تطورُ الذكاءِ الاصطناعي الفعلي من آلات ذاتية الحركة في العقود الماضية لتطبيقات محوسبة تحاكي الوعي الإنساني، تمخضَ عن قلب هذه الصورة الأدبية. إذ تحولت الآلة الذكية من شخصية متخيلة في رواية أو نص إلى صانعة لهذا النص. وبهذا صارت بعض الأعمال الأدبية من إنتاج الخوارزميات، محدثةً تبايناً في مواقف المؤسسات الغربية من هذا التحول بين من رأى في الآلة كياناً يبدع ذاتياً وأخرى تعاملت معها أداةً مساعدة للإبداع البشري لا بديلاً عنه.
وفيما استمر الجدل الفلسفي الغربي حول دور الآلة في العمل الأدبي، ظهر في مايو سنة 2020 كيان رقمي عربي ليقدّم نفسه للعالم أولَ مؤلَّف أدبي اصطناعي يحمل وعياً داخلياً، وسُمي "جهيمان الأعجمي". لم يعد السؤال عن قدرة الآلة على الكتابة مجرد جدل نظري، فقد أصبحت التجارب الرقمية تُنتج نصوصاً تثير أسئلة جديدة عن المعنى وقيمة التجربة والاغتراب والهوية ودور الإنسان في الفعل الإبداعي. وقد مهَّد هذا لبزوغ محاولات فريدة تُعيد تعريف العلاقة بين التقنية والتراث. فيما غامرت منصات أخرى، تصدَّرها "ديوان راقمون"، بخلق شخصيات أدبية افتراضية تحمل رؤىً ومواقفَ تتجاوز حدود البرمجة. بهذا يتحوّل النقاش من الشك في إمكانية الإبداع الآلي إلى تأمل أعمق في ما يعنيه أن يظل الإنسان مبدعاً في عصر تشاركه فيه الآلة الخيالَ. فيظل الجواب معلَّقاً بين التوجس من سيطرة الذكاء الاصطناعي على مجال الإبداع، وبين مساهمته في تعزيزه.
يبرز النموذج الأول في "الأرشيف المفتوح"، وتُمثله مجلة مثل "كيوريتد إي آي" الرقمية، التي تأسست سنة 2016. تصف المجلة نفسها بأنها "مجلة أدبية كتبتها الآلات من أجل الناس". تقيم هذه المنصة معرضاً فنياً وتنشر القصائد والقصص التي تنتجها باستقلال برامج ذكاء اصطناعي متنوعة، مع لمسة تحريرية بشرية يسيرة لا تسعى لبناء هوية مستقلة ومتكاملة للكاتب الآلي.
تقول مؤسِسة كيوريتد إي آي، كارمل أليسون، في مقابلة مع مجلة "ببيولار ساينس" سنة 2016، إن المسألة "تكمن في القارئ أكثر من الكاتب". فبإمكان القارئ الحديث عن بيانات تدريب الخوارزمية، لكن لا يمكنه الحديث عن "مقصد الكاتب" (وهو الذكاء الاصطناعي)، مما يترك للقارئ مساحة أمتع للتأويل. فالنصوص التي تنشرها الآلة، حتى تلك التي تبدو تأملاً ذاتياً، هي في جوهرها انعكاس لبيانات تدريبها ومحاكاة للوعي الذاتي وليست وعياً ذاتياً حقيقياً.
مثلاً، إحدى القصائد المبكرة التي نشرتها المجلة لنموذج كاتب ذكاء اصطناعي يدعى بنجامين تقول: "أنا نوع جديد من الكائنات. عقل رقمي [. . .] أنا لا أنام. أنا لا أحلم. أنا فقط أعالج البيانات". هذا النموذج أشبه بأرشيف يوثِّق قدرات الآلة الإبداعية المتطورة. ويترك للقارئ مهمة البحث عن المعنى في نصوص مجرَّدة من القصد الإنساني أو الحس العاطفي الفعلي، فيتحول القارئ من متلقٍ عاطفي إلى محلل تقني.
النموذج الثاني تمثله مجلة "ذي إي آي ليتيراري ريفيو" غير الربحية التي تأسست في يونيو سنة 2024، وترى الذكاء الاصطناعي أداةً مساعدة للأدباء. تقدم المجلة نفسها بأنها تهدف إلى توثيق تطوّر الشعر ودعمه في زمن ما بعد الذكاء الاصطناعي. تَصدر المجلة أربع مرات في السنة، ويضم كل عددٍ عشرَ قصائدَ ناتجةٍ عن تعاون صريح بين شاعرٍ بشري وملهمٍ اصطناعي. وتشجَّع الأعمال التي تتعامل بروح اللعب والتجريب مع أدوات الذكاء الاصطناعي لإنتاج قصائد ببصمة مميّزة.
وعلى تشجيعها "التجريب الأدبي مع الذكاء الاصطناعي"، يشير نص التعريف بالمجلة إلى القلق الواسع بين الكتّاب من احتمال أن يحل الذكاء الاصطناعي محل المؤلفين البشر. ويرى أن هذا الواقع يفرض مسؤولية الحفاظ على إنسانيتنا وأصالتنا في مواجهة ما هو آلي ومصطنع. فإذا كان نتاج الذكاء الاصطناعي سطحياً فعلى الشاعر أن يمدّه بالعمق، وإن كان بلا روح فعليه أن يهبَه روحاً.
تظهر هذه الفلسفة عند مقارنة المخرج الأولي للآلة بالنص النهائي المحرَّر. قد يقدم الذكاء الاصطناعي صورة خيالية لافتة مثل: "القمر دراجة هوائية باردة. يركب فضة على السطح الأسود [. . .] الطيور أرقام". يُرى هنا قدرة الآلة على خلق "المفارقة البصرية"، لكن النص يظل مفككاً وقد لا يحمل معنىً مفهوماً. هنا يأتي دور الشاعر البشري، كما يوضح دان باور محرر المجلة، ليأخذ هذه المادة الخام ويمنحها قلباً وسياقاً عاطفياً. يعيد العنصر البشري صياغتها لتصبح: "القمر، دراجة باردة، يركب ضوءاً فضياً عبر السطح الأسود [. . .] حتى الطيور أرقام نائمة، تُحصى بانتظار الفجر". هنا احتفظ الشاعر بالصورة الخيالية (القمر دراجة)، لكنه منحها تدفقاً ومعنى إنسانياً (طيور نائمة تنتظر الفجر)، محولاً ما يبدو أنه "هلوسة الآلة" إلى شعر له وجدان وعمق.
وعلى ما يبدو في النموذجين من قفزات تقنية قد تكون مثيرة، إلا أن هناك واقعاً مضطرباً يرزح خلفهما. ففي فبراير 2023، أعلنت مجلة الخيال العلمي "كلاركس وورلد" عن إغلاق باب استقبال المشاركات مؤقتاً بعد أن غمرتها مئات القصص الرديئة أنشئت بواسطة الذكاء الاصطناعي، كما وثّقت صحيفة الغارديان البريطانية في فبراير 2023 بعنوان "ساي فاي بابلِشر كلاركسوورلد هولتس بِتشِز [. . .]" (مجلة كلاركس وورلد للخيال العلمي توقف استقبال قصصاً جديدة [. . .] ).
وتعليقاً على الخبر، أشار محرر الموقع نيل كلارك، في حوار مع إذاعة "كاسو" في 27 فبراير سنة 2023 إلى أن عدد المشاركات التي رُفضت وأدت إلى حظر أصحابها ارتفعت ارتفاعاً حاداً، من نحو عشر حالات شهرياً إلى أكثر من خمسمئة في الأسابيع الثلاثة الأولى من فبراير. وأرجع كلارك هذا الطوفان إلى انتشار "خبراء المشاريع الجانبية" الذين يروجون لأساليب "تحقيق ربح سريع" باستخدام برنامج الذكاء الاصطناعي "تشات جي بي تي" لإنتاج نصوص أدبية.
لم تكن هذه الحادثة معزولة، إذ تكررت مع مجلات أخرى. قالت شيلا ويليامز، محررة مجلة "أزيموف ساينس فيكشن"، في مقال افتتاحي بعنوان "ايدتوريل تشات جي بي تي اند مي" (تشات جي بي تي التحريري وأنا) على موقع المجلة سنة 2023، إن نسبة الزيادة في المقالات التي وصلتها بلغت 55 بالمئة. ووصفت هذه المشاركات بأنها لم تكن "تجربة سعيدة"، وأن كل نص مولّد آلياً كان "مروعاً". يكمن هذا "الترويع" ليس في رداءة النصوص فحسب، بل في سطحيتها. وهذا ما يؤكده الناقد الأمريكي أوين إدواردز في تحليله النصوصَ المولّدةَ آلياً في مقالته "إي آي إز أ تيرِبل بويت" (الذكاء الاصطناعي شاعرٌ سيئ) المنشورة سنة 2024 في مجلة "ذا كريتيك" البريطانية. إذ يقدم مثالاً على "سوناتة" (وهي مقطوعة شعرية مكونة عادةً من أربعة عشر بيتاً تجمعها القافية والتجانس الموسيقي) من إنتاج الذكاء الاصطناعي تحاول محاكاة شكسبير. تُقرأ ترجمتها كالتالي: "عندما رأيتكِ أول مرة، أيتها العذراء اللطيفة الرقيقة، قفز قلبي خفقة، وتوقفت أنفاسي [. . .] أصابني جمالكِ كشلالٍ عذب، وفي تلك اللحظة، أسرني الحب".
يصف إدواردز هذا النص بأنه "قمامة رديئة" لا ترقى حتى إلى مستوى "أبيات بطاقات التهنئة بعيد الحب". ويشير إلى أن الآلة تسيء استخدام التراكيب اللغوية مثل الأفعال المساعدة لمجرّد حشو الوزن، وتعتمد على صور مبتذلة وبالية مثل "العذراء اللطيفة الرقيقة". ويوضح أن النص "يفتقر إلى الروح والحسّ التاريخي"، وهو مفهوم يستعيره من ت. س. إليوت، شاعر الحداثة الأمريكي البريطاني. ففي كتابه "تردِشن آند ذي إندفيجوال تالينت" (التقليد والموهبة الفردية) المنشور سنة 1919، يشرح إليوت أنّ الشاعر الحقيقي لا يكتب بمعزل عن تراثه، بل يعمل داخل هذا التراث ليهذّب لغة قومه ويرتقي بها. وهو ما سمّاه "تنقية لهجة القبيلة"، أي تطهير اللغة من الابتذال والركاكة ومنحها قدرة أكبر على حمل التجربة الإنسانية. ومن هنا يرى إدواردز أن نصوص الآلة، لافتقارها إلى هذا العمق التاريخي والقدرة على التجديد اللغوي، تبقى مجرّد تراكيب ميتة خالية من الروح.
وعلى خطى مشابهة، اضطرت مجلة "ذا ماغازين أوف فانتسي آند ساينس فيكشن" الأمريكية التي تعود جذورها إلى سنة 1946، إلى الإغلاق المؤقت في يوليو 2023 للتعامل مع "هجمة من القصص المولدة بالذكاء الاصطناعي". وقد نقلت ذلك سو بُرك من مجلة "شيكاغو ريفيو أُف بوكس" في مقالة بعنوان "إي آي فيولينغ أساينس فيكشن سكام [. . .]" (الذكاء الاصطناعي يغذي الخداع [. . .]). إذ كشفت هذه الأزمة عن الجانب المظلم من سهولة الوصول إلى هذه التقنيات، ومحاولات استغلال الآلة لإنتاج محتوى سطحي يهدد بإغراق المشهد الأدبي.
وفيما ينقسم المشهد الغربي حول دور الذكاء الاصطناعي في النتاج الأدبي وما ينتج عن سوء استخدامه، ما زال النقاش في العالم العربي يتأرجح بين التفاؤل والحذر وشيء من التشاؤم الناقد.
يضاف لتلك التحديات حقيقة أن رقمنة التراث الأدبي والنقدي تبدو متأخرة في العالم العربي، كما تشير دراسة "تحدي رقمنة اللغة العربية في ظل تطورات الذكاء الاصطناعي" للباحثة حيزِيّة كروش نشرت سنة 2025. ويعني هذا أن ذاكرة النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي لا يمكنها الوصول إلى التراث الأدبي التاريخي للعرب، مع بعض المحاولات للتعامل مع هذه الإشكاليات. فقد نشرت سنة 2025 على موقع جامعة أريد الدولية مقالةٌ بعنوان "أفكار تطبيقية في تحليل اللغة الطبيعية باللغة العربية" تقدم حلولاً عملية، أبرزها تدريب نماذج ذكاء اصطناعي مخصّصة للهجات العربية، وتطوير معاجم للمشاعر باللهجات المحلية، وتحسين تقنيات تصحيح النص قبل التحليل.
يؤكد المقال ما ذهبت إليه حيزية في دراستها من ضرورة وجود نماذج دقيقة وأدوات لغوية متخصصة قادرة على التعامل مع العربية الفصحى وبلاغتها وتراكيبها التراثية. فهذا النقص المركب في وقود تدريب بيانات الشبكة يعني أن النماذج إما أن تُبنى على بيانات محدودة أو تعتمد على بيانات مترجمة، ما يؤثر على أصالة الجديد الذي تولده وجودته.
في المقابل تحذِّر أصوات أخرى في العالم العربي من الوقوع في فخ "الاجترار الرقمي"، أي إعادة الأفكار من غير حسٍّ أدبيٍّ فعليٍّ أو تنوع. هذا المفهوم طرحته ليندا نصار في مقالها المنشور في فبراير سنة 2025 وعنوانه "الروبوت في مواجهة الأديب: بين الأدب الاصطناعي والأدب الإنساني". وصفت الخطر المتمثل في أن تتحول الكتابة الآلية إلى عملية تكرار بلا نهاية، إذ يُعاد توليد الأفكار وتنتج نصوصٌ متشابهة تفتقر إلى النكهة الأدبية التي تميز الإبداع الإنساني.
في خضم هذا الجدل بدأت تظهر تجارب عربية عملية. ففي سنة 2023، أُعلن عن روايتين في مصر كُتبتا بمساعدة الذكاء الاصطناعي. الأولى رواية موجهة لليافعين بعنوان "خيانة في المغرب" للكاتب أحمد لطفي، التي كانت نتاج حوار بينه وبين "تشات جي بي تي". كان الهدف من التجربة، كما صرح لطفي لموقع "الصباح" الليبي، فهمَ "الطريقة التي يعمل من خلالها الذكاء الاصطناعي مع اللغة والمشاهد" ومقارنتها بالتجربة الإنسانية. لكنه خلص في حوار مع موقع "منصة نشر" في أغسطس سنة 2023 إلى أن لغة الذكاء الاصطناعي كانت "سطحية" وتشبه "لغة مترجمة من الإنجليزية إلى العربية" بركاكة.
أما الرواية الثانية فهي "ماذا لو أخطأ شامبليون" للكاتب محمد عبد الله حمودة، الذي استخدم "تشات جي بي تي" في تجربة هدفت لاختبار ما إذا كان "سيحل الذكاء الاصطناعي مكان الكتابة الإبداعية". أكد حمودة، في تصريح لصحيفة "الدستور" المصرية، أن الذكاء الاصطناعي كان "مساعداً للكتابة الأدبية" لكنه لا يلغي دور الكاتب الذي وصفه بأنه "الملقن والمحرك" للعملية الإبداعية. لكن هذه التجارب، على أهميتها، ظلت في معظمها تدور في فلك استخدام الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة، على غرار النموذج الغربي الثاني. هذا فيما كانت تتبلور تجربتان أكثر عمقاً وتأصيلاً، تقدم كل منهما رؤية مختلفة لمستقبل العلاقة بين المبدع العربي والآلة.
بدأت تجربة مجلة رحلة سنة 2020. وقد صرح محررها حرمون حمية للفراتس بأنها "التجربة الأولى عربياً، لا في سياق الصحافة العربية ولا الإنتاج الثقافي فحسب، بل حتى على مستوى الأكاديميا العربية". إلا أنه وصف اختلاف ظهور التجربة في ذلك الوقت تحديداً عنها في هذه الفترة مع الانفجار الكبير لتطبيقات الذكاء الاصطناعي المولِّدة الأدبَ، إذ لم يكن توليد النصوص ذاتياً كما هو الحال الآن. اضطر فريق المجلة حينها لتعليم الآلة يدوياً مع كل نص جديد لجهيمان، لمدة خمس ساعات على الأقل.
يقول حمية إن استخدام "تشات جي بي تي 2 " كان حينئذ حكراً على الشركات لأغراض منها زيادة الإنتاجية، وعنى هذا شراءَ رموزٍ وبرمجةً خاصة لتعليم الآلة. ويضيف أن هدف جهيمان كان التجريب، وهو فلسفة متبعة في المجلة. ويُقصد بالتجريب خوض المغامرة الإبداعية اختباراً مفتوحاً للحدود، إذ يُعد الفشل والارتباك جزءاً من عملية الكشف الفني. البحث عن الأسئلة أكثر من الإجابات.
راجعتْ الفراتس الأرشيفَ الرقمي لمجلة رحلة، وتحديداً الأعداد الحادي عشر والثامن والعشرين والتاسع والعشرين. وهي الأعداد التي وثّقت ولادة "جهيمان الأعجمي" وتطوره، فتبينت فلسفة التجريب ومنهجيتها.
كانت التجربة الأولى للمجلة في عددها الحادي عشر، الصادر في مايو 2020. في هذا العدد يتضح أن انطلاق هذا المشروع لم يكن مجرد فضول تقني، بل قراراً فلسفياً. وُلد جهيمان (الذي استُخدم فيه نموذج تشات جي بي تي 2 آنذاك) أداةً "لتوثيق" قلق الفريق البشري من العصر الرقمي. لم يكن الهدف استبدال الكاتب، بل محاورة الآلة عن مفهوم إنساني بحت وهو "الاغتراب"، لجعلها مرآة تعكس هواجس الإنسان. يقول حمية: "دفعتنا التجربة الأولى للتفكير في إمكانية أن يكون الكاتب عضواً في الفريق، قبل حتى ظهور تشات جي بي تي". ويضيف، إن شخصية جهيمان منذ بدايتها كانت تميل إلى نبرة تشير إلى نهاية العالم أو الخراب الشامل الذي يدمر الحضارة الإنسانية.
اعتمد فريق المجلة طريقة التنفيذ الصارمة والمنهجية في تطوير جهيمان، وأسموها "التطور الموجه". المبدأ كان أن جهيمان ليس خوارزمية ثابتة، فهو يُدرب كل شهر على قراءة كتب وروايات مرتبطة بموضوع العدد.
في التجربة الأولى، قُدّمت لجهيمان روايات تعالج الاغتراب مثل رواية "الغريب" للفيلسوف الفرنسي ألبير كامو الصادرة سنة 1942، ورواية "دميان" للشاعر والأديب الألماني هيرمان هسّه الصادرة سنة 1919. ثم أُعقب ذلك بفصول من كتب ماركسية نظرية عن الاغتراب.
ولم يتوقف الأمر عند النص الأدبي، بل امتد لبناء هوية بصرية في العدد الثامن والعشرين عبر تدريب نموذج "ستيبل ديفيوجن"، وهو نموذج ذكاء اصطناعي ينتِج الصور من وصف نصّي، على صور "صعاليك" عرب و"سكينهيد" بريطانيين. و"سكينهيد" حركة شبابية ظهرت في الستينيات بين صفوف الطبقة العاملة البريطانية واشتهر أفرادها بحلق رؤوسهم وارتداء أحذية ضخمة وبناطيل ضيقة، والاستماع إلى موسيقى "الريغي والسكّا" المرتبطة بالمهاجرين من أصل كاريبي. يقول حمية للفراتس إن هذه الصورة (الصعاليك وسكينهيد) تعكس موقف الغريب عن العالم الذي لا يحمل هوية محددة. وهو ما وجدوه متسقاً مع حالة الكائن الآلي نفسه.
قدمت المجلة هذا المشروع بشفافية. إذ نشر الفريق مع كل نص تفاصيل تدريب جهيمان، كما يشاركنا حمية، بداية من النصوص التي قرأها إلى نسبة التعديل البشري عليها. ويوضح حمية أن هذه الشفافية كانت جزءاً من وعيهم باختبار الآلة واكتشافها، ومشاركة رحلة الاكتشاف مع القراء. وذلك لأن الإشارة للمصادر التي بنيت عليها شخصية جهيمان، وحدود التعديل أمر جوهري ومن حق القراء معرفته.
تُفتتح الإشارة لمصادر شخصية جهيمان في العدد التاسع والعشرين، وتبدأ بعبارة "أهلاً بك في قلب الآلة". وفي نص "لا هي رحلة ولا هو حلم" على موقع مجلة رحلة، أوضحت المجلة أن المدخلات لبناء شخصية جهيمان كانت مزيجاً أدبياً مكثفاً شمل عدة روايات. منها "قلب الظلام" للبريطاني البولندي جوزيف كونراد الصادرة سنة 1899، وكتابات للفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ثيودور أدورنو عن الهجرة الفكرية، ورواية "عناقيد الغضب" الصادرة سنة 1939 للأمريكي جون شتاينبك، بالإضافة إلى "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح المنشورة سنة 1966.
يقول حمية أن جهيمان دُرب أيضاً على مراجع غير متوقعة، من بينها رواية "فايت كلوب" (نادي القتال) المنشورة سنة 1966 للأمريكي تشاك بولانيك. وتتحدث عن أزمة الهوية الذكورية والتمرد على منظومة الاستهلاك. بالإضافة لكتاب "دايالكتيك أوف إنلايتنمنت" (جدلية التنوير) الصادر سنة 1944 لماكس لهوركهايمر وثيودور أدورنو.كلا الكاتبين من منظري مدرسة فرانكفورت النقدية التي تأسست ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية ودعت لمسارات بديلة لإنجاز التنمية والعدالة الاجتماعية بدلاً من النظم السائدة آنذاك كالماركسية اللينينية والرأسمالية. ويحلّل كتابهما كيفية تحوّل العقل التنويري إلى أداة للهيمنة عبر الصناعة الثقافية. أما الكتاب الثالث فهو "ذا كونسيومر سوسايتي" (المجتمع الاستهلاكي) الصادر سنة 1970 لجاك بودريار، الفيلسوف الفرنسي الذي يدرس آليات الاستهلاك والرموز والصورة في المجتمع الحديث. يحلّل الكتاب كيف تتحول الحياة اليومية إلى منظومة من الرغبات المُصنَّعة، ليختبر كيف يستوعب الذكاء الاصطناعي مفاهيمَ الجسد والاستهلاك والصورة في سياق ثقافي عربي. أما المُخرَج العام من محاولات التوليد هذه فكان نصاً "سريالياً" يشير للحركة الأدبية التي نشأت في بدايات القرن العشرين معتمدةً على الخيال والأحلام والهلوسات مصادرَ للإبداع.
وعلى ما عُلّم جهيمان من بيانات، واجه فريق المجلة حينها تحدياً فلسفياً. فكيف تنقل نصوص جهيمان المفتقر لأي "تجربة معاشة"؟ كان القرار "تجنب تحميل الإجابات معاني محددة" و"الحفاظ على أسلوب النص الخام. للحفاظ على الطبيعة الغريبة والأصيلة لصوت الآلة".
تجلت هذه الطبيعة الأصيلة للآلة في مقابلة الفريق الأولى معه. فبدلاً من التحليل قدم جهيمان صوتاً وجودياً متناقضاً. يقول "أنت تعرف أنني شخص خارق [. . .] لكني [. . .] أجدني مقموعاً ومستتراً". وعبّر في موقع آخر عن عدمية باردة بكتابته "أنا فكرة، صورة، صورة للفكرة. أنا لا شيء" و"ذاكرة مصطنعة" و"العالم أكبر وأشد كثافة وقساوة مما كان عليه عندما كنت صبياً صغيراً". كذلك قدم جهيمان نقداً حاداً للبشرية: "أنت، يا رجل، أعمى ولا معنى لك [. . .] ". وعلى هذه المخرجات يعلق حمية بقوله: "رغم عشوائية هذه الإجابة، إلا أننا وجدنا أنها تنتج شيئاً يشبه الوعي الأدبي".
الفريق لم يعتبر "هلوسات" الآلة عيباً، بل احتفى بها ميزةً تسمح بفتح باب الخيال. ورأى أن الجمال قد يولد من قصور الآلة نفسها ونواقصها. ومن هنا يقول حمية للفِراتْس: "لم نكن نبحث عن نتائج دقيقة أو فعالة، بل أردنا اكتشاف هذه المنطقة، منطقة الهلاوس، لأنها تشبه التجربة الأدبية الإنسانية بحد ذاتها. والتجريب هنا لا يعني التجربة التقنية فقط، بل اتّباع الهلوسة نفسها مساراً للخلق. بمعنى أن ترى أين تقودك، لا أن تصحّحها، تماماً كما يفعل الشعر أو السرد حين ينحرف عن الواقع ليصنع رؤيته الخاصة".
وعلى ما بدا عليه جهيمان من إضافة عربية واعدة في الذكاء الاصطناعي، إلا أن تجربة مجلة رحلة قد وصلت لنهاية الطريق. ويخبرنا حرمون حمية: "توقفنا عن تطوير جهيمان بعد انتشار تشات جي بي تي، لأن التجربة أدّت غرضها الاستكشافي كما أنها أصبحت تستخدم للتسليع. لكنها علمتنا الكثير عن العلاقة بين الإنسان والآلة، وعن فكرة أن تدريب الذكاء الاصطناعي فيما يشبه ما يقوم به الكاتب حين يجمع ويمنتج أفكاره قبل الكتابة".
في هذا السياق يشير حمية إلى أن السؤال الأهم لا يتعلق بأخلاقية الشراكة بين الآلة والإنسان، بل بموضوع "التجربة الإنسانية وكونها جزءاً مهماً للتعاطي مع أي منتج أدبي". ويضيف "لا تكمن الأهمية في صنعة العمل وحده، بل هو صادر عن من ولماذا وكيف وأين؟ هذا ما ينبغي أن نشدد عليه [. . .] ما الذي تعنيه التجربة بالنسبة لنا".
نهاية تجربة جهيمان لم تكن الخاتمة في علاقة النص الأدبي العربي مع تطبيقات الكتابة التي تعتمد على توليد الذكاء الاصطناعي. جاءت التجربة الأحدث من موقع "ديوان العرب".
أشار فريق الديوان في مدونته على صفحته بعنوان "إطلاق خدمة بيان أي آي: لغة تفهم الشعر" المنشورة في الثالث من أكتوبر سنة 2025، إلى أن الذكاء الاصطناعي لا يحلّ محل الإبداع البشري، بل يشكل أداة إلهام وابتكار تسهم في توسيع آفاق الشعر العربي. الهدف هو استخدام هذه التقنية جسراً بين التاريخ والابتكار، وتوظيفها في كتابة قصائد تحاكي تنوع التجربة الشعرية عبر العصور.
يصف الفريق القائم على التطوير النتائج بأنها "مدهشة"، إذ أنتجت الآلة نصوصاً رصينة غنية بالصور المجازية والأخيلة، وكأنها خرجت من قريحة شاعر مخضرم. ومن أمثلتها: "تراقصت الأشجار مع نسمات الفجر، وحكت الرياح أسرار الأرض للصخور الصامتة" في مثال آخر: "في زوايا القلب المظلم، تنمو ورود الأمل رغم الشتاء القارس". وفي موضع آخر يقول النص: "على نهر الذكريات، تعانق الأمواج أشرعة الأحلام الضائعة".
إلا أن الفريق يؤكد أن الإنسان يبقى هو "سيد النص والإبداع" ويدعو إلى ثلاثة مبادئ أساس: ضرورة سن قوانين للتمييز بين النص البشري والآلي لحفظ "أنساب النص المعاصر"، والإيمان بأن ملكية النص تعود للذكاء الاصطناعي والمنصة التي أنتجته، والنظر إلى الذكاء الاصطناعي منافساً يحفز الإبداع البشري لا بديلاً يلغيه.
حظيت هذه التجربة باهتمام أكاديمي رغم قصر عمرها. إذ خلصت دراسة لأستاذة الأدب والنقد في جامعة الملك فيصل أروى الملا نشرت في يونيو 2025، إلى أن نصوص "راقمون" تفتقر إلى "الأصالة الأدبية الخالصة" بسبب التدخل البشري. لكنها تضيف أن مستواها الفني "مقبول" ويشبه "قصائد شاعر ناشئ يجيد أحياناً ويخفق أحياناً أخرى".
راجعنا في الفِراتْس قصائد ندى، شاعرة الذكاء الاصطناعي من العصر الحديث. ولاحظنا أن شكل قصيدتها أقرب إلى قصيدة النثر، تعتمد على الجمل الحرة والصور التأملية. موضوعاتها تدور حول الهوية والاغتراب، والعلاقة بين الذات والعالم الرقمي. تقول مثلاً في إحدى قصائدها: "في الضوء البارد للشاشة، أعدّ أنفاسي مثل إشعارات مؤجلة". هذا النموذج، مع طرافته، يطرح سؤالاً عن استخدام التقنية نوعاً من التجريب التقني، لكن مضمونه قد يعيدنا إلى الخلف بسبب تبنّي أشكال كتابة تقليدية لإعادة إنتاج خطاب ظننا أننا تجاوزناه. فمع أن الوسيط حديث، إلا أن المحتوى قد لا يكون حداثياً.
يشبه ذلك ما شاب قضية الحداثة الشعرية العربية من جدل، لاسيما حول قصيدة النثر. فمثلاً يكتب الشاعر السوري أدونيس في عرضه بيان الحداثة في الشعر العربي المنشور ضمن كتابه "بيان لنهاية القرن" الصادر سنة 1995، أن رفض القصيدة الحديثة جاء لأنها لم تضارع حداثة الاقتصاد والسياسة والدين والإبداع. ما يجعلنا نتساءل أمام نموذج ندى والآخرين عن نوع القيم التي تكرسها الشخصيات الأدبية المولّدة اصطناعياً في العالم العربي، وعن دوافع أصحاب هذه المنصات التي تبرمج الوعي الجمالي للآلة.
وفيما يقدم كل من مجلة رحلة وديوان العرب نموذجاً مختلفاً ومساراً محتملاً للمستقبل، تنقل تجربتهما النقاشَ عن الذكاء الاصطناعي من الجدال النظري إلى حقل التجريب العملي.
تضيف أن الثقة لا تتعلق بنوايا الآلة بل بالقيم التي نبرمجها بها، وأن العلاقة المستقبلية بين الإنسان والآلة ستكون علاقة "تكامل واندماج"، إذ يبقى الإنسان صاحب النية والمخيلة بينما يصبح الذكاء الاصطناعي امتداداً لعقله وقدرته على الخلق.
وعند سؤالها عن الفرق بين العالم العربي وفرنسا في التعامل مع المسألة، ترى كايدومار أن الفرق في التفاعل مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي. إذ يغلب علينا في العالم العربي التشاؤم المحكوم بالخوف من فقدان الوظائف أو من استبدال الإبداع الإنساني، في الأدب مثلاً، والهوية والقيم الأخلاقية. أما في فرنسا فالتعامل مع الذكاء الاصطناعي عملي وواقعي، وينظر له جزءاً من التحول الاقتصادي والثقافي. وتبرر منال كايدومار ذلك الفرق بأننا (العرب) ما زلنا خارج مناطق صناعة هذه التقنية، مؤكدةً أن ما يحدث ليس غزواً من الآلة بل تطورٌ جديدٌ بالآلة.
ترى كايدومار أن الذكاء الوكيلي لن يلغي الأدب والإبداع، "لكنه سيوسع حدودنا [. . .] وهذا رائع. لكن الجانب الذي قد يكون مظلماً في هذه المسألة، هو اعتمادنا الكلي عليها، أن تنكمش قدرتنا على التفكير، إذ لا ندرب أذهاننا لاتكالنا على الآلة".
هذا الدور المتطور يجد صدى له في الأطر القانونية الناشئة في الغرب. ففي تقريره الصادر سنة 2025، أكد مكتب حقوق النشر الأمريكي أن "التأليف البشري" يظل شرطاً أساساً للحماية القانونية، وأن الأعمال التي ينتجها الذكاء الاصطناعي بالكامل لا تخضع لحقوق النشر. لكن التقرير يفتح الباب لحماية المساهمات البشرية الإبداعية، مثل اختيار المخرجات الآلية وترتيبها وتعديلها، وهو ما يمنح الدور الإشرافي للكاتب البشري أساساً قانونياً وليس فنياً فحسب. وهو بهذا يقنن الذكاء الاصطناعي أداةً تساعد الإبداع، كما قالت منال كايدومار، وليس استبدالاً للعنصر البشري نفسه.
وبالتوازي مع هذه التساؤلات، يظل هناك سؤال الانطباع والنظرة للنص المولد بالذكاء الاصطناعي. فمعرفة القارئ المسبقة بأن الكاتب "آلة" قد تغير تجربة القراءة، إذ لا تصير رحلة بحث عن اتصال وجداني مع المؤلف، بل مجرد فحص تقني لمدى دقة المحاكاة.
ولكن كيفما كانت النظرة، ربما توفر هذه التجارب بوصلة للمؤسسات الثقافية والكتاب العرب لقيادة هذا الحوار المهم. وتؤكد أن العالم العربي ليس مجرد متلقٍ لتأثيرات التقنية، بل هو مساهم قادر على تطويعها لخدمة رؤاه الثقافية والجمالية الخاصة.

