عشت أربعةً وعشرين عاماً في ريف المنيا جنوب مصر، وشاهدت كيف ينهش الفقر الأرواح قبل الأجساد. أطفالٌ يكدحون في أراضي الأثرياء لقاء فتاتٍ من القروش لا يكفي سوى لثوب عيدٍ يتيم أو وجبةٍ يتقاسمها البيت بأكمله. رأيت رجالاً يتكدّسون في عربات أعدّت أصلاً لنقل البهائم والبضائع، يضغطون أجسادهم داخلها بينما يتجادلون بمرارةٍ حول نصف جنيه زاد على تسعيرة الأجرة. وشاهدت نساء يتهامسن عن غلاء اللحم وأزواج يرسلون أبناءهم إلى الشوارع يجمعون البلاستيك والخردة ليكملوا ثمن كتبهم، ومع ذلك يهربون لاحقاً من المدرسة. هكذا تشكّلت ملامح الريف من حولي، فبدا فضاءً للفقر والعنف والجريمة والخروج عن القانون، وكأنها تحقيق لصورة "الفلاح الوحش" النمطية التي رسمها الاستعمار البريطاني. ويبدو أنها ما زالت حاضرة في المخيال العام والإعلام بما يحمله من وسائل التمثيل الثقافي كالسينما والتلفزيون. وفي الأخبار أيضاً حين تُغطى جرائم وقعت في الريف، يصبح توصيف الفلاح تهمةً توضع بين هلالين، دون الالتفات إلى السياقات الاجتماعية والاقتصادية التي تفرزها تلك الجرائم.
ضمن هذا المنظور المعرفي، رسم المستشرق البريطاني إدوارد وليم لين في جزء من كتابه "أن أكوانت أوف ذا مانيرز آند كوستِمز أوف مودِرن إيجبشينز" (رواية عن عادات وتقاليد المصريين المعاصرين) المنشور سنة 1836، ملامح جارحَةً للمصريين. فوصف الأطفال، مستثنياً أبناء الطبقات الغنية، أنهم متّسخون شديدو القذارة، ولا يعرفون النظام ولا الذوق. وفي حين أنه دوَّن بدقة كثيراً من عادات المصريين وممارساتهم الثقافية وأوجه الغبن التي كان يعيشها الفلاحون مع ملاك الأراضي من الإقطاعيين وسطوة عُمد القرى، إلا أن هذا لم يمنعه من النظر لهؤلاء الفلاحين نظرةً استشراقية مستعلية. بل ذهب أبعد من ذلك حين أشار إلى أن الأتراك يستخدمون لفظ "فلاح" بمعنى ساخر "يساوي بين المصري وبين الساذج والمهرج". فأهل الريف بتفسيره لا يستحقون أن ينسبوا إلى أرض الفراعنة.
كانت كتابات إدوارد لين واحدة من البذور الأولى لخطاب استشراقي كرّس الفلاح كائناً أدنى، وسرعان ما تبلورت هذه الصورة في كتابات أكثر قسوة واستعلاءً في المرويات الأدبية الإنجليزية. فقد صاغت الروائية الإنجليزية أميليا إدواردز في كتابها "أي ثاوزند مايلز أب ذا نايل" (ألف ميل على النيل) الصادر سنة 1877، واحدة من أكثر اللوحات مثالاً عن أهل المنيا. رأت إدواردز في انتشار فقدان البصر بينهم لمسة من الاشمئزاز، ووصفت الرجال بالفجاجة والنساء بالعدوانية، والأطفال بالقذارة والمرض. ثم ختمت انطباعها بوصم القرى باللصوصية، معتبرة بني حسن (منطقة صغيرة شمال محافظة المنيا) "أوكاراً للصوص"، لا علاج لها سوى الهدم والعقاب.
ويزداد هذا الخطاب وضوحاً في حادثة صيد روتها أميليا إدواردز، حين أصابت طفلاً قروياً رصاصةٌ طائشة أطلقها أحد مرافقيها. بدلاً من الاعتذار، قرأت غضب الأهالي ورشقهم بالحجارة دليلاً إضافياً على "وحشيتهم". وعليه حوّلت ردّ فعل طبيعياً على الألم إلى برهان على بدائية الفلاح وعدوانيته، مؤكدة الصورة النمطية التي وظفت مراراً لتثبيت مقولة "المصري القروي" العنيف والفوضوي والخارج عن القانون.
جاء الاستعمار الإنجليزي مصرَ سنة 1882 ممتطياً الروايات الاستشراقية ومتدرعاً بالنظرة الاستعلائية للسكان المحليين مبرراً لاستعمارهم عسكرياً. لذا لم يكن مفاجئاً أن يقع الفلاح المصري عند المنظومة الاستعمارية في ذات المكانة التي ألصقها به الاستشراق والمتأثرين به من كتَّاب.
يعترف راسل أن الفلاحين كانوا أميّين يسكنون أكواخاً واهية مع بهائمهم ويشربون من الترع، وأن حياة الريف "منفّرة" لموظفي الحكومة ومحاطة بالأوبئة مثل البلهارسيا والكوليرا. ومع ذلك يرى أن هذا الواقع البائس لم يمنع الريف من أن يكون "مسرحاً للجريمة"، بل أرضاً مثالية لتدريب الأطباء الشرعيين البريطانيين الذين اشتهروا لاحقاً، مثل سيدني سميث ونولان، نظراً لوفرة الجثث جراء انتشار الجريمة. ويؤكد: "كان منع الجريمة أو توقّعها عملنا اليومي صباحاً ومساءً". ويصف راسل أدوات الجريمة في القرى: الحراب الحديدية والبلطات، قبل أن تنتشر البنادق التي وصلت إلى أيدي الفلاحين عبر قبائل البدو. ومع تسلّل السلاح الناري إلى الريف تُرِكت القرى، كما يقول، تحت رحمة مجرمين محترفين يصعب كشفهم.
يستشهد راسل بإحصاءات تؤكد هذه الصورة التي تبرِّرها النظرية الاستعمارية. ففي سنة 1947 حين كان عدد سكان مصر سبعة عشر مليون نسمة، منهم اثنا عشر مليوناً في الريف، كان متوسط الجرائم السنوي في الفترة بين 1940 و 1944 يبلغ نحو سبعة آلاف وتسعمئة جريمة. ألفٌ وثمانمئة من الجرائم في المدن الكبرى، القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والسويس، وستة آلاف ومئة في الأقاليم. ومن هذه الجرائم، سجّل 2957 حادثة قتل أو شروع في قتل، بينها مئتان واثنا عشر فقط في المدن، مقابل 2745 في الريف. ويكشف راسل أن 70 بالمئة من هذه الجرائم كانت بدافع الثأر، و18 بالمئة بدافع السرقة. وهو ما يعزز في خطابه صورة الفلاَّح قاتلاً متعطشاً للدماء، ناهيك عن كونه بدائياً في تصرفاته.
يروي سميث أن الانطباع السائد عن المصريين آنذاك هو أنهم قوم متوحشون وقساة بسبب كثرة الجرائم العنيفة. إلا أنه في المقابل لمس وجوهاً أخرى ذات طيبة وسماحة وخفّة ظل تجلّت في جلسات المقاهي وولعهم بالثرثرة. وقد لاحظ سميث أن الغضب قد يدفعهم أحياناً إلى التمرد الجنوني. ويعزو كثيراً من الجرائم إلى ظواهر اجتماعية متجذّرة، مثل تعدّد الزوجات وكثرة الطلاق. ففي إحدى الوقائع التي يسردها، طلّق رجل زوجته ثلاث مرات ثم حاول أن يعيدها عبر محلِّل (الرجل الذي يتزوّج امرأة مطلَّقة ثلاثاً من زوجها الأول بنية أن يُحلّها له بعد طلاقها منه). لكن المحلّل رفض تطليقها مجدداً واشترط مبلغاً مالياً كبيراً، فقتله الزوج.
ساهمت الوقائع المذكورة في تغذية صورة "الفلاح المتوحش" لدى الاحتلال البريطاني، متجاهلاً أن جذور هذه الانحرافات والحوادث الدامية نتاج البيئة التي عاش فيها هذا الفلاح، والتناقضات الاجتماعية والسياسية التي كبّلته عقوداً طويلة. وفي القلب من هذا فقر وتهميش وأمية وغياب أدوات التمدّن.
هذه التصورات تجاه الفلاح تركت آثارها أيضاً على نظرته لذاته. ويبدو أن هذا الفلاح وقع في فخ التقييم الخارجي لنفسه، لاسيما في السياق الاستعماري منه. وكأن المنظومة الاستشراقية، كما يشير الكاتب الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد في كتابه "أورينتِليزم" (الاستشراق) الصادر سنة 1978، باتت هي الحكم على صورة الشخص وثقافته.
مقتربة من هذه الظاهرة في كتابها "نكبة توطين الهكسوس" الصادر سنة 2020، تقول الباحثة افتكار البنداري أنَّ الحملات الفكرية والإعلامية الأجنبية عملت على تشويه صورة الفلاح المصري، عبر تنفيره من ذاته وتسويقِ كل قيمة حميدة باعتبارها غربية. مقابل ترسيخ صورة الفلاح المتخلِّف الذي لا نجاة له إلا في تقليد الأوروبيين. وبهذا تراكمت عوامل التهميش الاجتماعي والاقتصادي مع حملات التشويه الثقافي لتغلق أمام الريف أبواب الإصلاح.
هذه النظرة الدونيَّة، سواء من الخارج أو من الذات، تراكمت فوقها عوامل أخرى. إذ يوضح نزيه الأيوبي في كتابه "الإسلام السياسي، الدين والسياسة في العالم العربي" الصادر سنة 2020، مساهمة البدو في ترسيخ ثقافة الشرف والثأر بالصعيد، ما جعل السلاح جزءاً من الحياة اليومية وحوّل الجبال إلى ملاذٍ للمجرمين والفارِّين من التجنيد وتجَّار المخدرات. ومع مرور العقود رسَّخت هذه التقاليد مجتمعاً هشّاً تعصف به الجريمة وتغيب فيه سلطة الدولة وسيادة القانون.
تكشف دراسات اجتماعية أن معاناة الريف المصري ليست مجرد صورة ذهنية أو نماذج نمطية، بل واقعٌ مُعاش وممتد. ففي دراستها "المرأة والإعلام في صعيد مصر" المنشورة سنة 2016 توضح عواطف عبد الرحمن، أستاذة الصحافة في جامعة القاهرة، أنَّ الصعيد ظل يرزح منذ زمن طويل تحت وطأة تدني مستويات المعيشة وانتشار الأمية والبطالة وغياب الرعاية الصحية. فضلاً عن سطوة الأعراف والتقاليد التي أبقَتِ المجتمع أسيراً للفقرِ ولصراعاتٍ داميةٍ مثل الثأر واغتصاب الأراضي الزراعية.
ولذلك هاجر الكثيرون من الريف إلى المدن مدفوعين بسياسات الاستعمار البريطاني التي فرضت زراعة القطن لتصديرها فقلّ تنوع المحاصيل، وزادت الضرائب على المنتوجات الزراعية. غير أن هذه الهجرة، التي بدت خلاصاً فردياً، لم تنجح في إحداث تحسين ملموس في معيشة سكان القرى، بل أنتجت أزمات جديدة داخل الحضر. ليس أقلها تغييرات في التركيبة الاجتماعية تحولت إلى توترات في بعض الأحيان. وفي أحيان أخرى إلى جرائم، تُرجمت تأكيداً للصورة النمطية للفلاح التي رسخها الاستعمار. ولم تتلاشَ تلك القراءة الاستعمارية بانتهاء فترة الاحتلال البريطاني، بل وجدت طريقها إلى الإعلام المحلي كذلك بصور ودرجات مختلفة.
لكن الصورة النمطية عادت في الإعلام مع سياسة الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات. إذ تدفق الكثير من أبناء الريف نحو المدن الكبرى أملاً في الخروج من بيئة الفقر التي عاشوها في ديارهم. يذكر الباحث في الفكر السياسي الحديث محمد نعيم في كتابه "تاريخ العصامية والجربعة" الصادر سنة 2021، أن تلك الفترة شهدت ما يسميه "السيولة الاجتماعية". إذ ارتبط التحسن الاقتصادي وما تبعه من ارتقاء طبقي بمحاولة التنصل من الجذور الريفية. فلم تعد العصامية تُفهم جهداً شريفاً مبنياً على الكفاح والتعليم والعمل، إنما استبدلت بما يسميه "الجربعة"، أي التسلّق الاجتماعي عبر الاستهلاك ومفارقة الأصل الاجتماعي. ساهمت هذه الظاهرة في صورة الفلاح الذي صار عبئاً على أبناء الريف الصاعدين.
بهذا صارت كلمة "فلاح" في وعي الكثيرين إشارة تنميطية لطبقة اجتماعية أقل، ومساحة ربما متاحة للتنمر، بل تتعداه لأن تكون إهانة. وما حادثة "فلاح المنوفية" في سبتمبر 2025 سوى إشارة إلى ذلك. إذ تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مقطعاً مصوراً ظهر فيه أحد الأشخاص وهو يوجِّه عبارات مسيئة وإهانات مباشرة للمحافظة وأهلها، على خلفية مشادة نشبت بسبب حادث سير. أثناء المشادة تلفظ الشخص بعبارات جارحة ضد أبناء المنوفية، قائلاً: "أنت فلاح من المنوفية وجاي تخبطني يا فلاح"، مصحوبة بألفاظ خارجة. هذه الظاهرة التي تصفها أخصائية الإرشاد النفسي، هبة الطماوي، في حديث مع "المصري اليوم" في سبتمبر 2025، بأنها تعبير عن أزمة أعمق من مجرد إهانة. ذاتها النظرة التي تعامل بها الاستعمار مع أهل الريف وامتدت لتصبح جزءاً من نظرة المجتمع المحلي وإعلامه لهذه الفئة من المصريين.
لم يكن تصوير الفلاح المصري قاتلاً بالفطرة كافياً في نظر الرواية الاستعمارية، فحتى المواد التي لامست حياته اليومية حُمّلَت دلالاتٍ جنائية. سيدني سميث، في مذكراته "قارئ الجثث"، يقدّم شهادة دامغة. يقول إنّه على مدار أحد عشر عاماً قضاها في مصر مطلع القرن العشرين، لم يخل يوم واحد من إجراء اختبار بحثاً عن الزرنيخ في جثث المتوفين، فالموت بالسمِّ صار عادةً يومية. وفرة هذه المادة في البيوت والأسواق جعلتها في نظره "أداة مثالية للجريمة"، سمّاً منزلياً متاحاً بكل يد، يعجز الطب عن علاجه ويستعصي على الاكتشاف السريع.
واليوم بعد ما يقارب القرن يطل مشهد مشابه يعيد النمطيات. حبوب الغلة، أو فوسفيد الألومنيوم. أقراص رخيصة الثمن لا تتجاوز قيمتها بضع جنيهات، تباع اليوم بحرية في محال المبيدات الزراعية، تحوّلت تدريجياً من مادة لحماية المحاصيل الزراعية إلى سلاح انتحار جماعي في الريف المصري. ومع خطورتها، لم يصدر حتى الآن قرار شامل بحظرها، واكتفت بعض المحافظات منذ سنة 2022 فقط بقراراتٍ محليةٍ تقضي بتقييد بيعها ببطاقات زراعية وتشديد الرقابة على المتاجر.
نادية ابنة قرية البرشا الواقعة في مركز ملوي محافظة المنيا، لم تحظَ بتعليم ولا عمل ولا حياة زوجية، وجدت نفسها بعد الثلاثين منبوذة بلقب عانس، ورأت الخلاص بحبة غلة أقرب إليها من أي محاولة للنجاة. والشباب دون العشرين، المثقلون بالديون والعجز عن السداد، ينهون دنياهم بقرص واحد. ففي قرية زعبرة بمركز ديرمواس بمحافظة المنيا، خرج أحمد رمضان ذو الثمانية عشر عاماً من التعليم في سن مبكرة، ليعمل في جمع الخردة والبلاستيك من الطرقات والمصارف. كان يستأجر دراجة نارية "تروسيكل" مقابل مئة جنيه يومياً، ويجني في نهاية اليوم نحو مئتي جنيه، لكنه حلمَ بامتلاك دراجته الخاصة ليعمل لحسابه دون شريك. لجأ إلى أحد تجار الدراجات بالقرية واشتراها بالتقسيط، غير أن ضعفَ دخله جعله عاجزاً عن سداد الأقساط، ومع ضغط التاجر المستمر، غلبه الإحباط فلجأ إلى حبوب الغلة السامة لإنهاء حياته.
قبل عقدين كان الانتحار في القرية نادراً، حتى أن سماع خبر حادثة واحدة يصدح مداه بين أحاديث الناس شهوراً. أما اليوم فالأرقام تكشف أن هذه الظاهرة قد تنامت. ففي الفيوم وحدها سجّلت ثمانون وفاة سنة 2018 بسبب هذه الحبوب. وفي دراسة إقليمية عن اتجاهات محاولات الانتحار بالتسمم الذاتي بين المصريين استمرت أربعة أعوام بين 2016 و 2020، وثقت الدراسة 2724 حالة تسمم ذاتي بمبيدات سامة، منها 201 وفاة.
كان فوسفيد الألمنيوم مسؤولاً عن 94.5 بالمئة منها. قبل تحسين قواعد عمل الإسعاف، بلغت نسبة الوفاة في بعض المحافظات 90 بالمئة. ثم انخفضت إلى نحو 50 بالمئة بعد تكثيف التوعية وتقنين البيع. ومع ذلك فإن غياب خطة شاملة حوّل هذه الحبوب سماً يومياً يهدِّد أرواح الفئات الأكثر هشاشةً في الريف.
حين قررت زوجة شابة تعيش بقرية دلجا جنوب غرب مصر، أن تتخلص من أبناء زوجها من زوجته الأولى. دسّت المبيد في عجين الخبز الشمسي وقدّمته للأطفال، فمات ستةٌ منهم، ثم لحق بهم الأب نفسه. صنعت هذه المرأة مأساةً مضاعفةً ضحاياها أطفال أبرياء وأسرة كاملة.
وما أشبه اليوم بالأمس، فالإحصاءات التي استخدمها الضابط الإنجليزي راسل لتصوير الفلاح مجرماً بالفطرة، تُستحضر اليوم لتسقط صفة الوحشية والبدائية على أهل الريف. وإن كانت تلك الإحصاءات صحيحة، لكنّها وُظفت لتغذية النمط السائد ولم تلتفت إلى السياقات الاجتماعية والاقتصادية التي تفرزه.
فبصرف النظر عن طبيعة الجريمة أو دوافعها وفيما إذا كانت أمراً سائداً في الريف، صاغت الصحف المحلية مأساة دلجا في عناوين سريعة: "جريمة غيرة زوجية.. الغيرة هي السبب.. قتلتهم بسبب غيرتها من ضرتها". اختزلت الواقعة في مشهد غرائزيٍّ، في استدعاء لصورة "الفلاح الوحش" التي صاغها الاستعمار قبل قرن.
يقول للفراتس أحمد رحمة، مدرِّس بقسم العلاقات العامة والإعلان بكلية الإعلام في جامعة القاهرة، إن هذا النمط من التغطية الإعلامية يعكس تحوّل الإعلام تحت وطأة "صحافة السوشيال ميديا". إذ تُغلَّب الإثارة والعناوين الصفراء على المهنيَّة، دون اعتبارٍ لتأثيراتها الاجتماعية. فقد حصرَتِ الصحف القصة في "غيرة قاتلة"، بينما هي في جوهرها نتاج منظومة تُسقط على المرأة المطلَّقَةِ وَصْماً لا ينمحي، وتدفعها إلى خياراتٍ مهينة تعصف بكرامتها.
ويضيف أحمد رحمة: "المشكلة لا تكمن في حادثة بعينها، بل في خطابٍ إعلامي يكرر القوالب الجاهزة، فيغفل السياق الاجتماعي والثقافي، ويعطي انطباعاً عن الريف بوصفه فضاءً بدائياً غارقًا في الغرائز. وبهذا لا تصبح الزوجة وحدَهَا ضحيةً لمجتمعها، بل يصبح المجتمع نفسه ضحية لصورة ذهنية مغلوطة يكرِّسهَا إعلام غير واعٍ بعمق ما يروّج له".
ومع أن مرتكبة الحادثة التي شغلت الرأي العام كانت امرأة، إلا أن الأرقام تكشف صورة مغايرة لما يسوّق إعلامياً. بحسب إحصاءات وزارة الداخلية، تشكّل النساء ما يقرب من 60 بالمئة من ضحايا جرائم القتل في مصر، فيما تظهر بيانات أخرى أن 92 بالمئة من جرائم ما يسمى "القتل غسلاً للعار" يرتكبها الأزواج أو الآباء أو الأشقاء بدافع "الغيرة والشرف المهدور". وتتركز النسبة الكبرى في صعيد مصر ولاسيما محافظات الوجه القبلي. هذه الأرقام وثّقها الباحث عادل عامر في كتابه "المرأة عبء اجتماعي" الصادر سنة 2021.
ويقرأ الكاتب والطبيب بهي الدين مرسي هذه الظاهرة تحوّلاً جوهرياً في بنية المجتمع الريفي، إذ انتقل معيار "السطوة" من حماية الأرض إلى السيطرة على النساء. ويقول في حديثه مع مجلة الفراتس: "حينما فقدت الأرض مكانتها رمزاً للهيمنة، لم يعد الصراع على ملكيتها مجدياً، فانتقل إلى أجساد النساء، إلى التحكم فيهنّ وقمعهنّ وقتلهنّ". هكذا تتكرّس معادلة جديدة تجعل المرأة مرآةً لخيبات المجتمع، وحائط صدّ يُلقى عليه وزر الأزمات.
وفي الريف لا ينتهي الأمر على التصوير السلبي للنساء. إذ تضيف دراسة صادرة عن كلية الإعلام بجامعة الأزهر سنة 2023 بُعداً أكثر قتامة. إذ رصدت دخول مخدر مميت بمسميات مختلفة "الشابو، الكريستال، والآيس" إلى السوق المصرية بعد سنة 2011. وربط بين انتشارها وارتفاع معدلات الاغتصاب والقتل والانتحار، خصوصاً في صعيد مصر والدلتا. ومع تصاعد الأسعار انتقلت هذه السموم إلى مرحلة التصنيع المحلي، لتضاعف من انهيار منظومة الأمان الاجتماعي.
بيئة الفلاح المصري والتحولات التي شابتها كانت حتماً ستجد صدىً لها في وسائل التمثيل الثقافية، وأهمها السينما والدراما المصرية. فيها تجسّدت هذه الأزمات الاجتماعية في صراع الإنسان مع واقعه، وعكست مأساة الريف بكل قسوتها وتعقيداتها. ولكن في جزء منها، بدت هذه الوسائل إعادة تدوير للتنميط الاستشراقي للفلاح التي رسخها الاستعمار وكرستها الكتابات الغربية كائناً بدائياً عاجزاً عن التفكير خارج حدود الحقل والطمي.
غير أن السينما المصرية في حقبة ما بعد ثورة يوليو 1952، سعَت إلى تفكيك الصورة النمطية الجامدة للفلاح المصري وإعادة الاعتبار للفلاح إنساناً فاعلاً في التاريخ، لا مجرد تابع له. فجاءت كثير من الأفلام محاولةً لرصد واقع ما قبل الثورة وتأكيداً على الطابع السلبي لطبقة الإقطاعيين أثناء فترة الاستعمار أو بسببها، فوُضع الفلاحُ في وسط هذا نموذجاً للشخصية المقهورة والمظلومة.
من هذه الأفلام "صراع في الوادي" سنة 1954 الذي أخرجه يوسف شاهين وكان بطله عمر الشريف بدور أحمد، المهندس الزراعي الذي يعود لقريته ويدخل في صراعات مع "الباشا" (زكي رستم). وفيلم "أرضنا الخضراء" سنة 1956، بطولة شكري سرحان بدور إبراهيم، الذي يواجه "عاكف بك" الإقطاعي الظالم (محمود المليجي) الذي يغتصب أرضه ويحاول اغتصاب زوجته. وليس بعيداً عن هذا السياق فيلم يوسف شاهين "الأرض" سنة 1970، الذي يمثل ملحمة بصرية تمردت على الإرث الاستشراقي، كاشفاً عن فلاحٍ يقاوم السلطة الغاشمة بصلابة الوعي لا بخضوع الغريزة. جسَّد الممثل محمد أبو سويلم روح الجماعة الريفية التي رفضت قرار تقسيم مياه الري لصالح الإقطاعي محمود بك، لتتحول القضية من نزاعٍ على الماء إلى معركة من أجل الكرامة والوجود، وتغدو الأرض رمزاً للهوية وميداناً للمواجهة مع استبداد الدولة والإقطاع.
لكن منذ السبعينيات، عاد الفلاح المصري ليحتل مكانة هشة ونمطية في كثير من الأفلام، وإن ظلت صورة الفلاح الفاعل تاريخياً والمتمرد على الظلم قائمةً. ويوضح أحمد السيد في مقالته "الفلاح في السينما المصرية [. . .]" المنشورة سنة 2014، بأن كثيراً من أفلام تلك الحقبة اكتفت بتقديم الفلاح على أنه مهاجر ساذج يصل للمدينة لينبهر بها وسرعان ما يقع في مفارقات مضحكة. وبرز هذا في أفلام مثل "عنتر شايل سيفه" سنة 1983، من بطولة عادل إمام بدور "عنتر" الفلاح الصعيدي الساذج الذي يُخدع بالسفر إلى إيطاليا بعقد عمل مزور ويخدع مرة أخرى للعمل بالأفلام الإباحية. يعود لقريته ليبدأ صراعاً مع "مدحت" (حاتم ذو الفقار) الغني الذي خطط للاستيلاء على أرضه. مثال آخر هو فيلم "البريء" سنة 1986، الذي أدى فيه أحمد زكي البطولة بدور أحمد سبع الليل، الفلاح الساذج الذي يدخل الجيش ويُغسل دماغه للتنكيل بالسجناء في المعتقل الذي عمل فيه حارساً.
ترى الناقدة الفنية ماجدة خير الله أن الدراما السينمائية المصرية التقطت الواقع بوجهيه الإيجابي والسلبي، لكنها كثيراً ما انزلقت نحو الاستسهال والتنميط. وتوضح في حديثها مع الفراتس أن العمدة غالباً ما يُقدَّم صورةً متكررة لطغيان السلطة في المجتمع الريفي، كما في فيلم "الزوجة الثانية" سنة 1967 للمخرج صلاح أبو سيف. وفي هذا محاكاة دقيقة لما وصفه إدوارد لين عن عُمد القرى الذين يمارسون القسوة بتفويض من السلطة العليا. وتضيف ماجدة خير الله أن صلاح منصور جسّد في شخصية العمدة رمز السلطة المستبدة التي تستولي على حقوق الفلاحين وخيراتهم، بينما قدّمت سعاد حسني نموذج المرأة الفلاحة الحرة التي تتحدى سلطتين متجبرتين، سلطة الذكر وسلطة النظام.
وفي موازاة الأفلام السينمائية تبدو أوجه التنميط للفلاح حاضرة في الدراما التلفزيونية كذلك. يعزو الباحث في علم الاجتماع الريفي صقر النور في حديثه على موقع "المنصة" في يونيو 2021، ذلك إلى جهل كتاب الأعمال بواقع الريف الحقيقي. إذ يرى أن الكثير من الأعمال الدرامية أُخذت عن كتَّاب لم يعيشوا تجربة الريف أو لم يروه قبلاً. لتصبح كلمة فلاح مصطلحاً على كل من هو دون المستوى، "أو شخص ملابسه متسخة، لا يعرف آداب الطعام أو الحديث التي تفرضها المدينة".
أما الناقد الفني رامي المتولي فيرى أن الدراما التلفزيونية لا تزال أسيرة القوالب الجاهزة، إذ تقدم الفلاح إمَّا ساذجاً مطيعاً أو ثائراً بلا وعي. يستخدم المتولي مسلسل "حكيم باشا" (مصطفى شعبان) مثالاً، وهو المسلسل الذي عرض في رمضان سنة 2025، وتتناول قصته رجلاً صعيدياً اسمه "حكيم" يعمل في التنقيب عن الآثار ويصبح كبير العائلة والمتحكم بأمورها، وينتهي لتكاثر الأعداء حوله.
يقول المتولي في حديثه للفراتس: "مسلسل حكيم باشا لا يعبّر عن واقع أهل الصعيد، وهو ما يؤكد استمرار القوالب الدرامية النمطية." ويعلق إن الأعمال التي تتناول حياة أهل الصعيد ما زالت تكرّس صورة الفلاح الغارق في الثأر والحرمان، مع وجود محاولات محدودة مثل مسلسل "طايع" لبطله عمرو يوسف الذي عرض في رمضان سنة 2018، لكسر هذه الصورة وتقديم نماذج أكثر وعياً وتحرراً من أسر الماضي.
واليوم، بعد أكثر من قرن، يتكرر إنتاج النمط. أسلاك تُسرق غنيمةً من "مال الحكومة"، وأسر تُقتل بمبيدات رخيصة، وشباب ينتحرون بحبوب الغلة، ودماء ثأر تسقي الأرض في دوامة لا تنتهي. مشاهد متفرِّقة، إلا أنها تنتمي إلى خيط واحد، خيط الفقر والتهميش وانسحاب الدولة. وإذا كانت الإمبراطورية البريطانية قد صنعت صورتها عن الفلاح بعين المستعمِر، فإنَّ الإعلامَ المصريَّ المعاصرَ لا يزال يراه بالعدسة ذاتها، غوغائي وبدائي ومهووس بالثأر.ألم يئِنِ الأوان أن تُكسر هذه المرآة المشروخة، ويستعيد الريف صورته الحقيقية، بشرٌ مسحوقون تحت أثقال الحرمانِ، لا وحوشاً مجرمة بالفطرَة.

