دستورٌ بلا مؤسساتٍ وجمهوريةٌ دون رقابةٍ.. كيف انتهى عمل المؤسسات الدستورية في تونس

اصطدمت المؤسسات الدستورية في تونس بعد الثورة بعراقيل سياسيةٍ وقانونيةٍ عطّلت دورها، فانتهى بعضها إلى الحلّ أو التجميد، ولا محكمة دستوريةً لتحميَها.

Share
دستورٌ بلا مؤسساتٍ وجمهوريةٌ دون رقابةٍ.. كيف انتهى عمل المؤسسات الدستورية في تونس
انهار حلم الثورة في الحفاظ على المسار الديمقراطي بهيئات دستورية مستقلة | خدمة غيتي للصور

بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي في أعقاب ثورة 14 يناير 2011، أمل التونسيون في بناء دولةٍ جديدةٍ تُرسّخ مبادئ الثورة وتؤسّس لحكمٍ يقوم على الفصل بين السلطات والرقابة المتبادلة. ومع صدور دستور 2014، كُرِّس هذا المسار بإحداث منظومةٍ من الهيئات الدستورية المستقلة.
عُرفت هذه الهيئات وفقاً للفصل 125 من الدستور بأنها شخصياتٌ معنويةٌ تتمتع بالاستقلالية الإدارية والمالية، ينتخبها البرلمان وإليه تُرفع تقارير سنويةٌ عن أنشطتها. وكان من أهمها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري، وهيئة حقوق الإنسان، وهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة. شكّلت هذه الهيئات في تونس ما بعد الثورة ما يمكن وصفه نظرياً بأنه سلطةٌ رابعةٌ تُوازِن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتُعنى بمراقبة الدولة في مجالاتٍ حيويةٍ كالانتخابات والإعلام ومكافحة الفساد، وحماية الحقوق والحريات، وتعزيز الحوكمة.
وفيما بدت الهيئات الدستورية المستقلة إحدى أهمّ لَبِنات التجربة الديمقراطية التي بشّر بها دستور 2014، إلا أن هذا الطموح سرعان ما تعثّر بسبب التجاذبات السياسية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، والصراع الحزبي، وتداخل الصلاحيات القانونية. لكنه تلقّى ضربته الأقوى بعد 25 يوليو 2021، حين أعلن الرئيس قيس سعيّد تفرّده بالسلطة عبر تدابير استثنائية. جُمّد نشاط بعض الهيئات وحُلّ البعض الآخر، فيما واصلت هيئاتٌ محدودةٌ عملها وسط تضييقٍ متزايد. بينما لم تُرَسَّ حتى اليوم المحكمة الدستورية التي نصّ عليها دستور 2022 أيضاً، والتي يُفترض أن تحلّ الخلاف.


بعد سقوط نظام بن علي في يناير 2011، وجدت تونس نفسها في فراغٍ مؤسساتيٍّ وحاجةٍ ملحّةٍ لتنظيم المرحلة الانتقالية والتمهيد لبناء الديمقراطية على أنقاض الاستبداد. حينها، برزت مجموعةٌ من مبادرات المجتمع المدني لمراقبة الحكومة الانتقالية التي ترأّسها محمد الغنوشي في 17 يناير 2017، المكونة من وزراء سابقين ووجوهٍ جديدةٍ من المعارضة والمهنيين، ومنعها من الالتفاف على الثورة وحماية مكاسبها.
من هذه المبادرات "لجنة حماية الثورة" التي شكّلها نشطاء لحماية مبادئ الثورة التونسية، و"لجنة الإصلاح السياسي" التي شكّلها الغنوشي بنفسه بعد ثلاثة أيامٍ من سقوط بن علي، وترأّسها أستاذ القانون العامّ والفقيه الدستوري عياض بن عاشور. دُمجت اللجنتان باقتراحٍ من بن عاشور، فتأسست "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" في 15 مارس 2011. ضمّت هذه الهيئة أفراداً من كلّ الأحزاب السياسية، ونقابيين، وشخصيات مجتمعٍ مدنيٍ، ورجال أعمال. وفي 13 أكتوبر 2011، أي قبل عشرة أيامٍ من إجراء أول انتخاباتٍ بعد الثورة، أنهت الهيئة أعمالها لتفسح المجال للمجلس التأسيسي، أول برلمانٍ بعد الثورة، والذي تولّى مهمة صياغة الدستور الجديد.
قبل إنهاء عملها، كانت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة قد أشرفت على تأسيس "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" في 18 أبريل 2011، برئاسة الحقوقي كمال الجنذوبي. وبهذا، كانت أوّلَ هيئةٍ تشرف على الانتخابات بعد سقوط بن علي، بدلاً من وزارة الداخلية التي كانت تنظم الانتخابات منذ استقلال تونس في 1956. وبالإضافة إلى انتخابات المجلس التأسيسي، أُنِيطَ بالهيئة لاحقاً الإشراف على الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنتَيْ 2014 و2019، والانتخابات البلدية لسنة 2018، وهو ما جعلها أحد أعمدة المسار الديمقراطي في تونس.
أدّت الهيئة العليا للانتخابات دوراً مهماً في مراقبة نزاهة العملية الانتخابية وشفافيتها ومراقبة إجراءاتها التنظيمية، بما يشمل تسجيل الناخبين والإشراف على الحملات والتأكد من الالتزام بالقوانين الانتخابية. كذلك منعت ترشُّح كلّ شخصٍ تحمَّل المسؤولية في حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم خلال الأعوام العشرة الأخيرة قبل الثورة، أو تورَّط في مناشدة الرئيس السابق زين العابدين بن علي الترشحَ لولايةٍ رئاسيةٍ جديدة. استمرت الهيئة في عملها لغاية أبريل 2022. حينها، عدّل الرئيس قيس سعيّد القانونَ المنظِّمَ لها وعيّن تركيبةً جديدةً بمرسومٍ رئاسي.
وفي إطار مواصلة مسار الانتقال الديمقراطي في تونس، أُحدثت "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد" في 14 نوفمبر 2011، لتخلف "لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد" التي تأسست في 18 فبراير 2011 للتحقيق في ملفات الفساد خلال مدّة حكم الرئيس بن علي. قدّمت هيئة مكافحة الفساد، منذ تأسيسها، تقارير سنويةً عن ملفات الفساد والإثراء غير المشروع. وخلال الجزء الأول من سنة 2020، قدّمت مئةً واثني عشر ملفّ فسادٍ أمام المحاكم. كذلك، أنشأت الهيئة "راديو نزاهة" لنشر ثقافة الشفافية وتنفيذ مشروع "أغيلا" لتحسين الحوكمة ومكافحة الفساد، بدعمٍ أوروبيٍّ، إلى جانب تنظيم ندواتٍ توعوية.
وعلى المسار الديمقراطي ذاته، وفي قلبه الإعلام وحرية التعبير، تأسست "الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي البصري" في الثاني من نوفمبر سنة 2011 بديلاً عن "الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال" التي أنشأتها الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة في مارس ذلك العام وترأّسها الناشط الحقوقي كمال العبيدي.
بدأت الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري عملها رسمياً في 2013، وقد كان الهدف منها إعداد أرضيةٍ قانونيةٍ لتنظيم قطاع الإعلام، أول هيئةٍ تعديليةٍ مستقلةٍ في تاريخ تونس الحديث. ضمّت الهيئة في عضويتها شخصياتٍ بارزةً من الوسط الإعلامي والقانوني والأكاديمي، وأدّت دوراً تأسيسياً في رسم ملامح المشهد الإعلامي الجديد في تونس ساعيةً لضمان حرية التعبير والتعددية واستقلالية المؤسسات الإعلامية. وترأّسها منذ إنشائها النوري اللجمي، الذي أحيل على التقاعد في فبراير 2023 بطلبٍ منه، دون تعيين خلفٍ له.
وللقطع أكثر مع الممارسات المستبدة والقمعية، أنشأ المجلس التأسيسي التونسي 2011 هيئةً رابعةً تحت مسمّى "هيئة حقوق الإنسان"، وقد تحوّلت إلى هيئةٍ دستوريةٍ بموجب دستور 2014، ضمن الباب السادس المتعلق بالهيئات الدستورية المستقلة. أُرسِيَت الهيئة بموجب قانونٍ أساسيٍ عدد 51 لسنة 2018 مؤرخٍ في 19 أكتوبر. وكان يفترَض أن تقترح هذه الهيئة ما تراه مناسباً لتطوير منظومة حقوق الإنسان، وتُستشار وجوباً في وضع القوانين المتعلقة بمجال اختصاصها. ورغم صدور القانون المنظِّم لها، فإنّ الهيئة لم تباشر أعمالها فعلياً بعد، إذ لم يعيِّن البرلمان أعضاءها نهائياً ولم يوفِّر مقرّاً لها ولا وَضَعَ إطارها الإداري والمالي حتى الآن.
الهيئة الخامسة هي "هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة"، وأنشئت بموجب القانون الأساسي عدد 60 لسنة 2019 المؤرخ في التاسع من يوليو لسنة 2019. تهدف الهيئة إلى إدماج مبادئ التنمية المستدامة في السياسات العمومية، وضمان حقّ الأجيال القادمة في بيئةٍ سليمةٍ وموارد طبيعيةٍ متجدّدةٍ، وعدالةٍ بيئيةٍ واقتصاديةٍ بين الفئات والمناطق. وسُجّلت الهيئة كياناً دستورياً مستقلاً بتاريخ 21 نوفمبر 2020 ضمن قاعدة بيانات مجلس النواب التونسي، غير أنّ تفعيلها العملي ظلّ محدوداً بسبب تأخّر تسمية أعضائها وتخصيص موارد ماليةٍ وبشريةٍ كافيةٍ حتى الآن. وفي حين أن هيئتَي التنمية المستدامة وحقوق الإنسان لم تستوفيا عملهما أصلاً، دخلت الهيئات الثلاث الأخرى في مرحلة ما بعد دستور 2014 في نفق الانتكاسة.


أَقرّ دستور 2014 مدنية الدولة القائمة على مبدأ المواطنة، ونصّ على الإسلام ديناً رسمياً للجمهورية التونسية. كذلك كفل رزمةً من الحقوق والحريات مثل المساواة أمام القانون، والحق في الحياة، وحرية التعبير والتجمع، والحق في النفاذ للمعلومات، والحق في الرعاية الصحية.
غير أن هذا الدستور الذي بشّر بمرحلةٍ جديدةٍ من المؤسسات الدستورية المستقلة ضمانةً للديمقراطية والفصل بين السلطات، واجهت هيئاتُه — التي ظلّت عاملةً — تآكلاً تدريجياً في استقلاليتها وصلاحياتها. فقد أدّت الخلافات السياسية داخل البرلمان من جهةٍ، والأزمة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية من جهةٍ أخرى، إلى تعطيل تعيين أعضاء الهيئة الدائمين وعدم استكمال القوانين المنظِّمة لعمل الهيئة، وهو ما أضعف دورها الرقابي. ومن دستور 2014 وإلى غاية الإجراءات الاستثنائية التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيّد في 25 يوليو 2021 (ضمّت حلّ الحكومة والبرلمان وإصدار قوانين وفق مراسيم رئاسية)، ثم تغيير ترسيم الدستور الجديد في 2022، مرّت الهيئات الدستورية في تونس بمسارٍ طويلٍ من الإضعاف البنيوي والسياسي.
على المستوى البنيوي، تحكمت وزارة المالية والسلطة التشريعية، ممثلةً بالبرلمان، بموارد هذه الهيئات وصرف الإعتمادات التي تضمن لها الاستقلالية المنصوص عليها في الدستور. بالإضافة إلى ذلك ساهم إلغاء "وزارة العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان" في إفقاد الهيئات دعمَها الإداريَّ والفنّي. وسياسياً، تسبّبت الصراعات الحزبية في تعطيل عمل الهيئات، كالصراع بين حزب النهضة ونداء تونس على الأسماء المرشحة للحصول على المناصب داخل الهيئات، ما أدى إلى قطيعةٍ بين الحزبين الحليفين بداية 2018. فتاريخياً، ساد الخلاف العقدي بين حركة النهضة ذات التوجه الإسلامي ونداء تونس العلماني، ما جعل التحالفات بينهما هشّةً ومتقلّبة.
تمخضت هذه التجاذبات عن إغراق هيئة الانتخابات في سلسلةٍ من الأزمات. ففي مايو 2017 استقال رئيس الهيئة شفيق صرصار مع نائبه وعضوٍ آخر، بسبب ما عَدُّوه تجاوزاً لصلاحيات الهيئة وتفرداً بالقرارات المتعلقة بالرزنامة النهائية للانتخابات البلدية (قائمة المرشحين النهائية)، قبل سبعة أشهرٍ من إجراء هذه الانتخابات. أدّى ذلك إلى شغور رئاسة هيئة الانتخابات بعد أربع دوراتٍ انتخابيةٍ فاشلةٍ نتيجة عدم اكتمال نصاب التصويت، تخلّلتها صراعاتٌ حزبيةٌ داخل البرلمان. فكلُّ حزبٍ كان يرشِّح اسماً مقرباً منه للمنصب. تلا ذلك انتخاب محمد التليلي المنصري رئيساً للهيئة، والذي قدّم استقالته مطلع يوليو 2018. وقد سبق ذلك قرارٌ من مجلس الهيئة بإقالته على أرضية تفرّده بالقرارات وصعوبة تواصل أعضاء الهيئة معه. في بداية فبراير سنة 2019، انتُخب نبيل بفون رئيساً للهيئة، ولكنه أُقيل بأمرٍ رئاسيٍّ من قيس سعيّد في مايو 2022.
تصاعدت الأزمات خلال الانتخابات التشريعية في خريف 2019. اتهمت عدّة أحزابٍ، أبرزها النهضة وقلب تونس، الهيئةَ العليا للانتخابات بتجاوز الصلاحيات بشأن مراقبة تمويل الحملات الانتخابية والإشهار السياسي. وطعنت هذه الأحزاب في قرارات الهيئة القاضية بإحالة ملفات عدّة مرشحين إلى النيابة العمومية بسبب تجاوزاتٍ مالية. هذا بالإضافة إلى تسجيل الحزبين ممارساتٍ للهيئة أثناء عملية الاقتراع، عدّاها مسّاً بنزاهة هذه العملية. وقد شملت التجاوزات أعمال عنفٍ ضدّ المنافسين، وعدم الالتزام بالصمت الانتخابي.
لم تنتهِ أزمات الهيئة العليا للانتخابات بانتهاء انتخابات 2019، بل ظلّت تتوسع بعد الإجراءات الاستثنائية التي أصدرها الرئيس قيس سعيّد في يوليو 2021. وتعمّقت مع إصدار الرئيس في سبتمبر 2022 المرسوم رقم 55 المتعلّق بتعديل القانون الانتخابي، بما يشمل تعديل القانون الأساسي للهيئة العليا للانتخابات. فعلى عكس النسخة الأولى من الهيئة، التي كان ينتخب البرلمان أعضاءها، قرّر الرئيس — حسب المرسوم الجديد — أن يعيِّن الأعضاء بأمرٍ رئاسي. وهو الذي عدّته الهيئة "غير دستوري وينسف استقلاليتها".
خلق هذا المرسوم جدلاً. فقد قال عادل البرينصي، العضو السابق في هيئة الانتخابات، في حديثٍ مع موقع سبوتنيك بأنه "تحوير على مسار الهيئة وتحويلها من هيئةٍ مستقلةٍ تُنتخَب من أكبر طيفٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ إلى هيئةٍ معيَّنةٍ من قِبل شخصٍ واحد". وقد أضاف البرينصي بأن التعديل يطرح إشكالياتٍ متعلقةٍ بالاستقلالية وحتى بالتشكيك في نزاهة الانتخابات المقبلة، "لأن التجربة أثبتت أن ولاء الشخص المعيَّن يكون للجهة التي عيَّنته".
أيضاً بموجب المرسوم الجديد، قلّص قيس سعيّد أعضاء الهيئة إلى سبعةٍ، عوض تسعة. وفي 26 أبريل 2022، اختار الرئيس بنفسه تركيبةً جديدةً يترأسها فاروق بوعسكر، الذي شغل منصب نائب رئيس هيئة الانتخابات القديمة. أثار هذا القرار لغطاً في تونس وخارجها، وقالت منظمة هيومن رايتس ووتش إنه "يُقوّض استقلالية الهيئة الانتخابية ويضعها تحت سلطة الرئيس مباشرة".


ومن هيئة الانتخابات للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، فالأمور لم تكن أفضل حالاً. فقد عرفت هذه الهيئة منذ تأسيسها سلسلة أزماتٍ أضعفت استقلاليتها وقدرتها على ممارسة مهامها بفعالية.
واجهت هيئة مكافحة الفساد صعوباتٍ متكرّرةً في إحالة ملفاتها إلى القضاء. فبحسب تقريرها لسنة 2018 والمنشور سنة 2019، أحالت الهيئة 205 ملفّات فسادٍ إلى القضاء. لكن رئيسها آنذاك، شوقي الطبيب، أكّد أن عدد الملفات الواردة من الوزارات تَراجَع من 386 سنة 2017 إلى 85 فقط سنة 2018، نتيجة الضغوط السياسية وتباطؤ الإدارات. كشفت الهيئة كذلك أنها أنهت معالجة 78 ملفّ تضارب مصالح، غير أن 6 ملفاتٍ منها فقط أحيلت فعلياً إلى القضاء.
وتُجمِع تقارير قانونيةٌ مستقلّةٌ، من بينها "المفكرة القانونية"، وهي مؤسسةٌ غير ربحيةٍ للبحوث والمناصرة مقرّها بيروت، على أنّ غياب الإرادة السياسية والفراغ التشريعي بعد 2011 ساهما في شلّ دور الهيئة وتعطيل جهودها في مكافحة الفساد. وذلك رغم تراكم أدلّة الفساد في قطاعاتٍ حيويةٍ مثل الصحة والبلديات والتعليم، بل وحتى الأمن والدفاع، وفقاً لتقريرٍ لمنظمة الشفافية الدولية لسنة 2015. وهو ما انعكس على الأرض تدنّياً في ثقة الجمهور بهذه المؤسسات. فقد وجد مثلاً استطلاعٌ للرأي سنة 2017 أن 53 بالمئة من التونسيين يثقون بالشرطة، و61 بالمئة منهم يثقون بالحرس الوطني.
منذ تولّيه السلطة، تعامل قيس سعيّد مع الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بأسلوبٍ جدليٍّ أدّى في النهاية إلى إغلاقها. فبعد أيامٍ من إعلانه الإجراءات الاستثنائية وتجميد البرلمان، علّق نشاط الهيئة وفرض رقابةً أمنيةً على مقرّها. وفي 20 أغسطس 2021 أصدر قراراً يقضي بإغلاق مكاتبها ومصادرة أرشيفها وملفاتها الحسّاسة، بدعوى "التصدي لشبهات الفساد داخلها". طردت قوات الأمن الموظفين ومنعتهم من دخول المقرّ، في حين أقيل رئيسها السابق شوقي الطبيب، الذي شغل المنصب منذ 2016، دون انتظار رأي البرلمان أو استشارة مجلس الهيئة كما يقتضي القانون الأساسي المنظم للهيئة. وُضع الطبيب بعدها تحت الإقامة الجبرية مؤقتاً دون قرارٍ قضائيّ.
أكد الطبيب في تصريحاته بعد الإقالة أن المعركة ضد الفساد تتجاوز شخصه، وأنه لا يخشى أيّ تهديدات. وقد نوّه إلى أن القرار جاء بعد تعهّد الهيئة بمتابعة ملف شبهة تضارب مصالح يتعلق برئيس حكومة تصريف الأعمال إلياس الفخفاخ آنذاك.


ومثل هيئتَي الانتخابات ومكافحة الفساد، واجهت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري منذ بداياتها عراقيل ساهمت في تقويض مهامها. إذ فشل البرلمان في عهدتَيه الأولى بين سنتَي 2014 و2019 والثانية بين سنتَي 2019 و2021 في التصديق على القانون المنظِّم لها طبقاً لدستور 2014. وهذا ما أسهم في تهميش الهيئة وعدم انتخاب أعضائها الدائمين، وجعلها تمارس مهامها بالاستناد إلى المرسوم التأسيسي دون قانونٍ وبالأعضاء نفسهم الذين انتُخِبوا عند التأسيس.
وفي مايو 2020، تقدّم ائتلاف الكرامة (تحالفٌ سياسيٌ تأسس سنة 2019) بمقترح تنقيح المرسوم 116 لسنة 2011 المنظِّم لعمل الإعلام السمعي البصري. استهدف المشروع تعديلَ تركيبة الهيئة وتقليصَ صلاحياتها بجعل تعيين أعضائها من صلاحيات البرلمان، بدل التعيين المشترك بين الحكومة ورئاسة الجمهورية. هذا بالإضافة إلى تغيير آليّة إسناد تراخيص البث لتصبح من اختصاص "هيئة تعديلية جديدة" أو الحكومة مباشرة. واجه المقترح رفضاً واسعاً من الهيئة نفسها ونقابة الصحفيين والمنظمات الحقوقية التي عدّته تقويضاً لاستقلال الهيئة وتهديداً لحرية الإعلام.
لم ينتهِ الأمر عند ذلك. فمنذ 2021، تراجع دور الهيئة أمام تجاوزات الإعلام العمومي وانحيازه للسلطة. مثالٌ ذلك عندما عجزت عن مواجهة خرق قيس سعيّد الصمتَ الانتخابيَّ خلال الاستفتاء على الدستور الجديد. ففي فترة الصمت الانتخابي، بثّت القناتان الأولى والثانية حواراً مع سعيّد جاوزت مدّته ربع الساعة تطرّق فيه لمشروع الدستور الذي يجري الاستفتاء عليه. وكذلك أسندت المهام الرقابية على التغطية الإعلامية لانتخابات 2024 إلى هيئة الانتخابات التي عيَّن أعضاءها الرئيس. وقد مارست ضغوطاً على الصحفيين، مثل سحب اعتماد الصحفية خولة بوكريم رئيسة تحرير موقع "نوميديا" لتغطية الانتخابات الرئاسية، مبرّرةً القرار بأن تغطيتها لم تكن موضوعية.
ولم تجد تقارير الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري عن التغطية الإعلامية غير المتوازنة خلال الحملات الانتخابية آذاناً صاغيةً في البرلمان أو الحكومة، على غرار تقريرٍ عن نسبة المدة الزمنية المخصصة للتعددية السياسية في القنوات التلفزيونية والإذاعية.
كذلك أثّر غياب الرقابة المباشرة بشكلٍ ملموسٍ على مؤشرات الشفافية ومكافحة الفساد بتعطيل هيئة النفاذ إلى المعلومة، التي تأسست سنة 2016 تلبيةً لمطالب الشفافية بعد الثورة، وأصبح الوصول إلى بيانات مؤسسات الدولة أصعب من قبل. كذلك تقلّصت قدرة الصحافة والصحفيين على متابعة الأداء الحكومي وعادت الملفات المالية والإدارية إلى دائرة التعتيم.
تعليقاً على هذا، يقول نقيب الصحفيين التونسيين زياد دبار في حديثٍ مع مجلة الفراتس إن "الصحفيين في تونس يعيشون أوضاعاً صعبةً في ظلّ غياب سياسةٍ عموميةٍ واضحةٍ للإعلام، واتجاه السلطة لتحويل الإعلام العمومي إلى حكومي. وفي ظلّ تغييب دور الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري عبر توقيف ميزانيتها برسالةٍ من الحكومة لعضو الهيئة هشام السنوسي". ويضيف أن عدم انتخاب رئيسٍ جديدٍ ساهم في انتشار الفوضى في المشهد الإعلامي، في حين أصبح المرسوم 54، النص القانوني الذي وضعه قيس سعيّد من أجل "مكافحة المعلومات والشائعات الكاذبة على الإنترنت"، سيفاً مسلطاً على رقاب الصحفيين.
وأشار دبار إلى أنه، بجانب تجميد هيئة الإعلام السمعي البصري، فاقم إغلاق هيئة النفاذ للمعلومة من انتشار التضليل وغياب الشفافية وصعّب على الصحفيين والإعلاميين مهامهم. لذا أصبح شبه مستحيلٍ الحصول على تصريحٍ من مسؤولٍ رسميٍّ، وأصبحت المؤسسات الإعلامية تتهرب من إنجاز التحقيقات الصحفية بسبب الوضع والهشاشة الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها الصحفيون.
يقول للفراتس أيمن علوي، النائب البرلماني السابق عن الجبهة الشعبية في برلمانَي 2014 و2019، إن السقف الثوري كان مرتفعاً وكانت الإرادة تتجه نحو تأسيس سلطةٍ مضادةٍ لأجهزة الدولة، ومنح الهيئات الدستورية قدراً من الاستقلالية. فضلاً عن دعم الديمقراطية بفصل السلطات وإنشاء مؤسساتٍ دستوريةٍ مستقلةٍ تضطلع بدورها الرقابيّ والتنظيميّ بفعالية. لكن الواقع كان مغايراً. فالصراع كان حاضراً بين التيارات الدستورية التقليدية التي لم تعتدْ مشاركة السلطة، وبين الأغلبية في البرلمان التي حوّلت هذه الهيئات إلى ملحقاتٍ حزبيةٍ بدلاً من سلطاتٍ رقابيةٍ حقيقية. وكان كلّ طلبٍ لتفعيل صلاحيات هذه الهيئات، حسب علوي، "يواجَه بتعليلاتٍ مثل فكرة خلق دولةٍ داخل الدولة، لذلك ظلّت فكرة الاستقلالية غير واضحة".
ويرى علوي أنه خلال عشرة أعوامٍ من الصراع، برزت إرادتان متناقضتان. واحدةٌ أرادت هيئاتٍ تضمن الحق في بيئةٍ سليمةٍ، تكريساً لحقوق الأجيال القادمة، وهيئة انتخاباتٍ مستقلةً تكفل التعددية والديمقراطية، وهيئة حقوق إنسانٍ تمنع العودة إلى انتهاك الحقوق العامة والفردية. مقابل سلطةٍ أخرى مدججةٍ بالمؤامرات والهيمنة على السلطة التنفيذية والأغلبية البرلمانية. مما جعل العملية الديمقراطية تواجه خطر الموت البطيء، أو كما قال علوي: "وكان الانقضاض على الهيئات الدستورية ممهداً بما أن السلطة الحالية لا تعترف بوجود سلطةٍ مضادةٍ خارج نطاق السلطة التنفيذية".
لم تفلح هيئات الانتخابات، أو محاربة الفساد، أو الهيئة العليا للسمعي البصري، في تفعيل صلاحياتها أو الدعوة إلى حوارٍ وطنيٍّ عن الأزمة الدستورية، لاسيما التي خلّفتها الإجراءات الاستثنائية. ولكنّ ما زاد الطين بلّةً هو غياب المحكمة الدستورية للبتّ في هذه الإشكاليات.


كانت المحكمة الدستورية الحلقةَ المفقودةَ في منظومة الهيئات المستقلة بتونس، إذ نصّ عليها دستور 2014 أعلى هيئةٍ قضائيةٍ تُعنى بمراقبةِ دستوريةِ القوانين وتفسير الدستور والفصل في النزاعات بين السلطات. غير أنها لم تُرَسَّ بعد، رغم مرور أكثر من عقدٍ على الثورة. هذا الفراغ الدستوري أضعف المنظومة الرقابية وجعل الهيئات الأخرى عاجزةً عن مواجهة القرارات الاستثنائية، وهو ما استغلّه الرئيس قيس سعيّد في يوليو 2021 لتعليق البرلمان وإصدار المراسيم دون رقابةٍ دستورية.
ويُعزى سبب تأخّر إرساء المحكمة الدستورية في تونس إلى تداخل العوامل السياسية والقانونية منذ اعتماد دستور 2014. فالتجاذبات الحزبية داخل البرلمان حالت دون التوافق على تعيين أعضائها الاثني عشر. إذ يتطلّب الاختيار أغلبية الثلثين، وهي نسبةٌ تَعذَّر بلوغها في ظلّ الانقسامات المستمرة.
تنازعت مثلاً حركة النهضة وخصومها بشأن الأسماء المرشحة لعضوية المحكمة. واتُّهمت الحركة بالسعي إلى فرض شخصياتٍ قريبةٍ منها لضمان نفوذٍ داخلها. حسب ما صرحت النائبة عن حزب "آفاق تونس" ريم محجوب في يوليو 2019، فالنهضة حاولت فرض مرشحها العياشي الهمامي، أو التهديد بعرقلة إرساء المحكمة الدستورية. رفضت الكتل المعارضة ذلك بدعوى أن المحكمة يجب أن تكون محايدةً تماماً. وهكذا تحوّلت عملية التعيين إلى رهانٍ سياسيٍّ سعى من خلاله كلُّ حزبٍ إلى ضمان نفوذه داخل المحكمة، ممّا أفشل محاولات التصويت المتكرّرة.
وفي محاولةٍ لتجاوز حالة الجمود التي عطّلت إرساء المحكمة الدستورية، صادق البرلمان التونسي في مارس 2021 على تعديل قانونها الأساسي، خافضاً نصاب التصويت المطلوب لانتخاب أعضائها من الثلثين إلى ثلاثة أخماسٍ، بهدف تسهيل التوافق بين الكتل البرلمانية. غير أن الرئيس قيس سعيّد رفض ختم القانون ونشره في الرائد الرسمي (الجريدة الرسمية)، إذ عَدَّ التعديلَ مخالفاً الدستورَ الذي ينصّ على إنشاء المحكمة في أجلٍ محدّدٍ لا يمكن تجاوزه.
ثم في أبريل 2025، أسقط مجلس النواب مشروع قانونٍ لتركيز المحكمة بعد سحب عددٍ من النواب توقيعاتهم من المقترح، قبل عرضه على الجلسة العامة. وقد قال أنصار النظام على مواقع التواصل الإجتماعي إن مشروع قانون إرساء المحكمة الدستورية انقلابٌ على مسار 25 يوليو 2021.
يعتقد الصحفي التونسي حمادي المعمري في مقالته في أبريل 2024 على "إندبندنت عربية" بعنوان "تأخر تشكيل المحكمة الدستورية"، أن الرئيس قيس سعيّد يفضّل عدم إرساء المحكمة خوفاً من أن تتحوّل إلى أداةٍ للرقابة على أعمال السلطة التنفيذية. وهو ما قد يقيّد سلطاتِه مباشرة.
هذه المخاوف تتقاطع مع التجاذبات السياسية في البرلمان. إذ سعت بعض الأطراف إلى تعطيل تشكيل المحكمة بالتأخير في التوافق على الأعضاء والإجراءات القانونية المعقدة اللازمة لذلك.
في حديثه مع الفراتس يرى خليل العربي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جنذوبة، أن عدم إرساء المحكمة الدستورية يعود إلى الخلل في الهندسة الدستورية التي أقرّها دستور 2014. فقد حاول هذا الدستور الجمعَ بين النظامَين البرلماني والرئاسي في صيغةٍ هجينةٍ أدّت إلى أزماتٍ متكرّرةٍ بين السلطتَين التنفيذية والتشريعية. ويضيف أن المنظومة الحزبية الفاسدة عمّقت الأزمة، إذ استُخدمت الصلاحيات الدستورية لتعطيل إنشاء المحكمة — كما فعل الرئيس قيس سعيّد حين رفض مشروع قانونها — في وقتٍ حال فيه توازن القوى داخل البرلمان دون تمرير أيّ تعديلٍ يسهّل انتخاب أعضائها.
ويشير العربي إلى أن غياب المحكمة جعل تأويل الدستور خاضعاً لمصالح كلّ سلطةٍ، ما زاد من غموض صلاحيات الرئيس والحكومة، وعمّق الخلافات في مؤسساتٍ مثل المجلس الأعلى للقضاء.
ويؤكد العربي أن إرساء المحكمة في المدى القريب يبدو مستبعداً، إذ لم تخصَّص لها اعتماداتٌ في قانون المالية لسنة 2026. وحتى إن أُنشئت، فإنها ستواجه تحدياتٍ كبيرةً بسبب تداخل السلطات وضعف استقلال القضاء، منوّهاً بأن تأخّر إحداثها دليلٌ على غياب الإرادة السياسية لإعطائها المكانة التي تستحقها في النظام المؤسسي.


انهار حلم الثورة التونسية في الحفاظ على المسار الديمقراطي بهيئاتٍ دستوريةٍ مستقلةٍ ومنتخبةٍ تراقب السلطات وتحميها من عودة الفساد والاستبداد. لكن ما حصل كان العكس. فقد شهدت هذه الهيئات إضعافاً مادياً وبنيوياً ممنهجاً منذ التنصيص عليها في دستور 2014، على مدى عشرة أعوامٍ، ما جعلها عاجزةً عن ممارسة دورها الرقابيّ وسمح بإعادة إنتاج منطق الانفراد بالقرار على حساب القوانين والدستور.
وكان وصول قيس سعيّد تتويجاً لإفشال مؤسسات الديمقراطية، إذ انقضّ على ما تبقّى منها وأنهاها تماماً، فأفرغ الديمقراطية من شكلها ومضمونها وتركها خواءً. وانتهت تجربة الهيئات الدستورية ركيزةً للفصل بين السلطات وضمانةً للحقوق والمساءلة، لتعود تونس إلى سيرة التسلّط الأولى. فتمدّدت السلطة في كلّ مفاصل الدولة في ظلّ غياب المحكمة الدستورية القادرة على البتّ في انحرافات الحكم والتلاعب بالقوانين، إلى جانب إضعاف الإعلام المستقل وتكميم أصوات المجتمع المدني.

اشترك في نشرتنا البريدية