التيرويسا.. حين يصبح الغناء الأمازيغي منبراً للإرشاد الديني

يستمد فن تيرّويسا في المغرب شرعيته الدينية من اتصال الشعراء ببركةِ الأولياء وأخذهم موهبة الشعر منهم.

Share
التيرويسا.. حين يصبح الغناء الأمازيغي منبراً للإرشاد الديني
تجاوز حضور فن الروايس فضاءاته الفنية التقليدية | تصميم خاص بالفراتس

انتشر مساء الإثنين 16 يوليو 2025 خبر وفاة الرايس صالح الباشا، أحد أهم أصوات فن تيرّويسا الأمازيغي في العقدين الأخيرين. خلَّف ذلك موجة حزن شديدة عند محبيه وجمهور هذا الفنّ عموماً. 

لا تختلف مسيرة حياةِ صالح الباشا الفنيّة عن حياة معاصريه أو من سبقوه من الروايس (رؤساء)، أي الشعراء والفنانين الأمازيغ التقليديين. فهو درسَ في المسجد وقاد فرقته الخاصة، وكانت أشعاره تبدأ بمقدمةٍ دينيةٍ يذكرُ فيها الله والأولياء الصالحين، ويطلبُ التوفيق في مقصدِه الشعري. ويفتتح شعره بمقدمة دينية تتصل بسياقٍ ثقافيٍ ممتدٍ في الثقافة الأمازيغية جنوب المغرب، يقرن الممارسة الشعرية ببركة الأولياء. فالفرد لا يرقى إلى مقام الشاعر المغني أو الرايس إلا بهبة تأتيه من وليٍّ صالح.

أدى صالح الباشا وغيره من الروايس على مدار عقود وظائف دينيةً في المجتمع الأمازيغي بجنوب المغرب حيث ينتشر هذا الفن. إذ كانوا حلقة وصلٍ بين الخطاب الديني المؤَسَّس على سلطة النص المقدس وبين عامة الناس، فظلَّ الرايس معلِّماً وموجِّهاً وناصحاً وفناناً يؤدي وظائف تتصل بالفرجة والمتعة والاحتفال. وحتى الفنانات لم يختلفنَ كثيراً عن الرجال، إذ حضر الدين دوماً حتى في هُويتهنّ الفنية. هكذا أسست تجربة الروايس لتجانسٍ غنيٍّ بين الفن والدين، وخلقت تصوراً لدى الناس لا يرى تعارضاً بينهما. إذ يُنظر إلى أعمال الروايس وسيلةً لتكوين معرفةٍ دينية للبدو الأمازيغ، وتيسير سبل أدائهم فرائضهم وتحسين سلوكهم الديني. 


فن تيرويسا ظاهرةٌ قديمةٌ في الثقافة الأمازيغية، يعبِّر عن روح أصيلة تربط ما بين الفن والتنشئة الدينية. ويجد في تلك التنشئة نبعاً متجدداً للإبداع شعراً وغناءً. ولا نكاد نجد تأريخاً فعلياً لبداية تلك الظاهرة الفنية.

ينقل محمد أفقير الأستاذ بجامعة بن زهر بأكادير تعريفاً وضعه الباحث عمر أمرير للرايس، وهو الفنان الذي يقدم فن التيرويسا. فالرايس حسبما ورد بدراسة "الشعر الأمازيغي التقليدي بسوس" المنشورة سنة 2013، "شاعر يحمل آلته ويترأس فرقة غنائية، ويقيم السهرات [. . .] ولا شغل له إلا ذلك في أغلب الحالات، مما يكسبه الشهرة وذيوع الصيت". ويعرِّف الباحث عبد الله بونفور في كتابه "إنترودوكسيون آ لا ليتغاتوغ بيغبيغ" (مدخل إلى الأدب الأمازيغي) المنشور سنة 1999، كلمة "رايس" بأنّها مصطلح مقترض من العربية "ويدل على رئيس فرقة من الموسيقيين الذين يغنون أعمالاً لهم أو من التراث الشفهي". وبهذا يرتبط مصطلح الرايس بالقيادة، فهو يطلق على الشاعر المُغنّي الذي يقود مجموعة تضم عازفين وفرقة وراقصين يؤدون أغاني هي في أصلها أشعار من تأليف الرايس نفسه أو شخص لا يَكْشِفُ عن هُويِّتِه. وتتميز هذه المجموعة بتنقلها عبر الأمكنة والفضاءات الفنية، تؤدي أعمالها وتكسب من ذلك مالاً.

ظل الروايس وسيلةً إعلاميةً في البادية الأمازيغية بحكم تجوّلِهم، فيلتقون بناسٍ من مناطق مختلفة ويتناقلون الأخبار والمواقف. لذلك تجد في أعمالهم ذكراً للأمكنة وما يميزها عن غيرها، وذكراً لأخبار كبار الشخصيات وأعيان المناطق، كما ورد في قصيدة "تالِيوِينْ" للرايس الحاج بلعيد التي يقول فيها: "ءَاكِّيغْ تَالِيوِينْ نزر لَبْنِيَانْسْنْ، نزر شْرَاجْمْ وَالِا جْلِيجْ ءِيلَاتْنْ"، ومعنى ذلك: زرت منطقة تاليوين جهة سوس، ورأيتُ أبنيتها ذات النوافذ والزليج. التجوال ميزةٌ أساسيةٌ في تجربة الرايس، فهو لا يستقر في مكان واحد، إنّما يتحتم عليه أن يتنقل بين الفضاءات الفنية لأنه يمتهن فناً يدرُّ عليها مالاً، ولأنه يؤدي وظائف ثقافيةً واجتماعيةً مهمةً في الأوساط القروية.

من تلك الأدوار ظل اهتمام الروايس بالجانب الديني أمراً بارزاً في تجاربهم. يرجع هذا إلى البنية الثقافية التي منحتهم هذه السلطة، واعترفت لهم بالشرعية الدينية فضلاً عن الشرعيتين الفنية والشعرية. ويرجع ذلك أيضاً إلى ما ترسخ في الثقافة الشعبية من كون الروايس حظوا ببركة الأولياء ونالوا منهم هبة الشعر. فليسَ غريباً أن يبدأوا قصائدهم بشكرِ شيوخهم وأوليائهم كما يقول الشاعر الرايس أجحود محمد الدمسيري المتوفى سنة 1989، في إحدى قصائِده:

أشّيخ أوالّيف نزور فلّاك أياوال

أوَلّيف زوزّرْغْ ءيدامْنْ إينّا غاكْ غْريغْ

أَفْلّا تّگّام لْعيزْ أَوْرْ إيناسا واوالْ

يعرِّب محمد مستاوي، الشاعر والكاتب المغربي هذه الأبيات، بأنّ الدمسيري "نادى على شيخه، وأسال دم الذبيحة على باب ضريحه ليجعله عزيزاً. ملتمساً منه أن يجعل الكلام المنظوم طوع لسانه كلما نادى عليه". ويورد أحمد المنادي، الباحث في المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، في كتابه "الإلهام والتلقي في الشعر الأمازيغي" المنشور سنة 2012، مخطوطاً جمعه المُسْتَمْزِغ (الباحث المهتم بالثقافة الأمازيغية) الفرنسي أرسين رو، الذي حلّ بالمغرب جندياً سنة 1913. يحمل المخطوط اسم "لْحَالْتْ نْ ئِنْضّامْنْ نْ زِيكْ" (حالة الشعراء القدماء)، ويشير إلى اعتقاد في الثقافة الأمازيغية يتصل باكتساب الموهبة الشعرية.

يتحدثُ المخطوط عن طقوسٍ دينيةٍ لاستقبالِ حالةِ الشعر. إذ يبدأ بالقولِ إنّه إذا أراد أحدهم أن يصير شاعراً، يتوجب عليه التضحية بخروفٍ إلى وليٍ من الأولياء المشهورين بهبةِ الشعر. يواصل المخطوط الشرح: "وفضلاً عن الأضحية، يأخذ معه في بعض الأحيان دقيقاً يصنع منه طعاماً يوزعه على الزوار. ويشعل نوراً في قبة الضريح. وفي أحيان أخرى يكفيه أن يذبح أضحيته وتكون من نصيب شرفاء الزاوية". بعدها يتوجب على الطامح في الشعر أن يقيم في زاوية الولي ويطْعم فيها، ويبيتُ ثلاث ليالٍ حتّى يأتيه الولي "في هيئة إنسان أو في هيئة أخرى تشبه الطير أو مخلوقاً آخر، ويطلب منه أن يقوم بأفعال معينة، كأن يشرب شيئاً أو يأكل شيئاً. ويظهر لهم كل هذا في حلمه ويمتثل له، فيشرع في تعلم الإنشاد إلى أن يصير منشد سليقةً".

ثمة طقوس عبور يتعين على الرايس المرور بها ليصير شاعراً، وهو ما يحتم عليه أن يذكر الولي دوماً في مقدمة عمله. إن الأمر شبيه بميثاق يقرن الهبة بالشكر، ويجعل الرايس دائمَ الاعتقاد في بركة الولي التي تعينه على الاستمرار والنجاح. 

هناك عدد من الأولياء الذين يوكل إليهم منح الشعراء هبة الشعر. يقول الباحثان في جامعةِ ابن زهر بأكادير، محمد أفقير وفاطمة فائز، في مقالهما "المقدس والتمثلات الدينية في الشعر الشفوي الأمازيغي بسوس"، المنشورة في مجلة الدراسات الأمازيغية سنة 2019، إن الناس يحجون إلى أضرحةِ هؤلاء الأولياء طلباً للإلهام الشعري ويسمونهم "لاشْياخ ن اومارك"، أي شيوخ أو أولياء الفن والشعر. ومن أشهر هؤلاء الأولياء "سيدي حماد اوموسى"، دفين تازروالت قرب تيزنيت جنوب المغرب، و"مولاي الحاج" المدفون قرب تافراوت في إقليم سوس، و"لِلّا عزيزة" (السيّدة عزيزة) المعروفة عند الشعراء بلقب "للّا عزيزة تاكرامت"، أي الولية الصالحة عزيزة.

يحرص الروايس على تصدير أعمالهم بالبسملة وذكر الله قبل المضي إلى طرْق موضوعات مختلفة تتصل بقيم المجتمع الأمازيغي المتوارثة، فصار هذا الأمر قاعدة يتعين على الجميع الالتزام بها. وفي هذا يقول محمد أفقير وفاطمة فائز: "الافتتاح بالبسملة والتوسل بالصالحين من الإنس والجن ليس مجرد تنميق لغوي يدخل في إطار العادة، بل يعبر عن قيم جوهرية في النص تمتزج بمختلف عناصره البنائية". هذه العناصر كما يشرحها الكاتبان تستمد شرعيّتها من الفضاء الاجتماعي الأمازيغي، فهو فضاء يتشارك أفراده في الإيمان العميق بقدسية قيم المجتمع التي يوكل إلى الشاعر مهمة نشرها. ويضيف الباحثان إنّ نوع التربية والتنشئة التي يجتازها الإنسان في الوسط الأمازيغي منذ الصغر، تتصل بأسس الإسلام العقائدية والروحية. فتكون كل الطقوس والأشكال الاجتماعية والاحتفالية المرتبطة بتلك التنشئة الإسلامية محركاً أساساً وجوهرياً فيما يقدمه الروايس من أشعار وغناء. وبهذا يتشرّب الشعر الشفوي قيمَ المجتمع وطقوسَه ومعتقداتِه. 


مثل سواهم من الأمازيغ يتلقى الروايس تعليمهم الأولي في الكتاتيب الملحقة بالمساجد، حيث يتعلم الأطفال مبادئ كتابة العربية ويتدرجون في حفظ القرآن وبعض المتون الدينية. وكانت الكتاتيب في بوادي سوس حواضن تعليمية، لندرة المدراس العصرية وبعدها عن القرى في بدايات القرن العشرين. وبذلك لم يقتصر دور المسجد في البادية الأمازيغية على الأمور الدينية، بل كان له دورٌ تعليميٌ مهم. وكان إمام المسجد إماماً وفقيهاً وخطيباً ومعلماً في الوقت نفسه. وهو ما يتيح تصنيف النمط التعليمي في بوادي سوس ضمن التعليم الديني، أو كما يسمّى اليوم "المدارس العتيقة".

في إطار تلك البنية كان الرايس يدخل الكُتَّاب ويتعلم الكتابة ويحفظ القرآن أو بعضه، ثم يغادر ذلك كله بعد أن يكتشف في نفسه القدرة على قول الشعر وغنائه. يقول محمد مستاوي في كتابه "الرايس الحاج بلعيد: حياته وقصائد مختارة من شعره"، المنشور سنة 2022، متحدثاً عن بطل كتابه المنحدر من منطقة وِجّان نواحي تيزنيت جنوب المغرب، إنه "نشأ نشأة اليُتمِ والعوز، إذ مات أبوه قبل أن يبلغ سن التمييز، وأدخلته أمه إلى كُتاب مسجد القرية لينال نصيباً من التعليم". وكان الرايس الحاج أجحود محمد الدمسيري يصرِّح بأنه حفظ جزءاً كبيراً من القرآن في صباه، قبل أن يترك الكتاب ويحترف الشعر والغناء. ومثلهم قال الرايس صالح الباشا في برنامج مع قناةِ "ماسيليا" الأمازيغية على يوتيوب سنة 2024، إنه قرر ولوج ميدان فن تيرويسا بعد استماعه شريطاً غنائياً للرايس الحسين أمراكشي، وهو من الروايس المعاصرين. كان الباشا وقتئذ طالب علم في مدرسة عتيقة ببلفاع، وهي بلدة سوسية جنوب المغرب.

أكسب التعليم الديني الروايسَ شرعيةَ التواصلِ الديني مع العامة. فسلَّم الناس للرايس بسلطة معرفية تتيح له الخوض في المسائل الدينية إما مباشرةً أثناء حديثه إليهم في مناسبات معينة، أو في أغانيه التي عادة ما تنصرف إلى الإرشاد المستند للنص الديني. في كتابه عن الدمسيري كتب مستاوي: "إذا أخذنا الجانب الديني من شعر الفنان الدمسيري نجده واعظاً متضلعاً في الفقهيات، ومحدثاً شارحاً للأحاديث النبوية وللآيات القرآنية، وناقداً لنفسه قبل غيره بأسلوب مبسط وبلغة أمازيغية شعبية تعمم الخطاب الديني لمن لا يتقنون القراءة".

ينبع اهتمام الروايس بالخوض في المسائل الدينية من المعرفة التي تلقوها في المساجد أيام الطلب، ومن تجاربهم الشخصية، لاسيما المتصل منها بالحج. فقد شكل الحج موضوعاً متواتراً في عدد من قصائد الروايس الذين حجوا مكةَ، فخصصوا قصائد كاملة تصف رحلتهم وتشرح كيفية أداء المناسك. ومن أبرز الأمثلة على ذلك قصيدة الحج للرايس الحاج المهدي بن مبارك، المتوفى سنة 2024. تمثل "تَاقْصِيدْتْ نْ لْحِجْ" رحلة مُفَصَّلة للديار المقدسة، وهي بمثابة وثيقة تعليمية توضح المراحل الأساسية التي يقطعها الحاج في أداء المناسك. تبدأ القصيدة: "لْحِجْ ءَايْكَانْ لْفْرْضْ ءَايْمُوسْلْمْنْ فْلّاغْ، أَبْلْحَاقْ وَانَّاسْ ءِيدْرْكْنْ ءَاسَاغْ ءِينَّا شّْرْعْ". أي "الحج فرض أيها المسلمون علينا، ولكن على المستطيع هكذا ينص الشرع". ثم ينصرف بن مبارك إلى ذكر أهمية الحج وفوائده، وما شهده في رحلته إلى الحجاز، قبل أن يتوقف عند الضوابط الكبرى التي يقتضيها أداء المناسك. من ذلك ذكره الطوافَ بالكعبة وزيارة مقام النبي إبراهيم وتقبيله الحجر و"ءِيسُو غْ زَامْزَامْ نْغُوبُونْ فْلّاسْ ءِيرَافَانْ"، أي شرب ماء زمزم لإزالة الظمأ. وهكذا يصف فيما تبقى من القصيدة بقية المشاعر مستعملاً لغة واضحة تقصد إلى البيان والتوضيح. فكانت قصيدته دليلاً للحجاج تعينهم على فرضهم دونما حاجة إلى سؤال أحد.

قبل بن مبارك خصص الرايس الحاج بلعيد قصيدة كاملة لذكر تفاصيل رحلته إلى الحج أوردها محمد مستاوي في كتابه عنه. وهي قصيدة ذات بعد تعليمي ديني تبين فرائض الحج وضوابطه، يقول الرايس متحدثاً عما يجب على الحاج عمله. فإذا زار الحاجّ مكة فعليه أن يعلم أنّها أشرف البلدان، وعليهِ زيارة مقام صحابة رسول الله، موضحاً فرائض الحج الأربع وهي: الإحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفة.

يتجاوز موضوع الوعظ في أعمال بعض الروايس الجانبَ الواقعي المتصل بالدعوة المباشرة إلى ترك المعاصي واستحضار الله في القول والعمل، إلى الترهيب بأهوال النار. ينشئ الروايس أحياناً قصائدَ تقوم على حكاية مفترضة لأحداث الآخرة، على غرار بعض الأعمال الأدبية الكبرى في التاريخ ومنها كتاب "الكوميديا الإلهية" الذي كتبه الشاعر الإيطالي دانتي أليغييري في القرن الرابع عشر وكتاب "رسالة الغفران" الذي كتبه أبو العلاء المعري في القرن الحادي عشر. في هذا المقام تحضر قصيدة للرايس بوبكر أنشاد، المتوفى سنة 1942 وابن منطقة إنشادن بجنوب المغرب، معروفة باسم "لْقِيصْتْ نْ ءُومْحْضَارْ" أي "قصة طالب العلم". يتخيل بوبكر في القصيدة طالبَ علمٍ شرعيٍ مات وأراد رؤية والديه في الآخرة، ولمّا لم يعثر عليهما في الجنة سأل عنهما خازن النار، فأتاه بهما وقد احترقا. فشرع الرجل يسألهما عن أسباب دخولهما النار فيجيبانه بسرد المعاصي التي ارتكباها. قبل أن يختم الرايس القصيدة بقوله: "الْفَايْدَة تَغَرَاسْتْ آدْ رْبِّي يُومْرْتِيدْ، إِكَاغْ كِّيسْ أُمْنْغْ سِرْكْ أَ خَالْقْ العِبَادْ"، أي "الفائدة من هذا أن شرع الله، فرضه علينا فآمنا به". ثم يقول: إنّ الرجلَ لا يمكن أن يعرف إن كان مستقيماً في الدنيا أو عاصياً، لكن عليهِ أن يسير في طريق الله وطاعته وطاعة نبيه. ثمّ يوصّي الناسَ بالصلاة على النبي.

لا تتوقف وظيفة الروايس على الوعظ أو التعليم الديني، بل تتجاوزه إلى الدعاءِ للناسِ في احتفالاتهم. يتحول الرايس من فنان إلى رجل دين ينتظر الناس منه أن يدعو لهم بالصلاح والخير، والشفاء من المرض والذرية الصالحة وبغير ذلك من أمور الدنيا والدين.

يحدث هذا عادة في نهاية المناسبات الاحتفالية، أو في الحلقات المقامة في الأسواق الشعبية، أو في ساحة جامع الفنا بمدينة مرّاكش. إذ تعتبر "الحلقة" فناً شعبياً مرتبطاً بالساحات والأسواق، وهي المنصة الأشهر التي يصقل فيها الرايس موهبته ويكسب منها قوته. فالحلقة فضاء فني يتصل بمجموعة من المهن تعد تيرويسا أهمها. والناس المتحلقون حول الروايس في هذا الفضاء يعطون المال نظير الفرجة من جهة، وطلباً للدعاء من جهةٍ ثانية. 

يكاد هذا الطقس يصير عُرفاً معمولاً به في جميع الفضاءات الفنية التي يقيم فيها الروايس أنشطتهم. وترسَّخ في أذهان الناس أن دعاء الرايس يكتسب قيمته من بركة الأولياء الذين ينتسب إليهم، لدرجة أن البعض يخاف أن يدعو الرايس عليه فتصيبه لعنة ما. وقد يحدث أن يحضر إمام المسجد في حفلٍ للروايس، ومع ذلك فإن الرايس يحتفظ لنفسه بشرعية الدعاء للناس.

فشرعية الروايس الفنيّة تمتد حتى يصير فنُّهم جزءاً من الدين، فتُحلُّ لهم عادات المجتمع المحافظ ما لا تحلّه لغيرِهم من الفنانين. ويتضح هذا في أمريْن أولّهما علاقة النِّساء بهذا الفن، وثانيهما علاقة طلبة العلم في المدارس العتيقة به.


تجربة الروايس ليست حكراً على الرجال، بل ساهمت النساء بقوة في إثرائها. واحتفظت الذاكرة الأمازيغية بأسماء رايسات مؤثرات في أزمنة مختلفة، استطعن قيادة مجموعاتهن الغنائية بحرفية عالية. ويستمر حضور الرَّايْسَة في الفضاء الثقافي الأمازيغي إلى اليوم، وإن بمظاهر مختلفة عمّا كان عليه الأمر في العقود السابقة.

التحقت النساء بالروايس راقصاتٍ في البداية، ثم أصبحنَ جزءاً من الفرقة يرددن لازمةً في الأغنية. لكن سرعان ما خرجن من هذا الإطار فخُضن تجارب فردية ليصبحنَ رايسات لهن فرقهنَّ الخاصة. ومع أن تجربة المرأة في فنِّ تيرّويسا مختلفة في بعض الجوانب عن تجارب الرجال، ولا سيما العزف على آلة الرباب، فالمرأة تكتفي بالأداء الغنائي. إلا أنها استطاعت أن ترسم لنفسها مساراً ضمن نظرائها الروايس، مع أن النساء لا يتلقين التعليم نفسه الذي يتلقاه قرنائهن الرجال، فلا يلتحقن بالكتاتيب، ويقتصر تعليمهن على ما يتلقينه من الروايس عند العمل في فرقهم. 

لا يرى المجتمع القروي ضيراً من أداء المرأة مهنة تيرويسا، رغم الضغط الذي يمارسه المجتمع عليهن في بداية مشوارهن حسب ما ورد في حديث الرايسة رقية الدمسيرية سنة 2011 لجريدة هسبريس المغربية. رغم ذلك نكاد لا نجد فرقة من الروايس دون راقصات (تارّايسين). بل يحتفي الناس بالرايسات المؤديات ويستضيفونهن في احتفالاتهم، ما يدل على تقبلهن والاعتراف بموهبتهن.

ينتشر لون غنائي فريد هو الحوار الشعري المسمى عند الروايس "تَانْضّامْتْ". وهو نوع من الممارسة الغنائية تقوم على تبادل الكلام الشعري بين رايس ورايسة، يصل في بعض الأحيان إلى القدح، وإن في إطار الفرجة المقبولة التي لا تخرج عن نطاق العرف والأخلاق. 

في هذا اللون، يرد في بعض القصائد ميل النساء إلى التوبة والإيمان بأن الغناء إلى جانب الرجال غير مقبول. من ذلك ما ورد على لسان الرايسة فاطمة دُورِيجِينْ، وهي من الرايسات المرافقات للرايس الدمسيري. في حوارها الشعري مع الدمسيري في إحدى سهراته بفرنسا، تقول فاطمة: "ءَاجّاغْ ءَاكْمَا ءَانْزْرِي كِيتْسْنْتْ ءُوسّانْ نَّاغْ، ءَاسْنَّا نْشِيبْ نْتُوبْ نْفْلْ ءَاوَالْ ءِيوِيّاضْ"، أي "دعني أقضي شبابي في الغناء، وحين أكبر أتوب وأترك مكاني لآخرين".

في هذه المحاورة يكشف الرايس محمد الدمسيري عن موقف يعود إلى تربيته الدينية يتناقض مع تجربته العملية داخل فنِّ تيرويسا. ذلك أنّه يعد مدرسة حقيقية في تعليم النساء فن تيرويسا، ومعظم الرايسات المشهورات تتلمذن على يديه، منهن الرايسة فاطمة تحيحيت مزّين، المولودة سنة 1969. وعلى ذلك فإنّ الدمسيري يرى أن ممارسة المرأة للغناء عيب، إذ يحاور الرايسة فاطمة دوريجين بقولِه لها إنّه يحاول ردّها إلى جادةِ الصواب لتحافظ على عرضِها حتى مماتها. ويخبر فاطمة بأنّ عليها التوبة عن الغناء ويطلب منها التفكير في الآخرة والحساب، ويذكرها بقوله: "ءِيسّانْ ءِيسْ نِيتْ ءِيعِيبْ ءُوحْوَاشْ ءِيتْمْغَارِينْ"، أي اعلمي أن غناء المرأة عيب.

تظهر هذه النظرة الاجتماعية في سيرةِ حياةِ الرايسات المشهورات اللائي فررن من قراهن نحو المدينة من أجل الالتحاق بفرقة من فرق الروايس. فقد رأين أنها الطريقة الوحيدة التي تُخوّل لهن الخلاص من قسوة البادية التي تفرض عليهن الزواج في سن مبكرة. تقول رقية الدمسيرية، المولودة سنة 1948 في حوارها مع جريدة هسبريس: "هربت من الدوار [أي القرية] لأن عائلتي أرادت تزويجي بشخص أكبر مني سناً كما جرت العادة. كنت آنذاك مراهقة تنبع بالحيوية والفن والحرية. لقد رفضت ذلك وكسرت التقاليد في زمن صعب وجئت الدار البيضاء لأبدأ مشواري الفني".

حدث الأمر نفسه مع الرايسة فاطمة تَابَعْمْرَانْتْ، المولودة سنة 1962 بمنطقة لاخْصاص ضواحي مدينة كلميم بجنوب المغرب، وهي رايسة ذائعة الصيت في المغرب وخارجه. تنقلُ منصة "هوامش" قصة تابعمرانت هذه في منشورِها "فاطمة تَابَعْمْرَانْتْ.. من طفولة قاسية إلى صوت للهوية الأمازيغية"، المنشور في مايو 2025. تحكي المنصة أن فاطمة اضطرت إلى الهروب من قريتها إلى المدينة لتبدأ رحلتها في عالم تيرّويسا. واهتم فيلم "تيهيا" من إنتاج سنة 1994 بهذا الجانب من حكايتها. 

بدأت الرايسة تابعمرانت رحلتها في عالم تيرويسا مع عدد من الروايس أمثال سعيد أشتوك ومحمد الدمسيري، قبل أن تستقل بفرقتها الخاصة سنة 1991. وعلى طفولتِها الصعبة وهروبها من مجتمعها، تنقل عنها منصة هوامش أنّ علاقتها بالدين "ليست متوترة"، بل فهمٌ عميق لروحه. فتمجد العلماء المتمكنين من الدين، الذين ينتصرون للحياة. لكنها ترفض حصر الدين داخل المؤسسات، أو لدى رجال الدين المنغلقين. وكثيرا ما تتوجه الفنانة إلى الله بدعاء صادق في أغانيها مستلهمة من قصص الأنبياء دروساً وعبراً، مؤكدة أن عدوها الوحيد هو الجهل، وأن فنها انتصار للحلم والفرح والجمال.


يمتد حضور الروايس في المجالِ الديني الأمازيغي إلى طلبة العلم في المدارس العتيقة بالبوادي الأمازيغية بجنوب المغرب. فهم لا يُحرمون من الاستماع إلى أغاني الروايس أو أي من الفنون الأخرى، سواء تلك التي تذاع على الإذاعة، أو عن طريق الأشرطة التي يشترونها لكي يسمعوها في أوقات فراغهم. 

أسهم هذا الجو في خلق هذا التوافق بين قطبيْن قد يبدوان في مدونات فقهية أخرى متناقضين. فكان بديهياً أن يُرى إمام المسجد في احتفالات الناس الغنائية، أو يدندن أغنية لأحد الروايس، أو يُسْمَع صوت الروايس منبعثاً من مذياعه خلال إقامته في المسجد. كل ذلك ترسخ في الوجدان الأمازيغي حالةً عادية لا تستدعي الدهشة.

يدل على ذلك الطريقة التي تُقرأ بها المتون الدينية في مساجد البوادي الأمازيغية بالجنوب. إذ تنتشر القراءة الجماعية للقرآن بالمقام الخماسي، وهو المقام المميز لأداء الروايس. والشيء نفسه في قراءة المتون الأخرى، ولا سيما متن "البُرْدَة" أو "الكواكب الدرية في مدحِ خيرِ البريّة" للبوصيري. تعد قراءة هذه المتون طقساً أساساً بعد قراءة الحزب الرّاتب في حلقة تلاوة القرآن جماعة في المساجد بعد صلاتَي المغرب والفجر. وقراءة بردة البوصيري يميزها اعتماد المقام الخماسي والترنم الذي يشبه إلى حدٍ ما ترانيم الروايس. تسمى هذه القراءة إلى اليوم بالقراءة السوسية، سواء قراءة القرآن أو البردة أو الهمزية وهي أيضاً قصيدة في مدح النبي للبوصيري.

كذلك الأمر في جلسات المديح النبوي التي تعقدها العجائز في البوادي الأمازيغية بالجنوب. إذ يجتمعن كل جمعة في بيت إحداهن أو في زاوية من الزوايا الصوفية، يذكرن الله بأوراد تلك الزاوية. ويغنين مدائحَ بمقامات مستمدة من قاعدة ثقافية هيمن عليها المقام الخماسي، فلا تجد اختلافاً كبيراً بين ما تؤديه هؤلاء النسوة وما يؤديه الروايس من أعمال. بل إن هؤلاء النسوة يستندن في عدد من المدائح إلى ترانيم بعض أغاني الروايس، كما تؤدي فرقة "أكراو" النسائية المديحَ النبوي. مما يدل على ترسخ هذه التجربة في وجدان الجماعة الأمازيغية بجنوب المغرب. 

يمتد هذا الأمر أيضاً إلى قراءة المتون الفقهية في المدارس العتيقة، مثل متن ابن عاشر، وهو الفقيه عبد الواحد بن علي بن عاشر الأنصاري المتوفى سنة 1631. ومتنه هو أرجوزة فقهية نُظمتْ على بحر الرجز تلخيصاً للقواعد الفقهية في عدد من المسائل كالصلاة والزكاة والصوم وغيرها. ويحفظها طلبة العلم في المدارس العتيقة، ويتلونها بالقراءة السوسية على المقام الخماسي الذي رسخته تجربة الروايس في الثقافة الأمازيغية بسوس.


لم تعد ظاهرة الروايس اليوم على عهدها في العقود الماضية. فقد شهدت المهنة تغيرات عديدة مست البنية والوظائف، لأسبابٍ يتداخل فيها التاريخي والاجتماعي والثقافي. فقد تغيرت بنية البادية الأمازيغية، وباتت تفقد خصائصها التقليدية تدريجياً، وظهرت أنماط جديدة من الفنون نافست بقوة فن الروايس، مثل "تاكْرُوبِيتْ". وهو نمط فني حديث ظهر في السبعينيات يرتبط بمجموعات غنائية تعتمد آلات حديثة وألحاناً شبابية مثل مجموعة "أودادن". وساهم التطور التقني وما اتصل به من وسائل تواصل حديثة في تغير نظرة القرويين إلى الروايس. وهو ما أدى إلى توجه التجربة ناحية التحديث، فظهر فريق جديد من الروايس عمل على تجديد هذا الفن وإثرائه بإدخال آلات جديدة مثل فرقة الرايس الحسين الطاوس الذي أدخل آلات القيثارة والأورغ والكمان.

تجاوز حضور فن الروايس فضاءاته الفنية التقليدية وانتقل إلى فضاءات المهرجانات الفنية، كمهرجان موازين بالرباط ومهرجان تيميتار بأغادير. وتوقف العمل بالأشرطة وصارت منصات الإنترنت هي القنوات الرسمية لنشر الأعمال الفنية. كل هذا أسهم في فقدان الروايس المعاصرين أدوارَهم الاجتماعية والثقافية والدينية، وانتهى زمن الإيمان ببركتهم وتفردهم وشرعيتهم الدينية. ومع ذلك لا يزال عدد قليل من جيل القدماء يقاوم التحديث بالحفاظ على مقومات تيرويّسا الأصيلة، والحرص على تقاليدها.

اشترك في نشرتنا البريدية