم"، عندما يمكن للفعل الرقمي والتمرد على الأنظمة أن يكون وسيلةً للمبادرة والتعبير عن مواقف أخلاقيةٍ، بين تمثيل الرمزية الرقمية للواحد والصفر والاختيار بين الجمود والمبادرةٍ، وبين أن يكون المرء محض رقمٍ أو أن يترك أثراً.
تُطلّ عبارة "التحكم وَهْم" في عالم "مستر روبوت" لتحمل ومضة أملٍ خفيّة. فالقراصنة الناشطون على الشبكة، أي رموز الهاكتفيزم، يرون أنهم يحررون العالم باختراق النظام. لكن المفارقة أن النظام لا يُهزَم، بل يعيد تشكيل نفسه بعد كلّ ضربةٍ، لتغدو السيطرة وجهاً آخَر من الفوضى. وعلى النمط ذاته، تطورت حركة الهاكتفيزم في العالم العربي من احتجاجاتٍ شبكيةٍ واختراقاتٍ رمزيةٍ خلال موجات الربيع العربي سنة 2011 إلى حركةٍ رقميةٍ أكثر تنظيماً وعبوراً للحدود، تمزج بين الفعل التقني والاحتجاج السياسي. ومع تصاعدها، تصاعدت الرقابة الرقمية وتأقلمت، فأعاد الناشطون ابتكار أساليبهم عبر هجمات تسريبٍ وتضليلٍ وحملات تضامنٍ رقميةٍ، وصولاً إلى توظيف الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى والضغط السياسي.


الهاكتفيزم يبدو في جوهره امتداداً عصرياً للاحتجاج المدني، لكنه يضيف بعداً تقنياً ورمزياً لمفهوم المقاومة. فهو يجمع بين مهارات القرصنة الرقمية (بالإنجليزية: هاكينغ) والوعي أو النشاط السياسي والاجتماعي (بالإنجليزية: أكتفيزم)، ليشكّلا معاً مصطلح هاكتفيزم أو ما يمكن ترجمته بعبارة "الاحتجاج الشبكي". لا يقتصر الهاكتفيزم على اختراق الأنظمة أو تعطيل الخدمات، بل يتحول إلى أداءٍ جماعيٍ رمزيٍ يعيد صياغة معنى التمرد في فضاءٍ رقميٍ يتجاوز حدود الجغرافيا والزمن.
كانت البداية أواخر الثمانينيات، إذ ظهرت مجموعاتٌ مثل "كالت أوف ذا ديد كاو" (تعرف بِاسم "سي دي سي") وقد صاغت مصطلح هاكتفيزم حوالي سنة 1996. أما أبرز محاولات الاختراق الأولى فجاءت سنة 1989 مع برنامجٍ خبيثٍ سمِّيَ اختصاراً "وانك"، يُعتقد أن مصدره أستراليا، إذ استَهدَف آلافَ الحواسيب في وكالة الفضاء "ناسا" ووزارة الطاقة الأمريكية، فيما عدَّ محاولةً احتجاجيةً مناهضةً الانتشارَ النووي.
في التسعينيات باتت ظاهرة الهاكتفيزم معروفةً وأكثر تحديداً. برز منها حينئذٍ مجموعة "إليكترونيك ديستيربنس ثياتر" التي ضمّت مجموعةً من النشطاء والفنانين الذين استخدموا الفضاء الرقمي وسيلةً للاحتجاج على الحكومتين الأمريكية والمكسيكية. وعلى دربها، ظهرت في بداية الألفية "أنونيموس"، وهي مجموعةٌ تضمّ مخترِقين إلكترونيين من حول العالم يجمعهم الهدف الاحتجاجي والاسم.
تتخذ أنشطة الهاكتفيزم صوراً متعددةً، مثل تشويه واجهات المواقع الإلكترونية، أو إغراقها بطلباتٍ وهميةٍ تؤدي إلى تعطيلها، أو تسريب الوثائق الحساسة على غرار تجربة موقع "ويكيليكس" المتخصص في نشر التسريبات. وبهذا تظلّ خصوصية الهاكتفيزم في ارتباطه بقضايا عامّةٍ مثل دعم الحركات الاحتجاجية وحرية التعبير ومقاومة الرقابة، وهو ما يجعله ممارسةً سياسيةً اجتماعيةً أكثر من كونها مجرّد أداةٍ تقنيةٍ، وذلك كما ورد في تقرير الباحثة البولندية هانا غافيل، المتخصصة في الاتصال الاجتماعي والإعلام، بعنوان "هاكتفيزم" المنشورة سنة 2024.
خصوصية الهاكتفيزم الاحتجاجية جعلته وسيلةً فعالةً للحشد بعيداً عن أعين المراقبة والتقييد الحكوميَّيْن. وهو ما تجسد إبّان الربيع العربي وما تلاه من ارتداداتٍ في السنوات القليلة اللاحقة.


خلال ثورات الربيع العربي التي انطلقت شرارتها في نهاية سنة 2010، لم يكن الفضاء الرقمي مجرد وسيطٍ للتواصل، بل شكّل بنيةً تحتيةً أساساً للعمل الاحتجاجي. استُخدِمَت منصّات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر وإنستغرام أدواتٍ للتعبئة والتنسيق والحشد، عبر الوسوم (الهاشتاغات)، مثل وسم "25 يناير" و"سيدي بوزيد" و"14 فبراير". تذكر دراسة أستاذ السياسات العامة في جامعة كاليفورنيا شين ستاينرت-ثريلكيلد، بعنوان "أونلاين سوشيال نيتووركس آند أوفلاين بروتيست" (شبكات التواصل الاجتماعي والاحتجاج المادي) المنشورة سنة 2015، أن الناشطين تمكنوا من تجاوز القيود الجغرافية والزمنية في بيئاتٍ صعب عليهم فيها أحياناً التعبير عن مطالبهم وإسماع صوتهم دون التعرض للقمع، ونقل احتجاجاتهم إلى فضاءٍ عالمي.
في الحالة السورية مثلاً، أُطلقت في يناير 2011 على موقع فيسبوك صفحة "الثورة السورية ضد بشار الأسد"، التي تحولت سريعاً إلى منصةٍ مركزيةٍ للتنسيق ونقل الأخبار بين الناشطين. وأدّت هذه الصفحة دوراً في توجيه العمل الميداني وتكثيف الحشد في الفضاء الواقعي، بالتوازي مع البنية الاجتماعية التقليدية مثل المقاهي والدوائر الصغيرة. ولم تقتصر وظيفتها على نشر المعلومات، بل شكّلت فضاءً افتراضياً للتعبير والاحتجاج، يتقاطع فيه العمل الميداني مع العمل الرقمي.
كذلك شكّل الحراك الشعبي العربي بين سنتَيْ 2016 و2020 موجةً ثانيةً من الثورات العربية، امتدّت إلى دولٍ مثل السودان والعراق والجزائر ولبنان والمغرب، وقادها جيلٌ جديدٌ من الشباب المتمرّسين في المقاومة الرقمية بأساليب مبتكرةٍ قد تختلف عن الموجة الأولى. استُفيد في هذه المرحلة من أدواتٍ تقنيةٍ جديدةٍ، مثل البثّ المباشر على فيسبوك لرصد الأحداث ونقلها صوتاً وصورة. واستُخدِمت حينئذٍ كذلك تقنيات التحقيقات مفتوحة المصدر، أي البحث عن المعلومات وتحليلها من مصادر عامةٍ على الإنترنت وسيلةً للتحشيد والاحتجاج.
في هذا الصدد، تنقل الباحثة المغربية في علم الاجتماع رجاء الجيزواي، في دراستها "الحركات الاحتجاجية الشبكية في المغرب" الصادرة سنة 2023، بأن التقنية الرقمية كان لها أثرٌ بالغٌ في الحشد والتعبئة أثناء الاحتجاجات التي شهدها المغرب سنة 2016. تجلّى ذلك في نقل المحتجّين معلومات احتجاجاتهم ورصد طريقة تعامل الأجهزة الأمنية معهم، مثل حادثة مقتل بائع السمك فكري محسن داخل شاحنة قمامةٍ في مدينة الحسيمة بعد محاولته ثَنْيَ السلطات عن إتلاف كمّيةٍ من بضاعته. تجاوب عدد كبير من المغاربة مع دعوات التظاهر والاحتجاج عبر وسائل التواصل الاجتماعي على مقتل محسن، مطالبين بمساءلة الحكومة ومعاقبة المسؤولين عن الجريمة. بهذا استفاد الناشطون حينئذٍ من المنصات الرقمية في تنظيم حملات هاكتفيزم أكثر تطوراً.
مثالٌ آخَر هو ما حدث في الجزائر في يوليو سنة 2019 حين نشرت صورٌ وفيديوهاتٌ عبر فيسبوك وتليغرام تظهر اعتداءات الشرطة خلال مظاهراتٍ في العاصمة الجزائرية. سحبت قوات الأمن حينها أعلاماً أمازيغيةً حملها متظاهرون وأنزلت أخرى معلّقةً على أعمدة الإنارة. وظهر أعضاءٌ من الأمن ينهالون ضرباً بالعصيّ على رَجلين. انتشر الفيديو على نطاقٍ واسعٍ، بعد تحديد هويّات الضباط المعنيين، بهدف خلق ضغطٍ مجتمعيٍ لتحفيز المساءلة الرسمية الغائبة عادةً. دفع الفيديو المديرية العامة للأمن الوطني لتردّ في بيانٍ نشرته على فيسبوك، قائلةً إن السلطات أمرت بفتح تحقيقٍ في مضمون الفيديو.
بهذا تحولت منصات التواصل إلى ساحة احتجاجٍ رقميةٍ متكاملةٍ، ليس فقط من خلال نشر المحتوى، بل عبر تمكين أنماطٍ جديدةٍ من المقاومة، وهو ما جعلها جزءاً من ظاهرة الهاكتفيزم في العصر الرقمي. ولكن، كما في الفضاء الواقعي الموازي، جُوبِهَ الهاكتفيزم المحتجّ بردّة فعلٍ مقابلةٍ من السلطات ودوائر صنع القرار.


بعد أن مثّلت الأدوات الرقمية في بدايات الربيع العربي وسيلةً لتوسيع المجال العامّ وتعبئة الحركات الشعبية، أدركت بعض الأنظمة سريعاً خطورتها، فسارعت إلى استيراد وتطوير أدواتٍ رقميةٍ قمعيةٍ تشمل حجب مواقع الإنترنت، والتضليل الإعلامي عبر الذباب الإلكتروني، وبرمجيات التجسس المتقدمة.
توضح تمارا خروب، الباحثة في المركز العربي للأبحاث في واشنطن، في مقالها "مابينغ ديجيتال أثوريتاريانيزم إن ذي أراب وورلد" (تقصّي السلطوية الرقمية في العالم العربي) المنشور في 2022، أنه مع توسع الاستثمارات في بنى المدن الذكية التحتية والبيانات الضخمة، أصبحت هذه الأدوات جزءاً من منظومةٍ متكاملةٍ لترسيخ الحكم السلطوي وإضعاف الحريات. أنتج ذلك نماذج من السلطوية الرقمية تجمع بين الرقابة الجماعية، والقمع المستهدف، وصناعة الرأي العام المزيف.
لم يقتصر هذا التحول على الأدوات المحلية، بل ارتبط أيضاً بشراكاتٍ خارجيةٍ مع دولٍ مثل الصين التي نقلت خبراتها في المراقبة والذكاء الاصطناعي إلى المنطقة، ومع شركاتٍ إسرائيليةٍ طوّرت برامج مثل "بيغاسوس" المستخدم في تتبّع صحفيين ومعارضين. بذلك أصبحت الممارسات الرقمية في المنطقة جزءاً من توجّهٍ عالميٍ أوسع، يوظّف مفاهيم الأمن السيبراني لتعزيز الرقابة وتقييد مساحات المجتمع المدني بحسب جيمس لينتش في دراسته "آيرون نت: ديجيتال ريبرشن إن ذا ميدل إيست آند نورث أفريكا" (الشبكة الحديدية: القمع الرقمي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، المنشورة في 2022.
يتشكك لينتش في التفاؤل الذي ساد مع قيام الثورة الرقمية باعتبارها مقدمةً للتحرر من قبضة تحكم الأنظمة لأن المجتمع المدني غير قادر على منافسة الدولة بما تملكه من وسائل تقنيةٍ جبارةٍ، مثل كشف هويات الأشخاص والمراقبة الشاملة. وبما أن الدولة هي أيضاً من يسنّ التشريعات والقوانين، فاستخدامها التقنيةَ الرقميةَ لأغراض القمع قلّما يواجَه بالمساءلة.
كشفت حالاتٌ مثل التجربة السورية في الربيع العربي عن محدودية قدرة هذا الفضاء على ضمان استدامة الحركات الاجتماعية. فمع تصاعد القمع الأمني وقطع الإنترنت وتكثيف الرقابة الرقمية، تآكلت مساحات الفعل الشبكي السلمي. وهو ما يبرهن أن الفضاء الرقمي وحده غير كافٍ لضمان استمرارية الاحتجاج، إذ تظلّ آليّات السلطة والقمع والشرخ المجتمعي عوامل حاسمةً في مسار الحركات الاحتجاجية.
بالإضافة إلى ذلك، كما يبين جشوا تكَر في دراسته "بيوند ليبِريشن تكنولوجي[. . .]" (فيما وراء تقنية التحرر[. . .]) الصادرة سنة 2021، فقد بدأت منصات التواصل الاجتماعي تبتعد عن صفتها أدواتٍ حياديةً وظهرت طرفاً فاعلاً منذ منتصف العقد الماضي، تحديداً بين سنتَيْ 2014 و2016، وذلك عبر تدخلها في المحتوى السياسي، مثل إزالة فيسبوك وإنستغرام كثيراً من المحتوى الذي يؤيد الفلسطينيين. تجلّى ذلك في أكثر من حدثٍ بدعوى "انتهاك سياسات المجتمع"، وصولاً إلى الحملة الإلكترونية "أنقذوا حيّ الشيخ جراح" خلال سنة 2021، بالتزامن مع تصاعد التوترات وتهجير الفلسطينيين من حيّ الشيخ جراح بالقدس. وتجلّى ذلك أيضاً في انتخابات تونس 2019 عندما قيّد فيسبوك قدرة الناشطين المحليين على الوصول إلى بيانات الحملات الانتخابية والإعلانات السياسية.
مع الوقت، أصبح الاعتماد على هذه المنصات وحدها صعباً، نظراً لتزايد استخدام بعض الحكومات تقنيات المراقبة وإدارة المحتوى، ما دفع الناشطين إلى التكيف بطرقٍ مبتكرةٍ بدءاً من منتصف العقد الماضي، فتحوّلوا باتجاه أدواتٍ أكثر أماناً ومرونةً مثل واتساب وتليغرام للتواصل وتنظيم النشاط الرقمي، ومن هنا أخذ دور الاحتجاج الرقمي الرمزي بالتراجع.


بينما خفت بريق الاحتجاج الرقمي التقليدي، الذي يستخدم منصات التواصل للتنظيم والتحشيد، ظلّ الهاكتفيزم متصاعداً، ولم يعد يقتصر نشاطه على الهجوم التقني فحسب، بل يتضمن إنتاج أدّلةٍ رقميةٍ ونشرها، مثل شاشاتٍ وصفحاتٍ مخترقةٍ وبياناتٍ مسرّبةٍ وسجلاتٍ ورسائل تهديد. يعاد تدوير هذه المعلومات إعلامياً عبر قنواتٍ متجددةٍ، ما يمنح الهجوم امتداداً واستدامةً، ويحوّله من مجرد تعطيلٍ مؤقتٍ إلى تهديدٍ إستراتيجيٍ طويل الأمد.
يرى خالد وليد محمود، الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في دراسته المعنونة "الهجمات عبر الإنترنت [. . .]" الصادرة سنة 2013، أنه على الرغم من محدودية الهجمات الإلكترونية، إلّا أنها تبعث كثيراً من الرسائل. أوّلها رسالةٌ سياسيةٌ تؤكد على إضفاء شكلٍ آخَر من المقاومة عن طريق تطويع التقنية والإنترنت. والرسالة الثانية تقنيةٌ، تؤكد على إمكانية إلحاق الضرر عبر العالم الافتراضي، بواسطة أفرادٍ أو فاعلين من غير الدول. أما الرسالة الثالثة فأَمنيّةٌ وتشير إلى أن الدول والكيانات عرضةٌ لتهديداتٍ أمنيّةٍ نظريةٍ قد تؤدّيها الهجمات الإلكترونية.
في المرحلة الأولى من الهاكتفيزم العربي، اتّسمت العمليات بالطابع الرمزي، وتركّز النشاط على اختراق المواقع الحكومية، وترك رسائل احتجاجيةً تحمل شعاراتٍ سياسيةً أو دينية. وبرزت مجموعة "أنونيموس" العالمية قوةً رقميةً داعمةً للحركات الشعبية في المنطقة العربية سنة 2011، بدءاً بـما سُمِّيَ "عملية تونس" التي استهدفت مواقع حكوميةً ونشرت أدواتٍ لتجاوز الرقابة. وكان من أبرز طرقها ما يعرف بهجمات الحرمان من الخدمات، وقد شُنّت على مواقع الحكومة التونسية، إذ أغرق القراصنة المخترِقون خوادمَ هذه المواقع بسيلٍ من البيانات عطّل عملها. تلاها "عملية مصر" لدعم احتجاجات 25 يناير عبر تعطيل خدمات الحكومة الرقمية وتوفير وسائل اتصالٍ بديلة. ثم جاءت حملة "سوريا – الكفاح من أجل الحرية"، حسب ما يورد أحمد الراوي في كتابه "سايبر وورز إن ذا ميدل إيست" (الحروب السيبرانية في الشرق الأوسط) الصادر سنة 2021. وشملت الحملة اختراق مواقع حكوميةٍ سوريةٍ واستهداف الجيش السوري إلكترونياً. شملت أنشطة أنونيموس لاحقاً دولاً مثل ليبيا والبحرين واليمن، مستفيدةً من قنوات دردشةٍ خاصةٍ لنشر الأخبار وتحفيز التحرك الرقمي، إلا أن نشاطها ظلّ متقطعاً ويكتسب طابعاً رمزياً.
وأصبح قناع غاي فوكس من فيلم "ڨي فور فانديتا" المنتَج سنة 2005 أيقونةً للتمرد ورمزاً بارزاً لحركة "أنونيموس" وأشكالٍ أخرى من الهاكتفيزم. وغاي فوكس هو شخصيةٌ تاريخيةٌ إنجليزيةٌ تعود إلى سنة 1605، اتهم بالتخطيط مع آخَرين لتفجير البرلمان احتجاجاً على تحوّل الملك جيمس الأول للبروتستانتية بعدما كان كاثوليكياً. وفي الثقافة الشعبية البريطانية صار فوكس رمزاً للتمرد، ويحتفل بذكراه في الخامس من نوفمبر كلّ عامٍ بإشعال النيران وإطلاق الألعاب النارية. هذ الرمز المتمرد امتدّ كما يبدو للعالم الرقمي، لأنه يجمع بين ثلاثة أبعاد: إخفاء الهوية، والتمرد الجماعي، والهوية الرمزية ضدّ الطغيان. ومنحت هذه الرمزية المحتجين مساحةً للظهور مجموعةً مقاوِمةً موحدةً، مع الحفاظ على خصوصيتهم أفراداً.
وفي الوقت ذاته، أدّت مجموعة "تليكوميكس" السويدية أيضاً دوراً بارزاً خلال الربيع العربي في دعم حريات الإنترنت. في بدايات سنة 2011 حين قرّرت حكومة بن علي في تونس حجب فيسبوك وتويتر، دعمت "تليكوميكس" النشطاء بحماية بياناتهم وتمويه مواقع اتصالهم بالإنترنت. بالطريقة نفسها، زوّدت الناشطين المصريين بأدواتٍ وخطوط اتصالٍ بديلةٍ بعد قطع الإنترنت في بداية الاحتجاجات سنة 2011. وكشفت في سوريا عن استخدام النظام أجهزة مراقبةٍ أمريكية الصنع، ووفّرت تشفيراً واتصالاتٍ آمنةً للناشطين في اليمن والبحرين.
لم يقتصر الصراع الرقمي على مواجهةٍ بين الناشطين والأنظمة، بل شمل أيضاً استهداف الأذرع السيبرانية الرسمية نفسها. ففي يناير سنة 2014 تمكّنت مجموعة "تورك غوفينليغي"، من اختراق موقع الجيش السوري الإلكتروني، الموالي للنظام السوري، وتشويه صفحته برسائل ساخرة. في إشارةٍ رمزيةٍ إلى أن التفوق السيبراني في المنطقة هشٌّ ويمكن اختراقه، حتى لدى الفاعلين المرتبطين بالسلطة.


بعد فترة الربيع العربي، برزت أدواتٌ جديدةٌ في الهاكتفيزم شملت التضليل والمعلومات المزيفة. وانتقلت الهاكتفيزم من مجرد رمزيةٍ رقميةٍ إلى أفعالٍ هجوميةٍ مباشرةٍ تشمل الاختراق والتسريب الإلكتروني، غرضها الضغط السياسي، وفضح الانتهاكات، والتأثير على الرأي العامّ من خلال كشف المعلومات الحساسة.
ففي سنة 2015 مثلاً، أعلنت مجموعة "جيش اليمن الإلكتروني" اختراق أجهزةٍ وخوادم وزاراتٍ سعوديةٍ، منها الخارجية والداخلية والدفاع، وحصلت على وثائق تحتوي على معلوماتٍ عن دبلوماسيين ومسؤولين منذ الثمانينيات. لاحقاً، بدأ موقع "ويكيليكس" بنشر هذه الوثائق، وشملت أكثر من خمسمئة ألف برقيةٍ ووثيقةٍ سرّيةٍ، وكشفت عن اتصالاتٍ وتقارير رسميةٍ مع سفارات السعودية حول العالم، إضافةً إلى تفاصيل عن طريقة إدارة الشؤون الخارجية.
وخلال الفترة نفسها اخترق مجهولون شركةَ "هاكينغ تيم" الإيطالية المتخصصة في تطوير أنظمة مجابهة اختراقٍ وتتبّعٍ إلكترونيةٍ لصالح الحكومات. وكشفت التسريبات عن بيع الشركةِ برمجياتِ تجسّسٍ لجهاتٍ في المنطقة العربية، واستخدِم برنامجها المعروف بِاسم "دافنشي" لاستهداف صحفيين ونشطاء. كشفت الوثائق عن أن السلطات المغربية مثلاً أنفقت ما لا يقلّ عن ثلاثة ملايين يورو (تقريباً 3.4 مليون دولارٍ أمريكي) على برامج تجسّسٍ وتتبّعٍ اشترتها من الشركة بين 2009 و2015.
إضافةً للكشف المعلوماتي، أصبحت الهجمات السيبرانية امتداداً مباشراً للحراك الشعبي وأداة ضغطٍ سياسيٍ في عديدٍ من دول المنطقة. في العراق خلال احتجاجات سنة 2017، التي اندلعت غضباً من تفشي الفساد وسوء الخدمات العامة وانقطاع الكهرباء، استهدفت مجموعتا "سايبر شيعة" و"جوست آي كيو" مواقع حكوميةً وجامعيةً، من بينها موقع المفوضية العليا للانتخابات. كان الهدف محاولة الضغط على السلطات وإبداء غضب الشارع من تدهور الأوضاع المعيشية، حسب ما يورد أحمد الراوي في كتابه "سايبر وورز [. . .]".
ويشير أحمد الراوي إلى أن ثقافة "دو إت يورسيلف" (افعلها بنفسك) تعدّ في المشهد السيبراني العربي ظاهرةً متناميةً ساهمت في تعزيز الهاكتفيزم. إذ تنتشر قنوات يوتيوب ومنتدياتٌ ومجموعاتٌ مغلقةٌ على فيسبوك وواتساب وتلغرام، تقدّم شروحاتٍ وأدوات قرصنةٍ بعرضٍ مبسطٍ للمبتدئين والهواة. هذه البيئة تعكس مزيجاً من التدريب الذاتي وتبادل الخبرات، بدوافع تتراوح بين الفضول والتجريب وصولاً إلى الاستخدام السياسي والاجتماعي. وعلى ما تحمله من مخاطر بزيادة التهديدات السيبرانية، فإنها تتيح أيضاً فرصةً لتوظيف القنوات نفسها في التوعية وتعزيز الأمن الرقمي، بما في ذلك مجابهة التضليل المعلوماتي.


خلال المدة من 2019 إلى 2022، تصاعد استخدام الهاكتفيزم التقنياتِ الرقميةَ للتأثير على الرأي العامّ في المنطقة العربية، وفقاً لدراسةٍ سنة 2021 على التأثير المعلوماتي في عشر دولٍ بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بعنوان "ميدل إيست إنفلوينس أوبريشنز" (عمليات التأثير في الشرق الأوسط)، للأمريكية رينيه ديريسته، أستاذة البحوث في مرصد ستانفورد للإنترنت. تقول ديريسته إن هذه العمليات اعتمدت على انتحال هوية الحسابات الشخصية والصفحات الإعلامية الرسمية أو اختراقها. وكان الهدف نشر محتوىً يبدو موثوقاً ورسمياً، مستغلةً مصداقية الصفحة أو الحساب وعدد المتابعين لتوجيه الرأي العامّ نحو مواقف محددة.
شملت تكتيكات التضليل انتحالَ هوية وسائل إعلامٍ قائمةٍ، وإنشاء صفحاتٍ تحاكي القوالب البصرية لقنواتٍ وصحفٍ مشهورةٍ، مثل قناة "العربية" أو صفحاتٍ مزيفةٍ لصحفٍ عالميةٍ مثل "هافينغتون بوست". واستُخدِمت هذه الصفحات لنشر أخبارٍ وتصريحاتٍ مضللةٍ تبدو رسميةً، ما ساعد على تعزيز مصداقية المحتوى المزيف لدى الجمهور المستهدف وإيهام المتابعين بأنها معلوماتٌ موثوقةٌ ورسمية المصدر. كذلك اعتمدت حملات التضليل أيضاً على تزييف الرأي الشعبي من خلال إنشاء حساباتٍ تنتحل شخصية مواطنين محلّيين في الدول المستهدفة لاختلاق وجود دعمٍ شعبيٍ واسعٍ لمواقف سياسيةٍ محددةٍ، أو تشويه صورة الرأي العامّ الحقيقي أمام الصحفيين والمحللين. ساهمت هذه العمليات في التأثير على اتجاهات الرأي العام، وإضعاف الأصوات المعارضة، وتعزيز مواقف مؤيدةٍ لأطرافٍ معيّنة.
تجسدت هذه الظاهرة في عددٍ من الأحداث البارزة. منها احتجاجات 2019 في العراق، المعروفة بِاسم "ثورة تشرين" التي اندلعت بسبب البطالة وسوء الخدمات العامة وتزايد النفوذ الأجنبي في القرار السياسي. لكن رافق الأحداثَ هجماتٌ إلكترونيةٌ نفذتها مجموعاتٌ سيبرانية استهدفت مواقع وحساباتٍ حكوميةً بهدف فضح قضايا فسادٍ وبثّ رسائل داعمةٍ للحراك الشعبي، ما زعزع ثقة الجمهور بالسلطة وحوّل الهجمات الإلكترونية إلى امتدادٍ مباشرٍ للاحتجاجات الشعبية. شملت عمليات التضليل أيضاً تبنّي هجماتٍ إلكترونيةٍ لدعم احتجاجات السودان على نظام عمر البشير ما بين 2019 و2020، فضلاً عن حملات مناهضةٍ لنظام الأسد في سوريا سنة 2020، إضافةً إلى حملاتٍ استهدفت حكومة الوفاق الوطني السابقة في ليبيا ما بين 2019 و2020. وقد أظهرت هذه الحالات قدرة التضليل الرقمي على إحداث تأثيرٍ سياسيٍ ملموسٍ، وخلق أزماتٍ معلوماتيةٍ كبيرة.
استجابت منصات التواصل الاجتماعي لهذه العمليات، أحياناً بطلباتٍ رسميةٍ من الحكومات، بحملات إزالةٍ للحسابات والصفحات المزيفة أو المخترقة. هذا إلى جانب إصدار تحذيراتٍ رسميةٍ لتوضيح مصادر التضليل وبيان الدول المنسوبة إليها، مع التعاون مع شركات أبحاثٍ ومؤسساتٍ أكاديميةٍ لتحليل النشاط المضلّل وتقييد قدرة هذه الحسابات على النشر وكسب متابعين جدد.
تتعاون شركة "ميتا" مثلاً مع شركة "فاير آي"، المتخصصة في الأمن السيبراني، في الكشف عن الشبكات التي تنشر معلوماتٍ مضلّلةً لحذف الحسابات والصفحات المتورطة. كذلك فإن مختبر الأبحاث الجنائية الرقمية التابع للمجلس الأطلسي يساعد شركة "ميتا" في زيادة عدد المراقبين لرصد حملات التضليل وشراء المتابعين والإعجابات على صفحات فيسبوك وإنستغرام. ومع هذه الجهود، يستمر الصراع الرقمي بين جهود التضليل والإجراءات المضادة.
لم ينتهِ الأمر عند حدّ محاولة إدارة الرأي العام. فمنذ سنة 2022، ظهر نمطٌ جديدٌ من الهاكتفيزم العربي يتّسم بالطابع المناسباتي والدوري، يُستدعى فيه النشاط الرقمي في ذكرى سياسيةٍ أو لحظةٍ مشحونة. تجلّى ذلك مثلاً في البحرين، إذ شنّت مجموعةٌ سيبرانيةٌ في 14 فبراير 2023، بالتزامن مع ذكرى انتفاضة 2011، هجماتٍ عطّلت مواقع رسميةً حساسةً، شملت مطار البحرين الدولي ووكالة أنباء البحرين وغرفة التجارة وصحيفةً محلية. وكانت المجموعة نفسها قد استهدفت مواقع حكوميةً في نوفمبر 2022 أثناء الانتخابات البرلمانية.
ولم تمضِ على حادثة الاختراق في البحرين سوى بضعة أشهرٍ، حتى اشتعلت حرب غزة، وبموازاتها انفجرت مواجهاتٌ شرسةٌ ومتشعبةٌ في الفضاء الرقمي.


تصاعد نشاط الهاكتفيزم في المنطقة العربية مع حرب السابع من أكتوبر 2023 على غزة. ودخلت المعركة حرباً رقميةً بالوكالة شاركت فيها نحو مئة مجموعةٍ إلكترونيةٍ، سبعٌ وسبعون منها داعمةٌ لفلسطين، وعشرون مؤيدةٌ لإسرائيل، وفق تقريرٍ لصحيفة "ذا ستريت تايمز" في 11 أكتوبر 2023 (حُدّث التقرير في نوفمبر 2024). في حين شنّت المجموعات الداعمة لفلسطين هجمات حجب خدمةٍ على مواقع حكوميةٍ وإعلاميةٍ إسرائيليةٍ لتشويهها ونشر رسائل مؤيدةٍ لفلسطين، إضافةً إلى أنشطةٍ استخباراتية. ونفذت تلك الأنشطة مجموعاتٌ إلكترونيةٌ محليةٌ مثل "ستورم-1133"، "مادي ووتر" و"موليراتس".
دولياً، شاركت مجموعات هاكتفيزم عابرةٌ للحدود دعماً لفلسطين في هجماتٍ على إسرائيل، أبرزها "أنون غوست"، و"أنونيموس السودان"، و"كيل نت"، و"سايبر أفينجرز"، طالت أهدافاً إستراتيجية. منها تطبيقاتٌ مخصصةٌ للإنذار الصاروخي والإسعاف الطارئ للهجمات، والبنية التحتية الرقمية، وحصلت على مستنداتٍ من منشأةٍ مثل محطات كهرباء إسرائيلية. تعرضت إسرائيل لحوالي 1550 هجوماً سيبرانياً خلال سنة 2024. واستهدف أغلب هذه الهجمات القطاعَ الماليَّ والتعليمَ، ونفذتها مجموعاتٌ داعمةٌ لفلسطين، مما جعلها ثاني أكثر دولةٍ تعرضاً للهجمات بعد أوكرانيا، وفقاً لصحيفة "تايمز أوف إزرايل" في فبراير 2025.
وفي المقابل، شنّت مجموعاتٌ مؤيدةٌ لإسرائيل هجماتٍ أقلّ لكنها أخطر على مواقع فلسطينيةٍ، أبرزها هجوم المجموعة الهندية "إنديان سايبر فورس" على مزود الإنترنت "ألفا نت" في غزة.
بهذا بدا أن الفضاء السيبراني تحول إلى ساحة صراعٍ إقليميٍ ودوليٍ تتداخل فيه الأبعاد السياسية والاقتصادية والدينية والرمزية في الفضاء الرقمي، وتتجاوز الاحتجاج المحلي إلى مواجهةٍ "جيوسيبرانية" أوسع. ويبرز هنا الهاكتفيزم العابر للحدود بوصفه العامل الأكثر تأثيراً. فمجموعاتٌ مثل "أنونيموس السودان" لم تكتفِ باستهداف إسرائيل، بل وسّعت نطاق عملياتها منذ سنة 2023، لتشمل أهدافاً أخرى في دولٍ مثل السويد والدنمارك وأستراليا وفرنسا بدعوى الردّ على أنشطةٍ تعادي الإسلام.
امتدت "الحرب الرقمية" الموازية لتلك في غزة إلى دولٍ أجنبيةٍ، منها فرنسا. إذ إن مجموعاتٍ مؤيدةً لإسرائيل مثل "لواء اليهود" (المعروفة لاحقاً بِاسم "التنانين السماوية") و"إنديان سايبر فورس" استخدمت أسلوبَ "الدكسينغ"، أي نشر بياناتٍ شخصيةٍ واستخدامها وسيلةً للتشهير والضغط. شمل هذا الأسلوب نشر معلوماتٍ شخصيةٍ، مثل أرقام الهواتف وعناوين المنازل، لنشطاء داعمين لفلسطين دون موافقتهم، بهدف التحريض على مضايقتهم أو مهاجمتهم. طال ذلك صحفيين من منصة "أي جيه بلاس" التابعة لشبكة الجزيرة الإعلامية، وناشطين من جماعة "فلسطين تنتصر" وحركة "فرنسا المتمردة". وهو نمط الهاكتفيزم التي أسمته صحيفة لوموند الفرنسية "حرب العصابات الرقمية" في تقريرٍ يحمل العبارة ذاتها في فبراير 2024.
وجاءت واقعة شركة "مايكروسوفت" في مايو سنة 2025 لتلقي الضوء على أبعاد الرقابة والتحكم في المعلومات في الصراع. يورد مرصد الأعمال وحقوق الإنسان المختص بمراقبة ممارسات الشركات وسياساتها بشأن حقوق الإنسان، أن مايكروسوفت حجبت أو أبطأت رسائل البريد الإلكتروني التي تحتوي على كلماتٍ مرتبطةٍ بفلسطين والحرب في غزة. من هذه الكلمات "فلسطين" و"غزة" و"أبارتايد" و"إبادة جماعية"، في حين كانت رسائل البريد التي تحتوي على كلمة "إسرائيل" تمرّ دون تأخير. وقد جسدت هذه الحادثة جانباً آخَر من النزاع الرقمي، إذ لا يقتصر الصراع على الهجمات الإلكترونية المباشرة، بل يشمل أيضاً التحكم في تدفق المعلومات.
وهكذا لم يعد الهاكتفيزم مجرد احتجاجٍ رقميٍ محليٍ، بل يساهم في إعادة تشكيل التضامن والتحالفات في الفضاء الرقمي العالمي الذي بدأ يتحول في السنوات القليلة الماضية لتقنيات الذكاء الاصطناعي.


مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، دخلت الظاهرة مرحلةً جديدةً، وأصبحت حرب الإبادة على غزة بعد السابع من أكتوبر 2023 واحدةً من أبرز تجلياتها. وُظّفت تقنيات الذكاء الاصطناعي في خدمة أهداف الهاكتفيزم، واستهدفت استثارة المشاعر وتوجيه الرأي العام عبر إنشاء محتوىً بصريٍ أو صوتيٍ أو تعديله ليبدو حقيقياً. وهو ما يُعرف بتقنية "ديب فيك" (التزييف العميق).
بعد اشتعال الحرب، صدر تقريران عن وكالتي "فرانس برس" و"رويترز" سلّطا الضوء على حوادث وظّفت فيها مقاطع مفبركةٌ بتقنية التزييف العميق لمشاهير وشخصياتٍ عامّةٍ من أجل إنتاج رسائل سياسيةٍ مضلّلة. منها الفيديوهات المزيفة لكلٍّ من لاعب كرة القدم كريستيانو رونالدو وعارضة الأزياء الفلسطينية الأمريكية بيلا حديد بهدف تزوير مواقفهم من الحرب على غزة.
في حالة رونالدو، حُرّف فيديو سابقٌ حوى مقابلةً له مع قناة الكاس القطرية ويناقش فيها كرة القدم، إلى رسالةٍ يعبر فيها عن دعمه الشعب الفلسطيني. أما بيلا حديد، فظهرت بالفيديو المزيف وهي تعتذر عن عبارات تأييدٍ سابقةٍ لها لفلسطين بعد هجمات حماس في السابع من أكتوبر.
أمام تحول تقنيات الذكاء الصناعي إلى أداةٍ دعائيةٍ في النزاعات وصناعة الوعي، وما يبدو قلقاً من تنامي تأثيرها، حذّر الاتحاد الدولي للاتصالات التابع للأمم المتحدة في يوليو 2025 من المخاطر المتزايدة لهذه التقنيات. ودعا إلى وضع معايير قويةٍ وأدواتٍ رقميةٍ للتحقق من الصور والفيديوهات وحماية الجمهور من التضليل.
كيف لا وقد كانت الحوادث توالت في هذا السياق. ففي مايو 2025 أعلن مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) أن جهاتٍ خارجيةً مجهولةً تستخدم الرسائل النصية والرسائل الصوتية المولّدة بالذكاء الاصطناعي لانتحال شخصيات مسؤولين أمريكيين كبار، في مخططٍ يهدف إلى الوصول إلى الحسابات الشخصية للمسؤولين الأمريكيين.
وأيضاً كشف تحقيقٌ أمنيٌ، في التقرير الصادر عن شركة الأمن السيبراني الكورية الجنوبية "جينيانر" في يوليو سنة 2025، عن استخدام مجموعة القراصنة الكورية الشمالية المعروفة بِاسم "كيمسوكي" تقنيةَ التزييف العميق لتزييف بطاقات هويةٍ كوريةٍ جنوبيةٍ، بهدف تعزيز هجمات التصيد الاحتيالي ضدّ صحفيين وباحثين، وجمع معلوماتٍ حساسة.


تطور الهاكتفيزم إلى شكلٍ جديدٍ من الاحتجاج الرقمي يجمع بين الرمزية والفعل التقني، وأعاد صياغة مفهوم المقاومة في فضاءٍ مفتوحٍ وعابرٍ للحدود. فهو لم يعد مجرد عملٍ فرديٍ، بل تحوّل إلى حركاتٍ شبكيةٍ منظمةٍ تستخدم أدواتٍ رقميةً متقدمةً والذكاء الاصطناعي، وتوظف التضليل والمقاومة وسائلَ ضغطٍ سياسيةً وإستراتيجية. وعلى إمكاناته في تعزيز التعبئة والتغيير، يواجه الهاكتفيزم تحدياتٍ متزايدةً تتمثل في تضييق الحريات الرقمية وتحوّل المنصات الرقمية إلى أدوات تحكّم. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن الهاكتفيزم يمثل ساحة صراعٍ جديدةً تتقاطع فيها الأبعاد التقنية والسياسية والرمزية.

اشترك في نشرتنا البريدية