غيرت كلٌّ من تونس والبحرين والأردن والمغرب ومصر جزءاً من تشريعاتها الجنائية لإقرار قوانين للعقوبات البديلة، مدفوعةً إما بحاجةٍ لتخفيف اكتظاظ السجون وإصلاح منظومة العدالة أو استجابةً لمطالب داخليةٍ بإيجاد عقوباتٍ أكثر إنسانيةً أو إذعاناً لضغوطاتٍ خارجيةٍ تتعلق بمعايير الاحتجاز واحترام حقوق السجناء. غير أن هذا التحول في فلسفة العقاب يصطدم بمدى جاهزية البنية التشريعية والمؤسساتية لتطبيقه. وسط مخاوف من تحول أهدافه في تأهيل المحكومين والحدّ من العودة إلى فتح ثغراتٍ للإفلات من العقاب. وفي خلفية هذا الإصلاح تظهر إشكاليات استعداد المجتمع ومؤسساته لاستيعاب توجّهٍ عقابيٍ جديدٍ يحاول الموازنة بين الردع وجبر الضرر وتحقيق العدالة للضحايا. فيما تُبرز دراساتٌ حديثةٌ الأثرَ الإيجابيَّ لتبنّي هذا النهج على المدانين والمجتمع.
شهدت فلسفة العقوبة تحولاتٍ مهمةٍ خلال العصور الوسطى ارتبطت فيها بالدين والأخلاق. ففي الشريعة الإسلامية، بحسب القاضي والفقيه المصري عبد القادر عودة في كتابه "التشريع الجنائي الإسلامي" الصادر في غير طبعةٍ، تنوعت العقوبة بين الحدود المقدّرة شرعاً لحماية المصالح العليا للمجتمع، والقصاص والدية المتعلقة بحقوق الأفراد في الجنايات على النفس، والتعزيرات التي تُرِك تقديرها للقاضي في الجرائم التي لم يَرِد فيها نصٌ محدّد.
أما الكنيسة في أوروبا فعدّت الجريمة خطيئةً دينيةً ينبغي إعادة مرتكبها إلى الطريق المستقيم بعزله بعيداً عن المجتمع ليتمكن من التوبة من خطيئته. وتجلّت العقوبة في التكفير والحرمان الكنسي، الذي يقضي بتعليق عضوية الشخص أو تقييد حقوقه داخل المجموعة الدينية. انطلاقاً من هذه الفكرة نادى رجال الدين بتطبيق نظام الحبس الانفرادي وتنظيم معاملة المسجونين وتزويدهم بالكتب والسماح لهم بالزيارات، من أجل التأمل والتوبة. وقد أسسوا بذلك فكرة السجن الإصلاحي الحديث، حسب سامية مامنية.
ومع بدء عصر التنوير في أواخر القرن السابع عشر مروراً بالقرن الثامن عشر بدأت عقلنة العقوبة والدعوة إلى نبذ القسوة والتعذيب وتحديد العقوبة بالقانون، وربطها بمبدأ المنفعة والإصلاح. مثلاً دعا الفيلسوف الإيطالي تشيزاري بيكاريا في أطروحةٍ نشرت في كتابه "دي ديليتي إ ديل بيني" (الجرائم والعقوبات) سنة 1764 إلى رفض التعذيب وإلى إلغاء عقوبة الإعدام، واتخاذ السجن وسيلةً للإصلاح لا الانتقام. وأدخل عالِم القانون والفيلسوف البريطاني جيريمي بنتام فكرة المنفعة العامة أساساً للعقوبة، وصمّم سنة 1785 سجن بانوبتيكون، ويعني حرفياً "مراقبة الكلّ"، وهو مبنىً دائريٌ يتوسطه برج مراقبةٍ، ليقوم مقام أداةٍ للضبط والهندسة الاجتماعية. وأسّست هذه المراحل لظهور الفلسفة العقابية الحديثة التي ستتبلور بشكلٍ أوضح في القرن العشرين.
خلال القرن العشرين بدأ تحوّلٌ جذريٌ في الفلسفة العقابية الدولية، وبدا ضرورياً أن يغلب على قانون العقوبات الطابع المرن حتى تحقق العقوبة غرضها وفقاً لمتطلبات العصر. فقد أوصى مؤتمر الأمم المتحدة الثاني لمكافحة الجريمة ومعاملة السجناء، المعقود في لندن سنة 1960، بضرورة الحدّ من عقوبات الحبس القصيرة. وهو التوجه الذي أكده المؤتمر السادس لعلم الإجرام في ميلانو سنة 1985. وانعكس هذا التطور في بعض السياسات الجنائية المبكرة لبعض الدول، مثل تقرير الحكومة السويدية سنة 1981 الذي خلص إلى أن السجن لا يحقق الأهداف الوقائية، ولا يمثل بيئةً مناسبةً للإصلاح. وفي 1990 تبنّت الأمم المتحدة ما بات يُعرف بِاسم "قواعد طوكيو" التي تحتوي على القواعد الدنيا النموذجية لتعزيز استخدام التدابير غير الاحتجازية.
مع دخول الألفية، شهدت الأمم المتحدة ومؤسسات العدالة الجنائية موجةً جديدةً من الإصلاحات عزّزت الانتقال نحو بدائل الحبس. تجلّى ذلك خاصةً في تبنّي الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 2015 مجموعةً من القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء سُمّيَت "قواعد مانديلا". وقد شجعت هذه القواعد الدولَ الأعضاءَ على اللجوء للإجراءات غير سالبةِ الحريةَ بديلاً عن الاحتجاز والحبس الاحتياطي، فضلاً عن تحسين ظروف الاحتجاز. جاء ذلك بالتوازي مع التحولات الاجتماعية والفكرية التي شهدتها المجتمعات، والتي ساهمت بدورها بالدفع تجاه التعامل الإصلاحي مع الجريمة، وإلى تبنّي مقارباتٍ عُدّت أكثر إنسانيةً وعقلانيةً في السياسة العقابية. ظهر ذلك بالعقوبات البديلة مثل العمل المجتمعي والغرامات والبرامج التأهيلية التي تعالج أسبابَ الجريمةِ الكامنةَ لا عوارضَها، وسيلةً لإعادة إدماج المجرم وتخفيف العبء عليه وعلى المجتمع والدولة. وكذلك علاج أضرار الجريمة وتعويض الضحية ومشاركة المجتمع في العملية.
في هذا السياق بدأت عدّة دولٍ عربيةٍ منذ العقد الثاني من الألفية، أبرزها تونس والبحرين والمغرب والأردن ومصر، في إدخال منظوماتٍ تشريعيةٍ حديثةٍ للعقوبات البديلة، كلٌّ وفق متطلباته وبنيته القانونية، وسيلةً لتعزيز العدالة الإصلاحية وإعادة الإدماج الاجتماعي والتأهيل الشخصي، عوض الاقتصار على العقوبة الحبسية للمدانين. وبهذا اعتمدت على بدائل تُراعي ظروفَ المحكومِ الشخصيةَ، مثل حالته الصحية ووضعه الأُسري وتتماشى مع المعايير الدولية الحديثة للعدالة الجنائية.
وعلى ريادة تونس في إدخال العمل للنفع العام في الجزاء العقابي، فإن البحرين كانت الدولة العربية التي وضعت فعلياً أول منظومةٍ للعقوبات البديلة وأطلقت عليها اسم "نظام السجون المفتوحة" سنة 2017 وفقاً للقانون رقم ثمانية عشر وباشرت تنفيذها. أتاح القانون إمكانية تغيير العقوبات السجنية كلياً أو جزئياً لكلّ محكومٍ قضى نصف عقوبته السجنية بإحدى التدابير البديلة، مثل الخدمة الاجتماعية غير المأجورة والإقامة الجبرية المراقَبة والحظر من التواجد في أماكن معيّنةٍ وعدم التعرض لأشخاصٍ محددين والخضوع للمراقبة الإلكترونية والالتحاق ببرامج تأهيلية. وسّعت البحرين نطاق الاستفادة من العقوبات البديلة في 2021 بإلغاء شرط قضاء نصف مدة العقوبة، ما سمح بإدماجٍ أوسع للمحكومين. أُدخلت تعديلاتٌ إضافيةٌ على القانون ثمانية عشر تحت مسمى القانون رقم عشرين سنة 2025. شملت التعديلات حظر استخدام مواقع إلكترونيةٍ من مناطق جغرافيةٍ محددةٍ أو مرتبطةٍ بطبيعة الجريمة المُرتكبة، وأن يلتزم المحكوم بالتواجد في أماكن معيّنةٍ وأوقاتٍ تحددها وزارة الداخلية البحرينية.
صاغ الأردن أيضاً إطاراً قانونياً جديداً عن العقوبات البديلة سنة 2017 وبدأ العمل به رسمياً سنة 2018 لإدراج العمل للمصلحة العامة بديلاً عن الحبس في بعض القضايا الجنحية يحددها القاضي. وسّع الأردن الإطار القانوني للعقوبات البديلة سنة 2025 بتعديلاتٍ إضافيةٍ، فأصبحت شاملةً جميعَ الجنح وبعض الجنايات التي تقلّ عقوبتها عن ثلاثة أعوام. وبات بإمكان القضاة الاستعاضة عن عقوبات السجن بخدمة المجتمع، والالتحاق ببرامج علاجية والمراقبة الإلكترونية أو الإقامة المنزلية الجزئية شرط أن لا يكون المحكوم من ذوي السوابق.
على الجانب الآخر من العالم العربي، دخل المغرب مرحلةً تشريعيةً جديدةً عبر إقرار قانون العقوبات البديلة ودخوله حيز التنفيذ يوم 22 أغسطس 2025، بعد مسارٍ تشريعيٍ دام أكثر من عامٍ داخل البرلمان. قدّمت وزارة العدل هذا المشروع بهدف التخفيف من الاكتظاظ في السجون وتعزيز العدالة الإصلاحية. يسمح القانون بإنزال عقوباتٍ بديلةٍ لعقوبة الحبس في الجنح التي لا تتجاوز أحكامها السجن خمسة أعوام. ومن العقوبات البديلة الشغل من أجل المنفعة العامة والغرامة اليومية والمراقبة الإلكترونية والتدابير التأهيلية ومنها المعالجة أو التكوين (التعليم). لكن القانون يستثني الجرائم الخطيرة مثل الإرهاب والاختلاس والعنف ضد النساء والأطفال والاتجار بالبشر، ويشترط القانون ألا يكون المحكوم من أصحاب السوابق، وأن يراعي القاضي ظروف الجريمة ووضع الجاني قبل منح العقوبة البديلة.
في مصر لا يوجد قانونٌ شاملٌ ومستقلٌ عن العقوبات البديلة، لكن يُنظم هذا النوع من العقوبات عبر المادة الثامنة عشرة من قانون العقوبات. وهي المادة التي تتيح استبدال العقوبة الحبسية التي لا تتجاوز ستة أشهرٍ بعقوبة العمل خارج أقسام الشرطة أو النيابة العامة، وهذا طبقاً للقيود المقررة في المادة 479 من قانون الإجراءات الجنائية، التي تتضمن أحكاماً تتعلق بآلية تنفيذ هذا الاستبدال. وتهدف هذه الإجراءات إلى تخفيف أعباء السجون، وحماية المحكومين في القضايا البسيطة من آثار السجن (لما فيه من مخاطر تأثر المحكومين الجدد بتجارب القدامى من المدانين)، شرط ألا يمسّ الردع القانوني. صادق مجلس النواب المصري على تعديلاتٍ واسعةٍ في قانون الإجراءات الجنائية الجديد ودخلت حيز التنفيذ في نوفمبر 2025، ووسعت هذه التعديلات من نطاق العقوبات البديلة لتشمل تدابير حديثةً مثل المراقبة الإلكترونية.
منطلق الدول الخمسة في إقرار العقوبات البديلة لم يأتِ كلّه بالضرورة استجابةً لحاجاتٍ قانونيةٍ أو اقتصاديةٍ صرفةٍ مثل تطوير المنظومة القضائية وتخفيف الضغط على السجون. إنما سعت هذه الدول أيضاً لتحسين صورتها الحقوقية والاستجابة للضغوط الدولية. من هنا، تداخلت الاعتبارات السياسية والاقتصادية والأمنية في صياغة هذه التشريعات الجديدة.
في تونس جاءت هذه الخطوة في سياق ضغوطٍ حقوقيةٍ متصاعدةٍ بشأن أوضاع السجون. فقد توالت التقارير عن حال السجون في البلاد، أبرزها تقرير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان الصادر سنة 2014، والذي أشار لعدم احترام السجون التونسية لقواعد مانديلا. داخلياً كشف تقريرٌ من الرابطة التونسية لحقوق الإنسان في مايو 2025 عن بلوغ نسب الاكتظاظ في السجون نحو 150 بالمئة من الطاقة الاستيعابية، وتجاوزها 200 بالمئة في بعض المؤسسات. تبلغ الطاقة الاستيعابية للسجون التونسية سبعة عشر ألف سجين. ولكنها وفق تقرير الرابطة الذي يشمل المدة بين سنتَيْ 2022 و2025، احتوت على نحو ثلاثةٍ وثلاثين ألف سجينٍ، ما خلق ظروف احتجازٍ غير إنسانيةٍ، وحوّل السجون إلى بؤر أمراضٍ محتملة.
من جهتها عملت البحرين على تحسين سجلّها الحقوقي والردّ على الانتقادات الدولية بعد حراك 2011، الذي تألّف من احتجاجاتٍ واسعةٍ اندلعت للمطالبة بالإصلاح السياسي والملكية الدستورية وخلّفت كثيراً من الضحايا والمعتقلين. اتجهت حينئذٍ المملكة إلى العقوبات البديلة في إطار سلسلةٍ من الإصلاحات التشريعية مستعينةً ببريطانيا التي قدمت الدعم الفنّي لتحديث نظام العدالة الجنائية. وعُدّ قانون العقوبات البديلة في البحرين أداةً لخلق انفراجةٍ سياسيةٍ وحقوقيةٍ محدودةٍ، خاصةً بعد إطلاق سراح عددٍ من معتقلي الرأي وفق شروطٍ صارمة. من بينهم الناشط نبيل رجب الذي خضع للإقامة الجبرية والمراقبة الإلكترونية وحظر السفر والتصريح الإعلامي إضافةً إلى الخدمة المجتمعية. واستفاد إلى غاية 2025 من قانون العقوبات البديلة في البحرين تسعة آلافٍ وخمسمئة سجين.
أما في الأردن، فقد سبق تبنّي العقوبات البديلة تراكم تقارير داخليةٍ وخارجيةٍ عن أوضاع السجون. راجعت البلاد قانون العقوبات سنة 2017 وأُقرّ العمل للمصلحة العامة بديلاً عن الحبس، قبل أن تتوسع الآليات لاحقاً لتشمل المراقبة الإلكترونية وبرامج العلاج والتأهيل. وجاء القانون الجديد داخلياً للحدّ من الاكتظاظ داخل السجون، وحماية المحكوم عليهم أوّل مرّةٍ من الاحتكاك بالمجرمين الخطيرين ولتجنّب معدلات العَود. وخارجياً لملائمة التشريعات مع المعايير الدولية وتوصيات الأمم المتحدة ومن ضمنها قواعد طوكيو المتعلقة بتقليل الاعتماد على الحبس قصير المدّة.
كذلك ساهمت التوصيات الدولية المتراكمة خلال العقد الأخير في الضغط على المغرب لاعتماد العقوبات البديلة. فمنذ 2012، تلقّى المغرب ملاحظاتٍ متكررةً من مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بضرورة تقليص اللجوء إلى الحبس القصير واعتماد بدائل إصلاحية. وذلك خاصةً بعد توالي التقارير الدولية والداخلية، مثل التقرير المشترك بين الهيئة المغربية لحقوق الإنسان ومؤسسة القاهرة لدراسات حقوق الإنسان الصادر سنة 2011 وتقرير مركز دراسات حقوق الإنسان والديمقراطية لسنتَيْ 2016-2020، التي انتقدت الاكتظاظ المزمن في السجون المغربية وهو من الأعلى في المنطقة. ومن جهته دعم الاتحاد الأوروبي إصلاح المنظومة الجنائية في المغرب وتطوير بدائل السجن من خلال برامج تقنيةٍ وتقييماتٍ حقوقيةٍ وشراكاتٍ في مجال العدالة بالإضافة إلى توصيات. وأوصى مجلس أوروبا في 2025 المغرب باعتماد عقوباتٍ بديلةٍ لتفادي الآثار السلبية للحبس قصير المدة.
جاء اعتماد مصر العقوباتِ البديلةَ ضمن مسارٍ سياسيٍ أوسع لتحديث المنظومة الحقوقية والقضائية، خاصةً بعد إطلاق الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان سنة 2021، التي وضعت إصلاح السياسة العقابية أحدَ محاورها الأساس. وقد سعت الحكومة من خلال إدراج بدائل للحبس إلى تخفيف الاكتظاظ داخل السجون والحدّ من آثار العقوبة سالبةِ الحريةَ على المحكومين في القضايا البسيطة. وجاء هذا التوجّه أيضاً في سياق رغبة القاهرة في تحسين صورتها الدولية بعد أعوامٍ من الانتقادات بخصوص طول مدّة الحبس الاحتياطي وسوء ظروف الاحتجاز. وحرصت النيابة العامة خلال الأعوام الأخيرة على إبراز هذه البدائل بوصفها خطوةً إصلاحيةً تتماشى مع المعايير الدولية، إذ أعلنت في 2024 أوّل مرّةٍ عن تشغيل محكومين في أعمال خدمةٍ عامةٍ بدلاً عن حبسهم.
وعلى تداخل الدوافع الاقتصادية والسياسية والأمنية في صياغة تشريعات العقاب البديل، فإن الدلائل المتراكمة ما تزال تشير إلى فاعليتها في إعادة التأهيل وما يحمله ذلك من فائدةٍ للمُدان وللمجتمع.
وُجد للعقوبات البديلة تأثيرٌ إيجابيٌّ في المدمنين أيضاً. فقد كشفت مراجعةٌ منهجيةٌ صادرةٌ عن المركز الأوروبي لرصد المخدرات صادرةٌ سنة 2023 أن تحليلاً خضع له ثلاثةٌ وعشرون شخصاً أكّد أن برامج العلاج البديلة للسجن أكثر فاعليةً من العقوبات القصيرة في تقليل استخدام المواد المخدرة والحدّ من العَود للجريمة.
وكشف تقييمٌ أجرته الحكومة الفنلندية سنة 2024 أن برنامج العلاج التعاقدي للمدمنين، الذي يُعتمد بديلاً للسجن، أدّى إلى خفضٍ بيّنٍ في تعاطي المخدرات والمشكلات النفسية لدى المستفيدين، مقارنةً بالمحكومين الذين يقضون عقوباتٍ داخل السجون أو تحت المراقبة التقليدية.
عربياً ما زالت تجربة العقوبات البديلة في بدايتها، ويبدو أن ثمّة فروقاتٍ بين الدول الخمسة في توثيق أثر هذه العقوبات كمّياً. لكن بالمجمل، وإن لم تكن الصورة مكتملةً، بدأت تظهر نتائج إيجابيةٌ للعقوبات البديلة على نسب العَود إلى الجريمة، أو على الأقلّ تجاه الفائدة الاقتصادية للدولة.
مثلاً سجّلت البحرين سنة 2025 تراجعاً نسبته 2.5بالمئة في العَود للجريمة، منذ بداية العمل بنظام السجون المفتوحة. وكشف الشيخ خالد بن راشد آل خليفة، مدير الإدارة العامة لتنفيذ الأحكام والعقوبات البديلة في وزارة الداخلية البحرينية، أن ثمّة متابعةً لاحقةً للمستفيدين من العقوبات البديلة ودعم نجاحات المستفيدين أثناء تنفيذ العقوبات البديلة وبعدها. وفي الأردن في 2 ديسمبر 2025 أعلن وزير العدل بسام التلهوني أن لتطبيق العقوبات البديلة في المملكة أثراً إيجابياً على المحكوم وأسرته وتسهيل إدماجه بالمجتمع ومنع حالات العَود الجرمي والعدوى الجرمية.
أما في تونس، فلا تتوفر دراساتٌ وافيةٌ عن نسب العَود للسجن ضمن إطار العقوبات البديلة في مقابل القوانين العقابية التقليدية، لكن الأثر الإيجابي يبدو جليّاً على خزينة الدولة. فقد أكّد محمد بخوش، المشرف بمكتب المصاحبة بمدنين، أن العقوبات غير سالبة الحرية وفّرت على خزينة الدولة في السنة القضائية 2024-2025 ما قوامه 2.8 مليون دينار تونسي (تقريباً تسعمئة وخمسين ألف دولار أمريكي). الأثر الاقتصادي الإيجابي ربما يمكن استنتاجه أيضاً في مصر، التي أملت بتبنّي العقوبات البديلة التقليل من ازدحام السجون وما يقتضيه ذلك من تقليل الإنفاق من خزينة الدولة، وإعادة تأهيل الجناة ودمجهم في المجتمع فاعلين ضمن عجلته الاقتصادية.
وعلى أن تجربة المغرب فتيّةٌ إلا أن الأثر الإيجابي للعقوبات البديلة بدا مبشّراً. فقد كشف محمد عبد النباوي، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، انخفاض نسبة العَود إلى الإجرام بين الذين خضعوا لعقوباتٍ بديلةٍ مقارنةً مع الذين نفذوا عقوباتٍ سالبةٍ الحريةَ. هذا في حين ما زالت منظماتٌ حقوقيةٌ في تونس تضغط لتوفير سبل تنفيذ آلياتٍ عقابيةٍ بديلةٍ عن السجن. وقال بسام الطريفي، رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، في نوفمبر 2025 إن التوجه نحو العقوبات البديلة والعقوبات غير سالبة الحرية يجب أن يكون أولويةً وطنية.
في حديث مع الفِراتْس، يقول شعيب لمسهل، المحامي بهيئة الدار البيضاء ورئيس المركز المغربي والوعي القانوني، إن تحويل بعض العقوبات إلى أداءٍ ماليٍّ أو بدائل غير سجنيةٍ هو خيارٌ إصلاحيٌ إيجابيٌ، لكنه يتطلب وقتاً وجهداً لتطوير آليات التطبيق بين مختلف القطاعات الاجتماعية. ويسهب بأن "المراقبة، واعتماد السوار الإلكتروني [الذي يوضع على قدم المتهم أو يده لمراقبة حركته]، وتكوين الموارد البشرية كلها أوراشٌ تحتاج إلى إمكاناتٍ ماليةٍ وإسناديةٍ مهمّة. والزمن وحده سيكشف التحديات التي ستواجه التجربة. لكن تطوير الإطار التشريعي وتعزيز قدرات الأجهزة الأمنية ومنظمات المجتمع المدني كفيلان بإنجاح اعتماد العقوبات البديلة في العالم العربي".
يضيف لمسهل أن "العقوبات البديلة ليست ابتكاراً محلياً، بل نهجاً اعتمدته دولٌ كثيرةٌ قبل المغرب، ولا يمسّ حقوق الضحايا. فهذه البدائل لا تُطبّق على الجرائم الجنائية الخطيرة، بل على المخالفات والجنح التي تقلّ عقوبتها عن خمس سنواتٍ، مثل قضايا الشيكات بلا رصيد. إذ يمكن تنفيذ العقوبة بطريقةٍ مختلفةٍ مع ضمان التعويض المادي للضحايا". برأيه ينبغي أن نفهم أن "الجاني لا يفلت من العقاب، بل يقضيه وفق صيغةٍ أكثر نفعاً للمجتمع وأقلّ عبئاً على السجون. أمّا أصحاب السوابق والماضي الإجرامي الثقيل، فهذه الآليات لا تصلح لتدبير ملفاتهم".

