حين عاد مروان بعد سنوات من الغياب في زيارة قصيرة إلى المغرب، بدا لي شخصاً آخر، وفي ملامحه مزيج من الهدوء والنأي. كأنه ذلك الهدوء الذي يكتسبه المرء حين يبتعد بما يكفي عن ضجيج الوطن. جلستُ أتأمله وأنا أستعيد قصة رحيله التي بدت لنا حينها ضرباً من العبث. كيف لشاب ناجح ومستقر أن يختار طوعاً أن يبدأ من الصفر في بلاد بعيدة، بكل ما في ذلك من مجازفة ومخاطرة. قال لي مروان بهدوءٍ يشي بالنضج: "قراري لم يكن فراراً من وطن، بل بحثاً عن اتساعٍ داخل النفس، عن فسحة يمكن للإنسان أن يعيش فيها دون أن يشعر أنه محاصر ومراقب في حياته وأنفاسه، فقد كنت في حاجة للحرية والعيش بالطريقة التي أريد وكيفما أريد، وهذا يتيحه لي جواز السفر الأجنبي".
واليوم بعد كل هذه السنوات، وأنا أراه يحكي عن كندا ببرود من تعلّم كيف يُخفف من حرارة الحنين، بدأت أفهم أن الهجرة ليست دوماً قراراً اقتصادياً. فقد تكون صرخة داخلية ضد جمود واقع لا يمنح صاحبه معنى. ربما أراد مروان أن يعيش لا أكثر، أن يتنفس خارج الإيقاع الخانق الذي يسحق الطموح ويكافئ الصمت.
قصة مروان ليست استثناءً، إنّما هي مرآة لواقع أوسع يعيشه آلاف الشباب المغربي من الجنسين ممن قرروا الهجرة لكندا، ليس بدافع اقتصادي أو اجتماعي فحسب، بل بحثاً عن أفق أوسع للحرية ووفق شروط أدنى للعيش الكريم. شهد المغرب في العقد الأخير هجرة أعداد متزايدة من الشباب المغاربة ذوي الكفاءات العالية إلى كندا مع تمتع العديد منهم بأوضاع مادية واجتماعية مريحة في المغرب. هذا التحول، الذي لم يعد مرتبطاً فقط بعوامل اقتصادية، يثير أسئلة عن طبيعة الدوافع الجديدة التي تدفع جيلاً من المهنيين وذوي المهارات لمغادرة وطنهم وهم في أوج عطائهم. يبدو أن كندا لم تعد لهؤلاء مجرد وجهة للبحث عن دخلٍ أفضل، بل صارت رمزاً للحرية الفردية والتعبير عن الرأي، وإمكانية بناء الذات في فضاء يحتضن الاختلاف بدل أن يخنقه أو يؤطره في قالب واحد.
من هذا المنطلق تقول شيماء رضواني، الباحثة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، في بحثِها "دريمز أوف أن إلسوير أور أسبايرينغ تو ستاي؟" (أحلام بمكان آخر أم الطموح للبقاء؟)" المنشور سنة 2024، إنّه ليس غريباً اليوم أن ينشأ الشباب المغربي وهم يحملون في داخلهم رغبة دفينة في الهجرة. فهم يتخيّلون أن الرحيل إلى مكان آخر يوفّر لهم الأمان الاجتماعي وفرص النجاح والإحساس بالحرية. بهذا أصبحت مغادرة البلاد تُرى، في المخيال الجمعي للشباب، رمزاً للإنجاز وتحقيق الذات. فالشباب اليوم لا يغادرون بلادهم بحثاً عن فرصٍ اقتصادية أو تعليمية وحسب، إنّما هرباً من شعورٍ متراكم بالاختناق داخل منظومة اجتماعية تقيّد الطموح وتهمّش الإبداع.
ويذهب محمد الحاجي الدريسي، الأستاذ بجامعة القاضي عياض بمراكش، في مقاله "السياسات الاجتماعية بالمغرب والتوجهات الهجرانية للشباب المتعلمة" المنشور سنة 2022، إلى القول إنّ الرغبة في الهجرة طالت الكثير من الشباب المغربي بمختلف الخلفيات المهنية والأكاديمية. ويرجع ذلك إلى السياسات الاجتماعية التي فشلت في بناء استقرار اجتماعي لهم، قائلاً "يسعى الذين لم يغادروا للوصول للضفة الأخرى عبر التعبير، على الأقل، عن رغبتهم في الهجرة".
لذا قد لا يكون كافياً تفسير الظاهرة أنها انعكاسٌ لعوامل اقتصادية فحسب، بل التعامل معها إنذاراً يطالب بإصلاحات متكاملة. تُعنى بالعدالة والاستثمار في رأس المال البشري، وإصلاح آليات التمثيل والتمكين الاجتماعي التي تبني شعور الانتماء والقدرة على الإبداع داخل الوطن. عبّرت عن هذا التحول شيماء رضواني، فعدّت الهجرةَ تجسيداً لمفارقة بين الرغبة في الرحيل والحاجة إلى الانتماء. ويعزّز هذا المعطى دراسة استطلاعية لمنصة البارومتر العربي سنة 2024 بعنوان "الرأي العام تجاه الهجرة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، والتي كشفت أن 55 بالمئة من الشباب المغاربة الذين تتراوح أعمارهم بين ثماني عشرة وتسعٍ وعشرين سنة يعبّرون صراحة عن رغبتهم في الهجرة. وهي نسبة قد توحي بعمق الأزمة النفسية والاجتماعية التي يعيشها جيلٌ جديد لم يعد يرى مستقبله داخل حدود الوطن.
تعزَّزَ هذا المنحى منذ ثورات الربيع العربي سنة 2011، الذي شكلت إرهاصاته نقطة تحوّل في وعي هؤلاء الشباب، إذ كشفت الاختلالات البنيوية في النظام القائم وأفصحت عن هوّة واسعة بين طموحاتهم وقدرة الدولة على تحقيقها. ووجد كثيرون أنفسَهم أمام خيار الرحيل، بحثاً عن فضاء يعترف بإنسانيتهم ويصون كرامتهم، وبدت كندا مكاناً مناسباً لتحقيق ذلك. يحكي هشام شارم، أحد النشطاء البارزين على وسائل التواصل، ممن قرروا الهجرة لكندا في إحدى تدويناته سنة 2024 على صفحته بموقع فيسبوك عن أسباب اتخاذ قرار الهجرة. يقول هشام إن الإحساس بالحاجة إلى الانعتاق حاضر بقوة، وكندا فرصة العمر لبدء حياة جديدة بعيداً عن مجتمع يحارب الشباب من كل الجهات.
هذا ما تشير له ستيفاني غارنو، الباحثة بكلية الخدمة الاجتماعية بجامعة أوتاوا الكندية، في مقال بعنوان "ميجغي بوغ غييوسيغ؟ دو جون ماغوكان أو كيبيبك" (الهجرة من أجل النجاح؟ الشباب المغاربة في كيبك) المنشور سنة 2022. تقول إنّ دوافع الشباب المغربي المهاجر إلى مقاطعة كيبك الكندية "تنبع أساساً من تطلعاتٍ للترقي أو إعادة إنتاج المكانة الاجتماعية، وهي تطلعات لا تُختصر في مسألة العمل أو الدخل".
يتقارب ذلك مع طرح عبد الهادي أعراب، الأستاذ بكلية الآداب بالجديدة، في مقاله "الذهنية الثقافية الهجروية بالمغرب" الصادر سنة 2016. يقول أعراب إنّ "العامل الاقتصادي المباشر الذي كان سبباً رئيساً في هجرة المغاربة منذ الثمانينيات، لم يعد عاملاً دقيقاً [...] فالعامل الثقافي صار محدداً كذلك". فالتأثر الثقافي العميق بالأنماط الغربية في العيش والتفكير والانبهار بنماذج المجتمع الفردي المنفتح، يبدو أنه خلق لدى الكثير من الشباب ما يمكن وصفه بخيال الهجرة. وهو خيال جمعي تتقاطع فيه صور النجاح والحرية والاعتراف الاجتماعي مع فكرة الخروج من حدود الوطن.
يفرض هذا التحول قراءة نقدية للواقع المغربي نفسه. يرى الدريسي أن الربيع العربي أفرزَ واقعاً جديداً تداخلت فيه نتائج السياسات الاقتصادية السابقة مع إحكام الدولة قبضتَها على الاقتصاد الوطني. أنتج هذا احتقاناً سياسياً واجتماعياً عميقاً لا تزال تداعياته الاقتصادية قائمة. ويعتقد الدريسي أن انتقال العمل في المغرب من التوظيف الدائم إلى التوظيف بالتعاقد وارتفاع الضرائب وصعوبات الحياة الاجتماعية والاقتصادية زادت من التوتر الاجتماعي الذي دفع عدداً متزايداً من الشباب إلى خوض مغامرة الهجرة غير النظامية في رحلة محفوفة بالمخاطر نحو مكان أكثر عدلاً وإنسانية. وهذا ما اعتبرته شيماء رضواني وسيلةً لتخفيف ضغوطِ الحياة اليومية ومساراً بديلاً "لمواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن النظام الرأسمالي، بحثاً عن مستقبل أكثر إشراقاً في مكان آخر".
إن التحولات السياسية والاجتماعية التي عاشها المغرب منذ 2011 لم تترجم إلى تغيّرات اقتصادية واجتماعية قادرة على ملامسة آمال فئات الشباب للمستقبل وتعزز انتماءهم. فبحسب المندوبية السامية للتخطيط، وهي مؤسسة حكومية، ارتفع معدل البطالة الوطني إلى 13.3 بالمئة سنة 2024، أي ما يعادل أكثر من مليون وستمئة ألف عاطل عن العمل. بينما كان المعدل سنة 2011 في حدود 9.1 بالمئة. أما بين الفئة العمرية من خمس عشرة إلى أربع وعشرين سنة، فقد بلغت البطالة 36.7 بالمئة سنة 2024، مقابل 18 بالمئة سنة 2011. ما يعني أنّ أكثر من ثلث الشباب لا يجدون عملاً، حتى بين حاملي الشهادات العليا الذين تتراوح معدلات البطالة في صفوفهم بين 19 و 24 بالمئة.
تراجعت أيضاً الثقة في المؤسسات العامة والسياسية. كشف تقرير المرصد الوطني للتنمية البشرية لسنة 2021 عن "التنمية البشرية وواقع حال الشباب بالمغرب" أن ما بين 70 و78 بالمئة من الشباب لا يثقون في الحكومة أو البرلمان أو الأحزاب السياسية. أظهرت دراسة لمحمد شريمي ومحمد بن عيسى، أستاذا علم الاجتماع بجامعة عبدالمالك السعدي بتطوان، بعنوان "يوث بوليتكل ترست آز آ داريفز [...] " (الثقة السياسية لدى الشباب دافعاً [...]) نشرت سنة 2025، أن فقط 16 بالمئة من الشباب يثقون في الحكومة و21 بالمئة في البرلمان و15 بالمئة في الأحزاب السياسية. هذا مقابل نحو 41 بالمئة فقط يبدون ثقة محدودة في المجالس المحلية والإقليمية التي يتفاعلون معها يومياً.
هذا الانسداد العام بعد الربيع العربي، وليس البعد الاقتصادي فحسب كما درجت العادة غالباً مع الأجيال السابقة، كان دافعاً للهجرة إلى كندا. هذا ما تراه مريم أبو زايد، الباحثة بجامعة غرونوبل بفرنسا، وهدى عسال، الباحثة بمركز موريس هالبواش بفرنسا، في مقالهما "لي ماغوكان أو كندا: هيستواغ، بروفيل إي أونجوه" (المغاربة في كندا: التاريخ، الملامح، والتحديات) المنشور سنة 2013. تقول الباحثتان إنّه في التسعينيات استهدفت السياسة الطوعية في مقاطعة كيبيك الكندية الطبقات الوسطى والعليا، التي لم تكن تعتبر الهجرة وسيلة للهروب الاقتصادي، بل خياراً للارتقاء الاجتماعي والانفتاح الثقافي. لكن في السنوات الأخيرة تغيّر هذا المنحى. تقول الباحثتان: "أصبحت الهجرة تعبيراً عن مرارة وخيبة أمل وإحساس بالتخلي".
من هذه الزاوية فهجرة الجيل الجديد لكندا يمكن النظر إليها طاقة احتجاج، نتيجة ما وصفه "التقرير السنوي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لسنة 2024" الصادر سنة 2025، بالإحباط الذي يدفعهم إلى العزوف عن الشأن العام ويجعلهم عرضة لخطاب التطرف والعدمية.
يتكشف هنا خلل بين الطموح والواقع، بين القيم التي نشأوا عليها وقيم العالم الرقمي المعولم الذي باتوا منفتحين عليه ومنه تعرفوا على أنماط حياة أخرى بدت أكثر ازدهاراً وانفتاحاً. بهذا الانفتاح تعزز الإحساس بالفرص الضائعة في الوطن، ومعه نما شعور الكثير منهم بالغربة فشجعهم على التفكير بالرحيل.
التقيتُ بالشابة زينب قاسمي (اسم مستعار)، وهي مغربية تعمل في منظمة أوروبية بالرباط. أخبرتني أنّها تعمل في وظيفة بدخل محترم ومستقر، لكنها قررت الشروع في إجراءات الهجرة لكندا. تقول: "السبب الجوهري لقراري بالهجرة هو الرغبة الصادقة في أن أعيش طاقتي كاملة داخل منظومة تحترم الإنسان وتحكمها قوانين واضحة. لا أهاجر هروباً من وطني ولا تنكّراً له، بل رفضاً لأن تتحول الحياة إلى حالة دفاع مستمرة عن أبسط الحقوق. لقد علّمتني أسفاري إلى أكثر من اثنتين وعشرين دولة أن التغيير لا يخيفني، وأن الانتقال يمكن أن يكون أحياناً الطريق الأصدق لتحويل الجهد من ردّ الفعل إلى الإنجاز".
تجربة زينب تعبير عن القلق الوجودي لدى فئة واسعة من الشباب المغربي، ليس فقط بفعل العوامل الاقتصادية والسياسية، بل أيضاً بسبب التوتر الثقافي والاجتماعي الذي يعيشونه محشورين بين منظومة قيم تقليدية ومنظومة القيم الحديثة التي يفرضها العالم الرقمي والعولمة الثقافية.
ينوه لهذا مصطفى الميري، الأستاذ في علم الاجتماع بجامعة إيكس بمارسيليا، في ندوة "الهجرة الدولية للشباب، طريق شاق نحو التحرر" سنة 2022. يقول: "سياق تقاطعات العولمة المعاصرة والتقسيمات الجيوسياسية، سواء كانت قديمة أو استعمارية، أفرز خطوطاً جديدة للانقسامات بين المخول لهم الهجرة والممنوع عليهم ذلك". بفعل المدرسة والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، فالشباب ينخرطون في ثقافة فرنسية أو إسبانية أو أمريكية قبل اتخاذ قرار الرحيل. بهذا ينتمون رمزياً إلى ثقافة الآخر قبل أن يعبروا الحدود المادية نحوه، ويصبح قرار الرحيل امتداداً لمسار اندماج ثقافي طويل بدأ قبل الهجرة ذاتها.
وبهذا يمكن تفسير رغبة زينب بالهجرة في البحثِ عن بيئة عادلة تتيح للمرأة العمل والتطور بثقة. فهي تشعر أنّ بيئة العمل في المغرب تقاس بالانتماء لا بالكفاءة والجدارة. هنا يصبح قرارها احتجاجاً هادئاً واختياراً لمسار يصون كرامتها وإنسانيتها ويمنح جهدَها معنىً. فقد قالت لي إنّها تحتاج إلى "أمان نفسي ومؤسسات مستقرة"، وهذا ما جعلَ الهجرة عندها استمراراً طبيعياً في بحثها عن حياة منسجمة مع قيمها وقناعاتها.
ويذهب في نفس منحى هذه الفكرة محمد طه عبد الستار، الباحث في معهد الدراسات الاستراتيجية والتدريب بالقاهرة، في مقال بعنوان "هجرة الشباب العربي بين مطرقة الواقع وسندان الطموح"، نشِر سنة 2025. يرى عبد الستار أنّ الهجرة في العالم العربي أصبحت ظاهرة بنيوية متجذّرة أكثر منها حركة ظرفية عابرة. فلم تعد تُختزل في بعدها المكاني أو الاقتصادي فحسب، بل غدت تعبيراً عن أزمة وجودية تعيشها فئات واسعة من الشباب. ومع تفاقم الأوضاع الاقتصادية وتراجع منظومات التعليم والصحة، وتآكل فرص النمو والعدالة الاجتماعية، تحوّلت المجتمعات إلى فضاءات طاردة لرأس المال البشري. وفي ظل هذا الانسداد باتت الهجرة شكلاً من أشكال الاحتجاج الصامت ووسيلة رمزية للانفصال عن واقع لم يعد يعبّر عن تطلعات الأجيال الجديدة.
يرى عبد العزيز أجدي، الباحث بجامعة ظهر المهراز بفاس، في مقاله "الثقافة والتحولات القيمية"، ضمن الكتاب الجماعي "ديناميات وتحولات المجتمع المغربي" الصادر سنة 2020، أنّ المجتمع المغربي اليوم يعيش على إيقاع تحوّلات عميقة أعادت رسم ملامح العلاقة بين الفرد وواقعه. فالعولمة، بما حملته من انفتاح رقمي وثقافي غير مسبوق على الآخر، لم تُدخل أنماطاً جديدة من التواصل والاستهلاك وحسب، بل زرعت أيضاً في النفس المغربية إحساساً متزايداً بالاغتراب والبحث عن معنى.
يضيف أجدي أن المغربي المعاصر بات ممزقاً بين عالمين، أحدهما واقعي يضجّ بتحولات اقتصادية واجتماعية سريعة، وآخر افتراضي يغريه بصور مثالية للحياة ويعيد تشكيل طموحاته وتصوراته. ويوضح أن التسارع الهائل في التطورات العلمية والتقنية زلزلَ البنى الاجتماعية والثقافية، وولّد شعوراً عاماً بعدم الاستقرار، بعدما باتت القيم والمعايير التقليدية تفقد تدريجياً قدرتها على تأطير الإنسان وسط عالم يركض بلا توقف.
غير أن وراء مشاعر الاغتراب ودوافع الهجرة سؤال أكبر عن سبب استحواذ كندا على أماني آلاف المغاربة، خاصة مع تنوع مسالك الهجرة الأخرى.
بالمجمل، تُعلل دوافع الهجرة بالبحث عن فرص عمل أفضل أو مستقبل مضمون للأبناء أو نظام صحي متطور أو عدالة اجتماعية. لكن يضاف لذلك تمييز كندا نفسها بسياسات تشجّع على الاندماج دون المساس بالهوية الثقافية. إذ تعد من دول العالم الأكثر تنوعاً ثقافياً. ومع أن الهجرة لا تمثّل دائماً ضماناً للنجاح الاجتماعي أو الاقتصادي، إلا أنّها تبقى للكثيرين طريقاً لاستعادة الأمل وبناء الذات في مجتمع أكثر عدلاً واستقراراً، مع الإبقاء على الهوية بالانتماء المزدوج بين الوطن الأم وكندا.
يؤكد المهدي في تواصلي معه هذا الطرح. يقطن المهدي حالياً بمدينة مونكتون، في مقاطعة نيوبرونزويك، وقد اختار الهجرة إلى كندا بعد سنوات من عمله أستاذاً في التعليم الثانوي بالمغرب. برر المهدي هجرته بتراكم "الإحباطات المهنية والاجتماعية والشعور العميق بأن الجهد الشخصي لم يعد كافياً لتحقيق حياة كريمة ومستقرة". فالمهدي الذي عُرِفَ في وسطِه الاجتماعي بنشاطه في منظمات المجتمع المدني، آلمه معاناة تلاميذه ممن لا يجد الكثير منهم حتى وجبة فطور صباحية. ولَّد هذا لديه فكرة الهجرة، واختار كندا لأنه رآها توفر بيئة تعترف بالكفاءة وتعطي الأمل للأبناء، فهي في رأيه "بلد تمنح الفرص دون وساطة أو محسوبية".
حسب ستيفاني غارنو في مقالها آنف الذكر، فإن 25 بالمئة من المهاجرين المغاربة لكندا تراوحت أعمارهم بين خمسة عشر وأربعة وثلاثين عاماً. ما يجعل كندا تبدو وجهة جاذبة للطلبة والعمال والشباب المغاربة. ويرى محمد الدريسي في كتابه "هجرة النخبة المغربية للخارج: الواقع والآفاق" الصادر سنة 2024، أن "الهجرة المغربية إلى كندا تعتبر بالأساس هجرة كفاءات [...]". فالمهاجرون المغاربة في الثمانينيات كانوا على مستوى تعليمي عالٍ، إذ "تجاوز معدل السنوات الدراسية ثلاث عشرة سنة للفرد الواحد في كندا. وهذا ما جعل الجالية المغربية بهذا البلد جالية كفاءات بامتياز". هذا التوصيف يبدو اليوم أدقّ من أي وقت مضى. إذ تتسع دائرة هذه الكفاءات وتتنوّع تخصصاتها من الهندسة إلى الطب، ومن البحث العلمي إلى ريادة الأعمال.
هذا ما جعل الدريسي يضيف في موضع آخر من كتابه عن عوامل اختيار كندا، بقولِه إنّ وجهة الهجرة المغاربية عموماً، والمغربية على وجه الخصوص، ارتبطت تاريخياً بالفضاء الأوروبي التقليدي وتحديداً بفرنسا وألمانيا وهولندا. لكن الخريطة اليوم تعرف تحوّلاً لافتاً نحو مراكز استقطاب جديدة تتمثل في إسبانيا وإيطاليا وأمريكا الشمالية. هذا التحول يعكس بحث المهاجر المغاربي عن آفاق أكثر استقراراً وأوفر فرصاً بعد أن أصبحت الوجهات الأوروبية التقليدية مثقلة بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية وتضييق سياسات الاستقبال. في حين تظل كندا استثناءً بارزاً بسياساتها المنفتحة، ما يجعلها مقصداً مفضّلاً للهجرة المنظمة والطموحة.
ما يبدو استثناءً كندياً يرتبط كذلك بعمق السياسات الكندية في مجال الهجرة التي لم تتعامل مع الوافدين مصدراً للعمالة الرخيصة، بل قيمةً مضافة تُغني المجتمع الكندي علمياً وثقافياً. وبحسبِ خطة الهجرة الحكومية الكندية الجديدة للسنوات من 2025 إلى 2027، سيكون معظم الوافدين الجدد من الطلاب والعمال المهرة.
وقد كتب الصحفي سفيان خبّاشي مقالةً في مجلة "جون أفريك" في يونيو 2023، بعنوان "بوغكوا لو كندا سيدوي طان لي زيتيديون ماغوكان" (لماذا يجذب كندا هذا العدد الكبير من الطلاب المغاربة؟)، مفسراً البعد الاجتماعي للهجرة. أبرز خبّاشي كيف أن الجاذبية التي تمثلها كندا ليست مقتصرة على الفئات الباحثة عن فرص اقتصادية محدودة، بل تمتد لتشمل أفراداً من خلفيات اجتماعية واقتصادية متنوعة، بما في ذلك من يعيشون حياة ميسورة في وطنهم.
ما يجذب المهاجرين المغاربة أيضاً صورة كندا دولةً مضيافة ومستقرة ومزدهرة، وتقدم فرصاً لتطور الفرد مهنياً وتعليمياً واجتماعياً، وتوفر بيئة معيشية تدعم حرية الاختيار والابتكار الشخصي. وهي الفكرة التي أكدتها لي الشابة إيمان التي اختارت هي الأخرى خوض تجربة الهجرة إلى كندا.
وإن كانت إيمان لا تنفي وجود عامل اقتصادي في قرارها والرغبة في تحسين مستواها المادي، إلا أنها تؤكد على إحباطها الكبير من واقعها في المغرب الذي لم يكن معبراً عن ما كانت تتمناه. فقد تخرجت من جامعة الأخوين الخاصة والمرموقة بمدينة إفران، وكان من المفترض أن تكون حياتها وأمورها أحسن بكثير مما هي عليه. وعلى شهادتها الجامعية فهي مجبرة على العمل في مناصب بعيدة عن تخصصها الأصلي في إدارة الأعمال، ذلك أن البيئة الوظيفية لا تساعد ولا توفر اختيارات.
لكن اختيار إيمان لنمطِ حياة بعيد عن عادات المجتمع المحافظة جعلها تعيش توتراً دائماً وشعوراً مستمراً بعدم الأمان، فكان اختيارها الهجرة لكندا مع تحفظ عائلتها الشديد، هو الخلاص حسب تعبيرها. فقد تحملت مسؤوليتها في القرار بحثاً عن التقدير والفرص والأمان.
بطرح إيمان يبرز أيضاً المنظور القيمي تعليلاً للهجرة لكندا. فهي مساحة تدمج بين ما قد يكون تصادماً وتشتتاً في البلد الأصلي، الصراع بين القيم التقليدية والانتماء المجتمعي، وقيم الحداثة التي تعتمد الحرية الفردية وتحقيق الذات. وهو ما يفسر انجذاب أوسع فئات المجتمع، بما فيها من يعيشون في رفاهية نسبية، نحو تجربة حياة يعتقدون أنها توفر لهم احتواءً اجتماعياً متقدماً، ويأتي مع هذا من فرص للتنمية الشخصية لا تتاح لهم في المغرب.
يعزو عبد العالي قايدي، الباحث في علم الاجتماع بجامعة ظهر المهراز بفاس، هذا الطرح في مقاله "الهجرة ودورها في التلاقح الثقافي بين المجتمعات" الصادر سنة 2024، إلى سياسة الهجرة الكندية نفسها. يرى قايدي أن السياسة الكندية تجاه المهاجرين ترتكز على تشجيع استراتيجية اندماج شاملة، تراعي التنوع الثقافي بدل محاولة فرض نموذج موحد. ففي كندا يُنظر إلى التعددية الثقافية ليس فقط حقاً للمجتمعات المختلفة في الحفاظ على هويتها، بل مصدراً للغنى والاعتزاز بالهوية الوطنية الجامعة. وهو ما يميز النموذج الكندي عن النموذج الفرنسي الذي يميل إلى انصهار جميع الفئات الثقافية في إطار واحد موحد، ما يحد من إبراز التنوع الثقافي ويقلل من ثراء الهوية الجماعية. هذا الفارق في فلسفة الاندماج هو ما يجعل كندا أكثر انسجاماً مع تطلعات الجيل المغربي الجديد الذي يبدو أنه يرفض الذوبان الثقافي التام، ويفضّل أن يُدمج دون أن يُمحى، وأن يعيش تعدديته قيمةً لا تناقضاً.
وتعليقاً عن تغير وجهة الهجرة التقليدية، حسب المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بالمغرب بعنوان "نحو تمتين الرابط الجيلي مع مغاربة العالم [...]" الصادر سنة 2022، فالكفاءات المغربية ذات التعليم العالي أضحت تتجه نحو كندا والولايات المتحدة الأمريكية أكثر من إقبالها على الوجهات التقليدية للهجرة مثل فرنسا. ويؤكد المجلس أن 76 بالمئة من المغاربة المقيمين في أمريكا الشمالية يحملون شهادات عليا، مقابل 48 بالمئة من المهاجرين الذين يقصدون الوجهات الأوروبية التقليدية و 10.9 بالمئة لوجهات الهجرة الأوروبية الجديدة مثل إيطاليا.
وأشارت دراسة للمندوبية السامية للتخطيط بعنوان "البحث الوطني حول الهجرة الدولية" صدرت سنة 2021، إلى أن ثلاثة أرباع المهاجرين المغاربة الحاصلين على شهادة عليا تلقوا تكوينهم وحازوا شهاداتهم في المغرب. وتعد كندا الوجهة الثانية لهم بنسبة 2.4 بالمئة، بعد فرنسا التي تتقدم بنسبة 14.9 بالمئة ويربطها بالمغرب تاريخ طويل من الهجرة. ولكن فرنسا تأتي ثانياً بعد كندا في قائمة الدول التي ينوي الجيل الجديد من المهاجرين المغاربة التوجه إليها بنسبة 19.1 بالمئة، مقابل 20.1 بالمئة لكندا.
برزت ملامح هذا التحول جليةً في تقرير للصحفيين حسام حاتم وعمر قباج لمجلة "تيلكيل" المغربية، بعنوان " واي ماروكن أر أتراكتيد تو ذي كنديان دريم" (لماذا ينجذب المغاربة إلى الحلم الكندي) ونشِرَ في نوفمبر 2024. يذكر الصحفيان أنّ فئات واسعة من المهاجرين الحاليين لكندا هم من الميسورين من المحامين والأطباء والمدراء التنفيذيين، منهم من وصل دخله في المغرب إلى خمسين ألفاً وستين ألف درهم شهرياً (حوالي 5 آلاف دولار).
ويقول يوسف الشدادي، مدير "نيولايف" وكالة الاستشارات حول الهجرة لكندا للصحفيين، إنّ شعور هذه الفئات هو القلق بشأن مستقبلهم ومستقبل أطفالهم، في ظل انعدام الأمن وتردي الخدمات الصحية والتعليمية، والشعور العام بعدم الارتياح داخل المغرب.
هذه الحقائق والأرقام لا تعبّر فقط عن تفضيل جغرافي، بل ربما عن انتقال رمزي في وعي جيلٍ جديد يرى في كندا وعداً بمواطنة ممكنة تقابل طموحاته. وقد تكون الهجرة شكلاً من أشكال الدفاع النفسي ضد الإحباط الجمعي، ومحاولة لإعادة امتلاك الأمل في مكان آخر. وهو ما أوعزه رشيد أوراز، الباحث الاقتصادي في المعهد المغربي لتحليل السياسات بالرباط، في حديث مع موقع "مهاجر نيوز" في تقريره "هكذا يخسر المغرب طاقاته البشرية لتستفيد منها دول أخرى" المنشور سنة 2019، إلى فشل الدولة في الإصلاح السياسي والاقتصادي. ما جعل الكفاءات المغربية تبحث عن بيئة مستقرة مستثمرة وواعدة بمستقبل أفضل.
مما جذب المغاربة لكندا أيضاً التعليم. يتحدث محمد المرابط الأستاذ بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، في دراسته "ذا أمباكت أوف براين دراين أون ديفلوبمونت: آ كيس ستادي أوف مروكو" (تأثير هجرة الأدمغة على التنمية: دراسة حالة المغرب) المنشورة سنة 2022، عن تنوع ملامح الطلاب المغاربة المتجهين إلى كندا بين مجالات العلوم والاقتصاد والإدارة. ويقول إنّ أسر الطبقة المتوسطة المستقرة تختار كندا أساساً لجودة التعليم في المدارس العمومية. ويعد التعليم العالي بعد البكالوريوس في البلدِ ضمن أفضل الدول في العالم. يصل الطلاب في كندا إلى قروض طلابية ميسّرة أو برامج تخفيض الرسوم الدراسية، بالإضافة إلى قائمة طويلة من فرص المنح الدراسية حتى للمستجدِّين.
علاوة على ذلك، يختار المهاجرون كندا بسبب نظام الرعاية الصحية الشامل والمجاني. على عكس العديد من أنظمة الرعاية الصحية الخاصة في دول أخرى، يمكن لأي شخص في كندا زيارة أي مستشفى أو طبيب دون أي تكلفة، بغضِّ النظر عن وضعه الاجتماعي.
هنا أصبح الحلم الكندي في المخيال المغربي الجديد رمزاً لنسخة أخرى من الحياة. إذ يمكن للعقل أن يفكر بحرية، والكفاءة أن تجد موطئ قدم، والكرامة أن تكون أساس الوجود. وبينما كان الجيل الأول من المهاجرين يغادر جسدياً ويترك قلبه في الوطن، يغادر الجيل الحالي بعقله وقيمه، ليبحث عن وطنٍ يحتضن طموحه ويعترف بإنسانيته.

