تلك كانت كلمات مندوب المبيعات أحمد أبو صبرة شاكياً ما أصابه ومتظلماً من غبنٍ عرقل محاولته الخروج من قطاع غزة لتلقي العلاج في الخارج. يحتاج أحمد متابعة طبية دقيقة لإصابة حلَّت به في بداية حرب غزة. في صباح 18 أكتوبر 2023 سقطت قذيفة على منزله في حي الصبرة جنوب مدينة غزة فحوّله إلى ركام بينما كان قطاع غزة غارقاً في دوامة الردّ الإسرائيلي على هجوم السابع من أكتوبر. نجا أحمد من الموت وخرج من بين الحطام جسداً واحداً، ولكنه أُصيب بتهشّم في الساق وقِصر في إحدى الرجلين والتئام خاطئ لعظمة الفخذ. وفوق هذا كله يحتاج أحمد إلى زراعة مفصل غير متوفر داخل القطاع.
تنقّل أحمد في الأشهر التالية بين سبعة مستشفيات من التي ظلت عاملة أو شبه عاملة داخل القطاع، وخضع لعمليات عدة في محاولة لإنقاذ ساقه. لكن العلاج الذي تطلب زراعة المفصل ظل بعيد المنال. حصل على "نموذج أ" من الطبيب المعالج في غزة الذي يثبت حاجته العاجلة للسفر للعلاج ويضعه على قائمة الإجلاء التي تنسقها بالعادة منظمة الصحة العالمية مع إسرائيل والدول المستضيفة. إلا أن النموذج ظل حبراً على ورق أمام أبواب مغلقة. وبين شروط الدول المستقبِلة وأولوية الأطفال وكبار السن وتعقيدات التنسيق وغياب القدرة المالية أو النفوذ، حتى تبادل الاتهامات بالمسؤولية بين وزارتي الصحة في غزة ورام الله، ظل أحمد عالقاً على قائمة انتظار لا تتحرك، فيما كانت ركبته تتصلّب يوماً بعد يوم.
نجاة أحمد من القذيفة لم تكن نهاية الطريق، بل انتقالاً من قائمة القتلى المحتملين إلى قائمة الجرحى التي لا تقل ألماً في قطاع دمّرت الحرب منظومته الصحية كما دمّرت غالبية بيوته. فقصة أحمد ليست سوى قصة من بين آلاف أخرى مشابهة في القطاع. إذ يتراص المصابون في غزة بين بتر وعمى وإصابات نافذة في الرئة أو الدماغ، يعيشون واقعاً يتمنى فيه البعض منهم لو أن الموت وصلهم قبل أن تترك الحرب في أجسادهم ما لا يُعالج ولا يُحتمل. لكنهم وُضعوا في مواجهة مع جراح لا تشفى وتحتاج تدخلاً طبياً غير متوفر. أو فُرض عليهم طريق علاج معقد يبدأ من غزة وينتهي بدول مضيفة مثل الإمارات ومصر وتركيا والجزائر وغيرها، كلٌ بمزاياه وعيوبه وكلٌ بتحدياته وإمكانياته. وبين افتقاد الأحبة والانقطاع عنهم في غزة، والمعاناة في تغطية تكاليف العلاج والمعيشة، إلى استنفاذ الممكن والتفكير في الانتقال لبلد آخر أملاً في النجاة، يعيش الكثير من جرحى قطاع غزة في الخارج.
وفي السياق نفسه، قدّرت صحيفة لوموند الفرنسية في نوفمبر 2025 أن الوفيات غير المباشرة الناجمة عن انهيار المنظومة الصحية، إلى جانب الجوع ونقص المياه، قد تتجاوز 345 ألف وفاة، وهو رقم يفوق بأضعاف حصيلة العدوان والقصف المباشر التي قدّرها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بنحو 71,467 قتيلاً و 180,113 مصاباً حتى نهاية الثلث الأول من ديسمبر 2025.
ومنذ أكتوبر 2023 وحتى 27 نوفمبر 2025 أُجلي عشرة آلافٍ وستمئةِ مريض ومصاب، غالبيتهم من الأطفال، مع نحو اثني عشر ألفَ مرافق من غزة لدول متفرقة، بحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية في فلسطين. وفي المقابل تتكدّس آلاف الحالات على قوائم انتظار طويلة تضم أكثر من ثمانية عشر ألف مريض، وفق ما أكده مدير عام المستشفيات في وزارة الصحة بغزة الطبيب محمد زقّوت للفِراتْس. فيما تقدر وزارة الصحة العالمية العدد بحوالي 16500 مع حلول ديسمبر 2025.
ومع الهدنة لم يُغادر القطاع سوى 165 مريضاً، نُقل معظمهم إلى دول أبرزها مصر والإمارات وقطر ضمن سلسلة إجراءات وخطوات معقدة تعتمدها منظمة الصحة العالمية، تبدأ بالطبيب المعالج ووزارة الصحة، مروراً بالتنسيق مع إسرائيل والدولة المستضيفة.
في حال اعتماد التحويلة، تُحال إلى منظمة الصحة العالمية التي تتواصل مع المريض لاستكمال التقارير الطبية والوثائق اللازمة. ثم تبدأ المنظمة مرحلة المراسلات مع الدول المستعدّة لاستقبال المرضى، وعند الموافقة تُعد قائمة بأسماء المرضى ومرافقيهم وترسلها إلى السلطات الإسرائيلية للحصول على الموافقة الأمنية المطلوبة. وفي الخطوة الأخيرة تنسق المنظمة مع الدولة المضيفة وتبلغ المرضى بموعد السفر وترتيبات الإجلاء.
يوضح مدير عام المستشفيات، الطبيب محمد زقوت، بأن "[. . .] مصر والأردن والإمارات وقطر وتركيا وإيرلندا وإيطاليا استقبلت عشرات الحالات منذ بداية الحرب. لكن مع إغلاق معبر رفح [في مايو 2024] لم يتبقّ سوى الأردن والإمارات دولاً عربية تستقبل المرضى، إضافة إلى إيرلندا وإيطاليا ضمن الجانب الأوروبي".
وينوه زقوت إلى أن معايير الإجلاء تحددها الدول المضيفة، إذ ركّزت معظمها في الأشهر الأخيرة على استقبال الأطفال دون ثمانية عشر عاماً، وحالات محددة مثل مرضى السرطان ومبتوري الأطراف والأطفال المحتاجين عملياتِ جراحية معقّدة مثل عملية القلب المفتوح. ويضيف أن "بعض الحالات تُرفض بسبب عدم توفر الإمكانيات الطبية لدى الدول المضيفة، ما يعرّض أصحابها لمزيد من الخطر، خصوصاً المرضى فوق ثمانية عشر عاماً الذين تزايدت أعدادهم على قوائم الانتظار دون أي قدرة للوزارة على نقلهم ما لم توافق دولة ما على استقبالهم".
ومع شروط الدولة المستضيفة، تُعدّ الموافقة الأمنية الإسرائيلية عبر وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، المعروفة اختصاراً باسم "كوغات"، شرطاً أساساً للسفر. وقد ترفض هذه الهيئة المسؤولة عن تنسيق النشاطات المدنية للفلسطينيين عدداً من الملفات بذرائع أمنية أو دون إبداء أسباب، لتُستبدل الأسماء المرفوضة بمرضى آخرين.
وعلى ما في هذه المحددات الخارجية من تعقيدات، إلا أن مشاكل التحويلات لا تنتهي بها. لا يستبعد زقوت وجود مخالفات في عملية السفر من المصدر، مشيراً إلى أن المستشفى الأردني الميداني في غزة نسّق سفر عدد من الحالات دون الرجوع لوزارة الصحة صاحبة الاختصاص، قبل أن يُتفق لاحقاً على اعتماد قوائم الوزارة والتنسيق مع منظمة الصحة العالمية. وأضاف أن بعض المرضى وعائلاتهم حصلوا على موافقات مباشرة من منظمات حقوقية أو سفارات خارجية.
أما السبب الأكثر حساسية، بحسب زقوت، فهو تعرّض بعض الأطباء لضغوط اجتماعية وتهديدات في ظل الانفلات الأمني الذي يعانيه القطاع، ما فتح الباب أمام إدراج أسماء لأشخاص غير مرضى ضمن قوائم الإجلاء الطبي.
ومن هذا المنطلق يوجّه كثير من أهالي غزة وذوي الجرحى اتهامات لوزارة الصحة الفلسطينية والجهات المسؤولة عن التحويلات الطبية بالتقصير وغياب الشفافية في اختيار أسماء المرضى.
ويشتكي الأهالي من تعقيدات أمنية تمنع غالبية المصابين والمرضى الذكور بين تسعة عشر وخمسة وخمسين عاماً من مغادرة القطاع، بالإضافة إلى اتهامات بتدخل الرشوة لتحديد أولويات السفر لمرضى ومصابين دون غيرهم. وهو ما رد عليه زقوت في حديثه للفِراتْس قائلاً "لم ننف وجود مخالفات ولكن منذ بدء حرب الإبادة الجماعية، لم تتلق وزارة الصحة بغزة أي شكوى واحدة رسمية حول تلك الحالات"، مضيفاً "طالبنا أكثر من مرة بتقديم شكاوي رسمية للوزارة من قبل المتضررين لمتابعتها ومحاسبة المتورطين، لكن أؤكد لم نتلق أي شكوى، فقط بعض المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تتحدث حول الأمر دون تقديم أدلة واضحة".
حصل إلياس على تحويلة طبية للسفر بتاريخ 30 نوفمبر 2023، لكن موعد مغادرته لم يحِن. وبعد مراجعة والدته المستشفى، أبلغها الأطباء بأن التحويلة الصادرة لا تغطي علاج المسالك البولية، ما استدعى إصدار تقرير طبي جديد وتحويلة أخرى تبرز تدهور حالته الصحية. وفي مارس سنة 2024 تلقت الأم اتصالاً من منظمة الصحة العالمية يفيد بالموافقة على سفر الطفل ومرافق واحد للأردن، لكنها طلبت اصطحاب طفليها المريضين وطفل ثالث معافى بعد فقدان زوجها في الحرب، إلا أن المنظمة وافقت على سفرها مع إلياس فقط.
ومع قبولها السفر وفق الشروط، لم تتلق الأم أي اتصال لاحق. تقول للفِراتْس: "ما رجعوا كلموني. حاولت أتواصل على نفس الرقم وما في أي رد"، مضيفة أنها بدأت تشك بأن "حدا دفع فلوس أو عمل واسطة وأخذ مكان ابني". وتشدد على أن غياب نشر قوائم السفر يتيح للجهات المسؤولة التلاعب بالأسماء.
شهادة أخرى رواها صالح دهليز الذي أُصيب في 23 مارس 2025 بشظايا في الرأس واليد والبطن جراء استهداف سيارة في دير البلح وسط قطاع غزة، ما استدعى خضوعه لعدة عمليات جراحية. ومع حصوله على تقرير طبي وتحويلة للعلاج بالخارج، إلا أنه ظل بلا أي إشعار بموعد سفره. يقول شقيقه هاني للفِراتْس إن دائرة العلاج بالخارج أقرت بخطورة وضع صالح، لكنها بررت التأخر بأن الدول المستقبِلة تمنح الأولوية للأطفال.
وإن كانت وزارة الصحة في غزة تبرر تأخير سفر المصابين بمنح الأولوية للأطفال، فإن حالة الطفل أحمد سحلول البالغ من العمر أربع سنوات تُفنّد هذه الرواية. فقد أصيب أحمد بحروق بالغة في أنحاء جسده بعدما اشتعلت خيام نازحين في منطقة المواصي غرب خان يونس في يونيو 2025 عقب قصف إسرائيلي مباشر. فقدَ والداه وأصبحت عمته سميحة القائمة على رعايته ورعاية شقيقيه المصابين أيضاً. تصف سميحة حالته قائلة: "رائحة الحروق لا تُطاق بسبب الالتهابات الشديدة، والمضادات الحيوية مش متوفرة". وتضيف أن الطفل يعاني تدهوراً نفسياً جراء التنمر على شكله، "صار يرفض يشوف حد".
ومع إعداد تقرير طبي له في أغسطس 2025 وحصوله على "نموذج أ"، إلا أن العائلة لم تتلق أي إشعار بالمغادرة حتى موعد نشر التقرير، فقد اكتفت منظمة الصحة العالمية بوعدهم أنها ستتواصل معهم قريباً.
حتى وإن أُقر تصريح السفر ووُفرت الدولة المستضيفة، فإن مسارات إجلاء المرضى من غزة التي تفرضها الإجراءات الإسرائيلية قد تمتد لأشهر قبل السماح بالسفر.
تروي نعمات للفِراتْس أن معاناة طفلها بدأت منذ ولادته في الشهر الثامن مصاباً بخلل في الغدد الصماء عطّل نموه الطبيعي واضطره للبقاء في الحاضنة على أجهزة التنفس، إضافة إلى إصابته بحنف قدمه اليسرى. وتقول إن علاجه كان متوفراً قبل الحرب، لكن اندلاعها غيّر كل شيء. فقد اختفت أدويته وحليبه الطبي، وأدى الحصار والمجاعة إلى تدهور حالته الصحية. تضيف: "بعد خمسةٍ وستين يوماً من الحرب صار أحمد هزيلاً، ينام طوال الوقت ولا يستيقظ. كنت آخذه يومياً ليحصل على محاليل تساعده على الصحو، والدكتور كان يقول لي: 'أعطيه أي طعام يتوفر لأننا في وضع غير طبيعي'".
لم تكن معاناة أحمد الوحيدة داخل الأسرة، فشقيقه جواد ذو التسعة عشر عاماً يعاني أيضاً خللاً في وظائف الغدد، ثم وجدَت الأسرة نفسها تحت وطأة ظروف الحرب. فوالد الأطفال علق في الضفة الغربية، شأنه شأن كثير من الغزيين الذين كانوا يعملون داخل الخط الأخضر قبل السابع من أكتوبر وانقطعت بهم سبل العودة مع اندلاع الحرب، فاضطروا للجوء للضفة. فيما اضطرت نعمات للنزوح المتكرر من منزلها في عبسان شرق خان يونس قبل الاستقرار مع أطفالها في خيمة في المواصي، ثم في مركز إيواء كان سابقاً مدرسة في حي الأمل غرب خانيونس. وتقول: "الحياة انقلبت رأساً على عقب، حتى أبسط أنواع الطعام التي كنت أستطيع توفيرها في المنزل لم تعد متاحة في الخيام لغياب الغاز وندرة الغذاء".
بعد تشخيص تدهور حالة أحمد في مجمع ناصر الطبي بخان يونس، حصل الطفل على تحويلة طبية في يونيو 2024، لكن تنفيذ الإجلاء تأخر حتى 20 أغسطس 2025، حين سمحت منظمة الصحة العالمية بسفر العائلة بلا أمتعة مع الملفات الطبية فقط. واستغرقت الرحلة أكثر من عشر ساعات، وضمّت نحو مئةٍ وخمسين مريضاً ومرافقاً. فيما تولّى فريق طبي إماراتي على متن الطائرة إجراء الفحوصات الأولية لهم. ومع وصولهم إلى "المدينة الإنسانية" بأبو ظبي، بدأ أطباء متخصصون في الجهاز الهضمي والتغذية متابعة علاج أحمد. تقول نعمات إنها ما تزال غير مصدقة نجاتها وأطفالها من القصف وسوء التغذية، لكنها لا تعرف إن كانت ستعود يوماً إلى عبسان.
وفي المدينة نفسها، يواصل الفتى محمود صقر ذو الخمسة عشر عاماً رحلة علاجية بدأت بعد أن فقد ساقه ووالده في غارة إسرائيلية بينما كانا في طريقهما إلى السوق بمدينة رفح في ديسمبر 2023. أمضى محمود أشهراً في المستشفى الميداني الإماراتي برفح، وخضع لنحو عشرين عملية انتهت ببتر ساقه اليمنى، ثم حصل على تحويلة لاستكمال العلاج بالخارج. وفي أبريل 2024 غادر مع والدته عبر معبر رفح إلى مطار العريش، ومنه إلى المستشفى الإماراتي العائم في العريش، الذي أقيم في فبراير 2024 لرعاية المصابين الفلسطينيين. هناك عُملت له عمليات إضافية قبل نقله إلى أبوظبي، حيث خضع لخمس عمليات أخرى ضمن خطة إعداد طرف صناعي.
تقول والدته إن بتر ساقه ترك أثراً نفسياً بالغاً عليه، "كان مكتئباً ومقهوراً ولا يريد الكلام، لكن منذ وصوله إلى المدينة الإنسانية بدأ يتحسن يوماً بعد يوم، والتحاقه بالمدرسة ساعده كثيراً". ومع وجودها معه، يظل قلبها معلّقاً بأبنائها الثلاثة في غزة الذين يعيشون في خيمة نزوح بمنطقة المواصي ويواجهون ظروفاً قاسية بعد فقدان والدهم وشقيقاتهم وبعض من أقاربهم.
يقول محمود للفِراتْس إن التواصل مع أشقائه يكاد يكون مستحيلاً بسبب تقطع الاتصالات، "لما ما يردوا علينا بنخاف. معظم أقاربنا من طرف أمي وأبي استشهدوا. وإخواني بيقضّوا يومهم يدوروا على مي وأكل. حلمي تنتهي هاي المأساة ونرجع نكون مع بعض".
وفيما يكابد مصابو غزة في الإمارات ذكريات الفقد والخوف والقلق على الأحبة في القطاع، يواجه المصابون والجرحى الغزيون في مصر بالإضافة لذلك تجربة رعاية صحية مختلفة، ومزيجاً معقداً من الدعم الإنساني الكبير والتحديات العملية.
برر ممثل المنظمة في مصر نعمة عابد هذا الدعم بأن مصر استقبلت "أكبر عدد من حالات الإجلاء الطبي من غزة"، وقدمت لهم الرعاية الصحية المتخصصة في مئةٍ وسبعين مستشفى، في أربع وعشرين محافظة. وقد أعلنت المنظمة تقديم إمدادات طبية تزيد قيمتها على ثمانية ملايين دولار، وتدريب نحو ثلاثة آلاف عامل صحي في الطوارئ والصحة النفسية. غير أن هذا الدعم ظل غير كافٍ، إذ تركزت شهادات المصابين الذين التقتهم الفِراتْس داخل المستشفيات المصرية ودور الشباب ومراكز الاستضافة على عدم توفر تكاليف العلاج ومطالبتهم السفارة الفلسطينية بإكمالها.
ممن يتعالج في مصر مريضة سرطان الغدد اللمفاوية سمر. حُوّلت للعلاج إلى مصر في مطلع 2025 ودخلت مستشفى الشيخ زايد التخصصي شرق القاهرة، حيث عولجت حتى أكتوبر 2025، قبل أن تُنقل مع بقية المرضى فجأةً إلى دار تابعة لوزارة الشباب والرياضة في أسيوط في صعيد مصر.
تقول سمر للفِراتس إنه عند وصولها لأسيوط لم تجد المكان ملائماً، "غرف في الطابق الخامس بلا مصعد، حمّامات مشتركة، وانقطاع للمياه". وكانت قد تلقت أربع جرعات علاج كيماوي وكشفت الفحوصات عن ورم ثانٍ في الثدي، لكن خطة علاجها لم تكتمل ولم تكن تعلم كيف ستواصل علاجها في محافظات بعيدة عقب نقلها المفاجئ. لذلك في اليوم التالي وصولها أسيوط، ضمن مجموعة تضم خمسةَ عشرَ شخصاً بين مرضى ومرافقين، قررت وباقي المجموعة العودة إلى القاهرة على نفقتها الخاصة لاستكمال العلاج.
تريد سمر إنهاء علاجها والعودة إلى بناتها اللاتي تركتهن في غزة، وكانت قد اختارت والدها مرافقاً بعد أن ظنّت أن الحرب توقفت. إذ غادرت خلال فترة هدنة يناير 2025 مع افتراض أنها ستعمل العملية سريعاً ثم تعود إليهن. وتوضح أنها تعتزم التوجه إلى السفارة الفلسطينية في القاهرة لطلب تغطية تكاليف ما تبقّى من علاجها، لكنها غير واثقة من موافقة السفارة على الدفع، بالنظر إلى ارتفاع تكلفة عملية زرع النخاع. وإن لم تُغطِّ السفارة نفقات العلاج، فلن تجد بديلاً عن العودة إلى غزة. تعاني الطواقم المصرية من نقص الإمكانات فلا تقدر المنظومة الصحية في مصر على تلبية كل حاجات المرضى النوعية. وهو ما دفع الكثير من المصابين والمرضى المقيمين بمصر لمحاولة سد تكاليف العلاج والمعيشة بالتبرعات والمبادرات الفردية.
استأجرت سمر بمساعدة عدد من المتبرعين المصريين شقةً صغيرة وسط القاهرة وأقامت فيها بعدما حولها الأطباء في مستشفى الشيخ زايد إلى معهد ناصر بالقاهرة لتلقي العلاج الإشعاعي بعد عودتها من أسيوط.
ومثل سمر، بحثت أم حامد عمن يتكفل بتكاليف علاج نجلها حامد ذي الخمسة عشر عاماً جراء إصابته في الفخذ بشظية كبيرة ما جعلها مهدّدة بالبتر، إضافة لإصابة في جنبه بشظية أخرى. لم تتوفر تكاليف العلاج أو الإمكانات الكافية لعلاجه في مستشفى العبور للتأمين الصحي بكفر الشيخ، التي حُول لها بعد الوصول لمصر في فبراير 2024، ومكث بها شهرين ونصف. اضطر للخروج من ذلك المستشفى وانتقل لمدينة العبور، شرق القاهرة، حيث ساءت حالة الجرح والتهب التهاباً شديداً في أسبوعين. ولتجنب أي مضاعفات بدأ على الفور رحلة علاج جديدة من صور أشعة وتشخيص بأحد المستشفيات الخاصة المتخصصة في العظام بالقاهرة. يقول حامد: "خلصت مرحلة علاج إجري (رجلي) كله على حسابي الخاص"، مشيراً إلى أن استفادته من المستشفى الحكومي كانت محدودة، وأن حالته لم تتحسن سوى عندما بدأ العلاج عند طبيب خاص يدفع له.
ومع عدم استطاعته توفير نفقات العلاج سجّل في إحدى المؤسسات التي تقدم رعاية طبية للفلسطينيين القادمين من غزة عبر أحد الروابط التي يتداولها الفلسطينيون على فيسبوك. تكفلت المؤسسة بعلاج إصابة بطنه التي أثرت على أمعائه بأحد المستشفيات الخاصة بالقاهرة.
لم تقتصر عمليات نقل المرضى من المستشفيات القريبة من القاهرة على سمر ومرافقيها وأم حامد. فقد نشرت ناشطة فلسطينية تُعنى بدعم مرضى غزة على حسابها في فيسبوك في أكتوبر 2025 أن جميع المرضى والجرحى في مستشفيات القاهرة نُقلوا ووزعوا على مساكن في العبور والخيالة (حي البساتين) وفيصل. إضافة إلى محافظات خارج القاهرة، وأن من بينهم حالات صحية حرجة. وشملت عمليات النقل بعض المستشفيات في المحافظات، وسط مخاوف من إمكانية إعادتهم إلى غزة قبل استكمال علاجهم.
والانتقال بين المستشفيات ليس مرده فقط نقص الإمكانات أو عدم توفر تكاليف العلاج، بل يمتد إلى سوء توزيع المرضى على مستشفيات لا تناسب حالاتهم. ومن بين الحالات التي التقت معها الفِراتْس كان خالد ووالدته.
ومع اندلاع الحرب في أكتوبر 2023 وتردّي الأوضاع الصحية في قطاع غزة، من اكتظاظ المستشفيات بالنازحين، وتراجع مستوى النظافة ونقص المياه النظيفة وصولاً إلى شحّ الأدوية الضرورية، اضطرت الأم إلى البحث عن علاج خارج القطاع. وفي مارس 2024 غادرت مع خالد وابنها الآخر إلى مصر. نُقلوا لمستشفيات عدة، بدءاً بمستشفى الحميات بالمحلة ثم مستشفى صدر المحلة الذي مكث فيه الطفل نحو أربعة أشهر، مع عدم ملاءمته حالتَه التي تتطلب تخصصَ "كلى وقلب أطفال".
ومع تقديرها للتعامل الإنساني من الطبيبات والممرضات اللاتي تكفّلن من حسابهن الخاص أحياناً بتغطية بعض التحاليل والأدوية، إلا أن حالة خالد الصحية واصلت التدهور. وعندما بلغ مرحلة خطرة ترافقت مع قيء شديد وفقدان الوعي، نُقل سريعاً إلى العناية المركزة للأطفال في المستشفى الدولي بالمنصورة، حيث استقر وضعه بعد عشرين يوماً من العلاج. حصل خالد لاحقاً على قبول للعلاج في مركز غنيم لأمراض الكلى والمسالك البولية بجامعة المنصورة، وهو ما منح أمه بصيصاً من الأمل. ومنذ ذلك الحين، تتنقل الأم أسبوعياً في رحلة شاقة تمتد ست ساعات ذهاباً وإياباً بين القاهرة والمنصورة، حيث يحصل طفلها على مثبطات المناعة مجاناً، فيما تتحمل هي تكلفة الأدوية الأخرى وفحوصات القلب الباهظة.
تقول الأم إن بعض معارفها من سكان مساكن العبور حصلوا على فرص للعلاج في الولايات المتحدة، خصوصاً من مبتوري الأطراف، لكنها لا تعرف كيف يمكن لطفلها أن يحظى بفرصة مماثلة، بينما تواصل جهودها في مواجهة مرضه بإمكانات محدودة. ويشاطرها الرغبة في الخروج لبلد ثالث، لاسيما في الخليج وأوروبا، كثيرون ممن استنفذوا فرص العلاج في غزة ومصر، سواءً لضيق ذات اليد أو عدم توافر الإمكانات اللازمة أو صعوبة المتابعة. فهناك حسب تصورهم تتوفر الإمكانيات المادية الأفضل للعلاج.
يقول: "كنت واقف ع البلكونة راكز [مرتكز على سور الشرفة] وإجا الصاروخ طيّرني. طرت جوه في الدار ولحقتني الحيطة [. . .] وقعت جوة الغرفة. فقدت البصر دوغري [مباشرة]". نُقل محمد إلى مستشفى غزة الأوروبي الذي افتقر القدرة على علاجه، وصدر له تحويل إلى مصر لم ينفّذ إلا بعد عام وأربعة أشهر بسبب رفض إسرائيل المتكرر منحه الموافقة.
دخل محمد مصر في النصف الأول من مارس 2025 أثناء الهدنة الثانية، بعد أن اضطر لترك ابنه الأكبر خلفه لأن اسمه لم يكن ضمن المسموح لهم بالمغادرة. تنقّل بين الشيخ زويد في سيناء ومستشفى المطرية بالقاهرة، حيث قيل له إن علاجه غير متوفر، قبل أن يُحوّل إلى مركز شباب المعتمدية بمحافظة الغربية بعد ثلاثة عشر يوماً من وصوله.
أظهر تقرير المركز القومي للعيون في أبريل 2025 أن عيونه "ترى الضوء فقط" بنسبة أقل من واحد على ستين. ومنذ ذلك الحين، يقطع محمد مسافات شاقة بين المحافظات بحثاً عن أمل ضئيل في العلاج، مدعوماً بتبرعات أو كشف مجاني من بعض الأطباء. لكن الإجابة واحدة: لا علاج داخل مصر. وقد أبلغه أحد الأطباء أنه يحتاج إلى خبراء أجانب وإلى عمليات معقدة لمعالجة تمزق الشبكية، بينما عرض آخر جراحة تجميلية لتحسين الشكل الخارجي فقط، فرفض.
ورغم كل الإخفاقات، لا يزال محمد يتشبث بأمل السفر إلى دولة خليجية أو أوروبية قد تتيح له عملية تعيد جزءاً من بصره.
وعن معاناة مشابهة تحدثت أم محمد لنا. فقد أصيبت بتشوّهات شديدة في الساقين عقب قصف برج المهندسين في مخيم النصيرات وسط غزة في 31 أكتوبر 2023، وفقدت اثنتين من بناتها تحت الأنقاض، وأُصيب زوجها. أُنقذت العائلة بعد ست ساعات، ونُقلت الأم إلى مستشفى الأقصى بدير البلح حيث خضعت لعمليات تنظيف وترقيع في ظروف قاسية، من نقص تخدير وشحّ غذاء وانعدام دم كافٍ. لكنها استعادَت القدرة على المشي تدريجياً، قبل أن تُنقل إلى مصر في مارس 2024 عبر تحويلة طبية، بينما مُنع زوجها المصاب من الخروج معها. أقامت في مستشفى مدينة المحلة أكثر من عام، تلقت فيه علاجاً طبيعياً ساعدها على الحركة، لكن التشوّهات والآلام لا تزال قائمة. لم تعمل أي عمليات تجميل أو زراعة الأنسجة المفقودة، وقد اضطرت لاستئجار سكن خاص رافضةً الإقامة المشتركة في مساكن العبور.
وترى أم محمد، مثل محمد، أن فرصة العلاج الحقيقي لن تتوفر إلا خارج مصر، في دولة تملك قدرات أعلى في الجراحة التجميلية، وقد حاولت التواصل مع السفارة الفلسطينية بالقاهرة لكن الرد كان واضحاً: "الأمر ليس في أيدينا".

